العدد 143 -

السنة الثالثة عشرة – ذو الحجة 1419 هـ – نيسان 1999م

فريضة الحج

قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ). وقال تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) وقال تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) صدق الله العظيم.

 فرض الله الحج على المسلم المستطيع مرة في العمر، هي حجة الإسلام (ومن تطوّع خيراً فهو خير له) (ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم)*، والحج عبادة صرفة، وكل نسك من مناسكها يدل على أن الله تعبّد بها عباده، يستشعر معها المسلم عبوديته للخالق الجبّار. والحج فرض على التراخي في أصحّ الأقوال، فمن صار مستطيعاً ليس عليه أن يقوم بالفريضة في الحال، فإن تأخر فلا يعتبر آثماً، ولا يعتبر أداؤه الفريضة على التراخي قضاءً لفرض سبق أن وجب بحقه. والحج عبادة بدنية ومالية، على خلاف الزكاة التي هي عبادة مالية، وعلى خلاف الصلاة التي هي عبادة بدنية، ولهذا فإن في الحج تكاليف بدنية مثل الطواف والسعي والوقوف بعرفة ورمي الجمار، كما أن فيها تكاليف مالية كنفقات السفر والإقامة في الحجاز، وثمن الهدي وغيره.

والحاج يستجيب لنداء أبينا إبراهيم الذي أمره الله وولدَه إسماعيل أن يرفعا القواعد من البيت الحرام، أول بيت وضع للناس. قال تعالى: (وإذ يرفع إبراهيمُ القواعدَ من البيت وإسماعيلُ). وكان سيدنا إبراهيم قد أسكن ولده إسماعيل وأمه عند البيت الحرام، في بقعة لا ماء فيها ولا زرع، فسألته أم إسماعيل: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء، وألحّت عليه في السؤال فلم يلتفت إليها، فسألته: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم؛ قالت: إذاً لا يضيّعنا، حتى إذا توارى عنهما توجه إلى البيت ودعا ربه: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون)* فقلوب المؤمنين في أنحاء المعمورة تهفو إلى البيت الحرام يعظّمونه ويبتهلون إلى الله أن يزيده شرفاً وتعظيماً، كما أن الخيرات التي يشاهدها الحاج في مكة المكرمة في موسم الحج لا تكاد تُصدق لكثرتها وتنوعها وتنوع مصادرها، فتجلب إلى مكة الطيبات والخيرات والثمرات بشكل كثير يفيض في الغالب على حاجة ضيوف الرحمن؛ كما أخرج الله الماء في موضع زمزم لإسماعيل وأمه، وقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن الملك الذي أخرج لها الماء قال لها: «لا تخافي الضَّيْعة فإن ها هنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإنّ الله لا يضيّع أهله.».

ولما فرغ إبراهيم عليه السلام، من بناء البيت أوحى إليه ربُّه أن أذّن في الناس بالحج، قال: يا ربّ، وما يبلغ صوتي؟ قال: أذّن وعليّ الإبلاغ، فصعد خليل الرحمن جبل أبي قُبيس وصاح: يا أيها الناس، إنّ الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة، ويجيركم من عذاب النار، فحُجّوا، فأجابه من كان في أصلاب الرجال، وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك، قاله ابن عباس وابن جبير، وكان ذلك أصل التلبية.

وأشهر الحج هي: شوال، وذو القعدة، وعشـرة أيـام مـن ذي الحجة، وليس ذو الحجة كله إذ يقال عن بعض الشهر أنه الشهر، كما يقال عن بعض اليوم أنه اليوم، ويكره الإحرام بالحج قبل شهر شوال، ويكون إحراماً بالعمرة وليس إحراماً بالحج، ويجب تجديد الإحرام في أشهر الحج الثلاثة.

ويجب الحج على المسلم المستطيع رجلاً أو امرأة، أما الطفل فإن حجّ وهو صغير فلا تسقط عنه حجة الإسلام، ويجب عليه الحج إذا بلغ وكان مسـتطيعاً، وكذلك العبد يؤدي الفريضـة إذا أصبح حراً مستطيعاً.

والاستطاعة تعني القدرة الجسدية على أداء الشعائر بنفسه أو وكالة، فمن استطاع الطواف والسعي بين الصفا والمروة بنفسه قام بها، ومن لم يستطع أن يقوم إلاّ محمولاً كان له ذلك، ومن استطاع النحر بنفسه، ذبح الهدي بيده، ومن لم يستطع وكّل من يقوم بالذبح عنه، ومن لم يقدر على رمي الجمار، وكّل عنه من يرمي الجمار جميعاً. أما الوقوف بعرفة، فهو مكلف به شخصياً ولا يستطيع أن ينيب عنه. ومن لم يستطع أن يصل إلى الديار الحجازية أو إلى الشعائر، وكان مستطيعاً من الناحية المالية، فإنه يستأجر من يحج عنه، شرط أن يكون المستأجر سبق أن حجَّ عن نفسه، فينوي عن الذي استأجره عند الإحرام.

كما تتضمن الاستطاعة القدرة المالية، أي أن يكون عنده الزاد والراحلة في الذهاب والإياب وان يخلّف لمن تجب عليه إعالتهم ما يكفيهم طيلة غيابه عنهم. كما تتضمن أن يكون مأذوناً له من والديه إن لم يكن هناك من يرعاهما سواه، وأن يأذن له صاحب الدين إن كان مديناً، وأن يأذن للزوجة زوجها، وإلاّ فلا يعتبر مستطيعاً.

وعبادة الحج فيها أركان وواجبات وسنن، فعدم القيام بركن يبطل الحج، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «الحج عرفة» فمن لا يقف بعرفة لا حج له، لأن الوقوف بعرفة ركن من أركان الفريضة. وكذلك الإحرام ركن. أما الواجبات فإنها تُجبر بدم أو صدقة أو صيام، مثل المبيت بمنى ليلتي التشريق، ورمي الجمار، وأما سنن الحج فهي آدابه ومكملاته من مثل أن يصلي الظهر بمنى بعد طواف الإفاضة، ويستحب للحاج أن يغتسل قبل رمي الجمار في كل يوم.

ولا بد من التذكير أخيراً بما يجري من صدٍّ عن المسجد الحرام، والذي تمارسه حكومات المسلمين. قال تعالى: (إن الذين كفروا ويصدّون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يُرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ نُذقه من عذاب أليم )*، فتحديد نسبة معينة للمسموح لهم بالحج من كل بلد وهي نسبة واحد بالألف، هذا صد عن سبيل الله، ففيه منع لمسلمين يريدون أن يؤدوا الفريضة الواجبة عليهم، وتحديد سن معيّن للمسموح له بأداء فريضة الحج أيضاً صَدٌّ عن المسجد الحرام، كما أنّ إلزام الناس بالسفر عن طريق الجو فقط دون السفر بالسيارات أيضاً فيه تضييق على الناس وحرمان للفقراء الذين لا يملكون أجرة السفر جواً من أن ينعموا بأداء شعائر الحج، كما أنّ فرض رسوم على الحجاج من مثل رسوم التأشيرة، والطواف والنقليات هو أخذ لمال الناس بدون وجه حق، وهو نوع من الصّد عن المسجد الحرام.

بقي أن نذكّر أن المسجد الحرام هو أول بيت وضع للناس وأن من دخله كان آمناً، ويجب أن يشعر الحجاج بالأمن والأمان داخل الحرم الآمن، ومكة كلها حرم، ولكن ما يجري من تفتيش للرجال والنساء على أبواب المسجد الحرام، منذ أحداث الحرم المعروفة عام 1979، ثم مراقبة الناس داخل المسجد الحرام، ومنع المسلمين من التداول في شؤونهم، أو منع القادرين على مخاطبة إخوانهم المسلمين في شؤون حجهم ودينهم، وما يهمهم، كل ذلك ظلم للمسلمين، وترويع لهم داخل الحرم الآمن قال تعالى عن المسجد الحرام: (ومن دخله كان آمناً)، ولهذا فإننا نهيب بإخواننا المسلمين أن يرفضوا هذه الإجراءات، وأن يضغطوا على حكوماتهم لعدم تنفيذها، ولرفع كل القيود والرسوم عن هذه الفريضة العبادية الربّـانية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *