العدد 145 -

السنة الثالثة عشرة – صفر 1420 هـ – حزيران 1999م

« ألا إن كل ربا موضوع »

                قال تعالى: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلاّ كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحلّ الله البيع وحرّم الربا) وقال تعالى: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون )* صدق الله العظيم.

هذه الآيات من سورة البقرة من أواخر ما نزل من القرآن الكريم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل هي آخر ما نزل من آيات الأحكام، وإن آخر ما نزل من الآيات قوله تعالى: (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يُظلمون )* وهي بين آيات الربا هذه وآية الدَيْن. وقد حرّم الله تعالى الربا كله بشكل قاطع في قوله تعالى: (وأحلّ الله البيع وحرّم الربا) وبيّنت الآية الثالثة كيفية التخلص من العقود الربوية، بأن لآكل الربا رأس ماله لا زيادة ولا نقصان: (فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون )*. وفي حجة الوداع أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا التحريم على ملأٍ من الصحابة والمسلمين حين قال صلى الله عليه وسلم: «ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون.». والربا صنفان: ربا النسيئة، وربا الفضل، وكلاهما حرام. فالعرب في الجاهلية كانت إذا حلّ دَيْنها تقول للغريم: إما أن تقضي، وإما أن تُربي. أي تزيد في الدين لتأخير أجل الاستحقاق، وهذا هو ربا النسيئة. أما ربا الفضل، فقد روى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبُـرّ بالبُرّ، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مِثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» ففي هذه الأصناف الستة يشترط التقابض والتماثل، فإن اختلف الصنفان، فالتقابض فرض، والتماثل ليس فرضاً. وهذا الحكم في هذه الأصناف الستة ليس معللاً، لا بكونها مكيلة أو موزونة، ولا بكونها طعاماً، لأن النص لا يفهم منه العلية، ولهذا لا يقاس عليها.

                فحرمة الربا معلومة من الدين بالضرورة، ولا يماري فيها مسلم، ففي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الحلال بَيّن، والحرام بيّن وبينهما أمورٌ مشتبهات …» الحديث. إلاّ أنه وجد مؤخراً من يفتي للمسلمين أن يقترضوا من البنوك الربوية في دول الغرب الرأسمالية بحجة الضرورة، وبأنهم أقليات، وبالموازنة بين المصالح، وبأن أبا حنيفة أباح الربا في دار الحرب. مع أن هؤلاء يحاولون إنكار تقسيم الدور إلى دار حرب ودار إسلام، بل يذهبون إلى أبعد من هذا فيحاولون إيهام المسلمين أن جميع الكفار ومنهم اليهود والنصارى هم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويقسمون الأمة إلى نوعين: أمة دعوة وأمة إجابة؛ فكل الناس  عندهم من القسم الأول، أما القسم الثاني فمقصور على المسلمين. وفي ذلك تجنٍّ على أبي حنيفة.

                فأبو حنيفة ومحمد أباحا أن يأكل المسلم مال الحربي عن طريق ما سمياه «بيع الدرهم بالدرهمين»، أي أن يدفع المسلم درهماً ويأخذ مقابله درهمين من الحربي صرفاً لا أن يدفع المسلم ربا إلى الكفار. وحجتهما في ذلك أن مال الحربي غير معصوم، بل هو مباح، فإذا حازه المسلم دون غدر برضاهم فقد ملكه، وهذا في دار الحرب؛ واحتجا أيضاً بحديث مكحول المرسل: «لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب»؛ واحتجوا لهما بمخاطرة أبي بكر لقريش في غلبة الروم وبمصارعة الرسول صلى الله عليه وسلم لركانة وبربا العباس. وفيما يلي أقوال بعض السادة الأحناف في ذلك:

 l           الكمال بن الهمام في شرح فتح القدير على الهداية: [فلو باع مسلم دخل إليهم مستأمناً درهماً بدرهمين حل، وكذا إذا باع منهم ميتة أو خنـزيراً أو قامرهم وأخذ المال يحل.] … ولأبي حنيفة ومحمد ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب» وهذا الحديث غريب … قال الشافعي قال أبو يوسف إنما قال أبو حنيفة هذا لأن بعض المشيخة حدثنا عن مكحول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ربا بين أهل الحرب» أظنه قال: «وأهل الإسلام»؛ قال الشافعي: وهذا الحديث ليس بثابت ولا حجة فيه أسنده عنه البيهقي. قال في المبسوط: هذا مرسل ومكحول ثقة، والمرسل من مثله مقبول، ولأن أبا بكر قبل الهجرة حين أنزل الله تعالى: (ألم غلبت الروم) الآية، قالت له قريش: ترون أن الروم تغلب؟. قال: نعم. فقالوا: هل لك أن تخاطرنا؟، فخاطرهم؛ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذهب إليهم فزد في الخطر»›ففعل. وغلبت الروم فارساً فأخذ أبو بكر خطره، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو القمار بعينه بين أبي بكر ومشركي مكة، وكانت مكة دار شرك. ولأن مالهم مباح وإطلاق النصوص في مال محظور. وإنما يحرم على المسلم إذا كان بطريق الغدر، فإذا لم يأخذ غدراً فبأي طريق يأخذه حل بعد كونه برضى … ومال الحربي ليس محظوراً إلا لتوقي الغدر، وهذا التقرير في التحقيق يقتضي أنه لو لم يرد خبر مكحول أجازه النظر المذكور أعني كون ماله مباحاً إلا لعارض لزوم الغدر. إلا أنه لا يخفى أنه إنما يقتضي حل مباشرة العقد إذا كانت الزيادة ينالها المسلم، والربا أعم من ذلك إذ يشمل ما إذا كان الدرهمان من جهة المسلم ومن جهة الكافر وجواب المسألة بالحل عام في الوجهين وكذا القمار قد يفضي إلى أن يكون مال الخطر للكافر بأن يكون الغلب له. فالظاهر أن الإباحة تفيد نيل المسلم الزيادة وقد التزم الأصحاب في الدرس أن مرادهم من حل الربا والقمار ما إذا حصلت الزيادة للمسلم نظراً إلى العلة وإن كان إطلاق الجواب خلافه والله تعالى أعلم بالصواب].

 l           السرخسي في المبسوط: [ذكر عن مكحول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:‹«لا ربا بين المسلمين وبين أهل دار الحرب في دار الحرب» وهذا الحديث وإن كان مرسلاً فمكحول فقيه ثقة والمرسل من مثله مقبول، وهو دليل لأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله في جواز بيع المسلم الدرهم بالدرهمين من الحربي في دار الحرب … وحجتنا في ذلك ما روينا وما ذكر عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: «كل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع وأول رباً يوضع ربا العباس بن عبد المطلب» وهذا لأن العباس رضي الله عنه بعد ما أسلم رجع إلى مكة وكان يربي وكان يخفي فعله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فما لم ينهه عنه دل على أن ذلك جائز، وإنما جعل الموضوع من ذلك ما لم يقبض حتى جاء الفتح وبه نقول، وفيه نزل قوله تعالى: (وذروا ما بقي من الربا) … ولقي رسـول الله صلى الله عليه وسلم ركانة بأعلى مكة فقال له ركانة: هل لك أن تصارعني على ثلث غنمي؟. فقال صلوات الله عليه نعم، وصارعه فصرعه الحديث، إلى أن أخذ منه جميع غنمه ثم ردها عليه تكرماً، وهذا دليل على جواز مثله في دار الحرب بين المسلم والحربي، وهذا لأن مال الحربي مباح ولكن المسلم بالاستئمان ضمن لهم أن لا يخونهم، وأن لا يأخذ منهم شيئاً إلا بطيبة أنفسهم، فهو يتحرز عن الغدر بهذه الأسباب، ثم يتملك المال عليهم بالأخذ لا بهذه الأسباب، وهذا لأن فعل المسلم يجب حمله على أحسن الوجوه ما أمكن وأحسن الوجوه ما قلنا. والعراقيون يعبرون عن هذا الكلام ويقولون: حلٌ لنا دماؤهم، طِلقٌ لنا أموالهم، فما عدا غدر الأمان يُضرب سبعاً في ثمان].

            والذي يبدو لي أن أبا حنيفة ومحمداً إنما أباحا أن يأكل المسلم الربا في دار الحرب لا أن يؤكله، إذ كل الأدلة  الواردة في النقول السابقة تؤيد هذا الفهم. والذي نرجحه أن الربا حرام، حتى مع الكفار، وفي دار الحرب. فهو من العقود الباطلة، ولا يحل لمسلم أن يكون طرفاً في عقد باطل، أما عقود الكفار فيما بينهم، وفي دار الحرب فهي معتبرة، وتترتب عليها حقوق والتزامات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *