العدد 252 -

العدد 252- السنة الثانية والعشرون، محرم 1429هـ، الموافق كانون الثاني 2008م

مع القرآن الكريم: إقامة الدين واجب الأمة كلها

مع القرآن الكريم:

إقامة الدين واجب الأمة كلها

 

الدين عبارة عن عدة معان عالية، فهو الطاعة والعبادة والخضوع، وهو كالمِلة، لكن يقال اعتباراً بالطاعة والانقياد.

ودين الرسل: اسم جامع لكل ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ربه من أوامر ونواه وإرشادات في العقائد والعبادات والشعائر، وفي المعاملات والشرائع، وفي السلوك والأخلاق، ومعنى هذا أنه يشمل كل ما ارتضاه الله للناس شرعةً ومنهاجاً.

وإقامة الدين بهذا المعنى، مقصد أساسي من مقاصد الحكم في الإسلام. فالحاكم الأول، أو الإمام الأعظم، وكل من يلي عنه أمراً مخاطب ومكلف ومسؤول عن إيقاف الناس على جادة طريق الدين، والأمة توكل إليهم القيام بهذا فيما يخصهم. وكان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يقول: «إنما بعثت عمالي إليكم ليعلموكم كتاب الله وسنة نبيكم ويقسموا بينكم فيئكم»… فإذا اجتهد الراعي في إصلاح دينهم ودنياهم بحسب الإمكان، كان من أفضل أهل زمانه».

والأمر الذي لا جدال فيه أنه لا يمكن في عالم الواقع أن يتحقق هدف إقامة الدين في دنيا الناس دون حكومة إسلامية تكدح من أجل الوصول إليه، وتسهر في سبيل المحافظة عليه. وهذا هو السر في أن الإسلام جعل الإمامة خلافة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في إقامة الدين وسياسة الدنيا به.

فوظيفة إقامة الدين هي إحدى مهام الرسالة كما قال تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) [الصف 9] ومعنى الآية: «إن الله تعالى أرسل محمداً عليه الصلاة والسلام بالهدى الذي هو القرآن، وبدين الحق الذي هو الإسلام، ليظهر الله الدين الذي جاء به الرسول، أو ليظهر الرسول الدين الذي أرسله الله به على أهل الأديان كلهم».

وأئمة المسلمين وحكامهم، هم خلفاء الرسول في ذلك، ومن خلال إقامتهم لحكم الله في الناس، لا بد وأن يقيموا دين الله في الأرض، إذ الدين والحكم صنوان، وقد سمى الله تعالى في كتابه الحكم ديناً فقال عن يوسف عليه السلام ( مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) [يوسف 76]. «أي لم يكن له أخذه في حكم ملك مصر».

ونحن مطالبون بشكل عام بأن ننصر دين الله ونقيمه، ولسنا على شيء ما لم نقمه، والله تعالى يقول لأهل الكتاب: ( قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) [المائدة 68].

فعلى المسلم أن يعلم «أن المسلمين لا يكونون على شيء يعتد به من أمر الدين حتى يقيموا القرآن. وما أنزل إليهم من ربهم فيه ويهتدوا بهدايته، فحجة الله على جميع عباده واحدة». وإن ادعاء الإيمان، أو حب الله والرسول، دون نصر الدين بالعمل لإقامته، لهو من الدعاوى العريضة التي يسأل عنها المرء ويحاسب. وقد ربط الله في القرآن كثيراً بين نصرة الدين وبين الإيمان. فقال سبحانه: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ) [محمد 7]. وقال: ( فَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [الأعراف 157]. وقال: ( وَالَّذِينَ ءَاوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ) [الأنفال 74]. وقال: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ ) [الصف 14].

فنصرة دين الإسلام والعمل لإقامته أمانة وميثاق، أخذه الله على كل مؤمن تصله دعوة الإسلام أو يصل إليها، قال تعالى: ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا ءَاتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) [آل عمران 81]. وقال تعالى: ( وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ) [الحديد 25]. وقال: ( وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ) [محمد 4].

ولهذا فإن من قام الدين على أكتافهم سُموا أنصاراً، فالحواريون نصروا دين المسيح عليه السلام وأجابوا دعوته لما قال: ( مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ( ) [الصف 14]. والذين قاموا لدين الله ناصرين باذلين المال والروح في عهد النبوة الخاتمة سموا أنصاراً، وسجل الله عنهم رضاه مع إخوانهم من المهاجرين فقال: ( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) [التوبة 100].

إن إقامة الدين في الناس هو واجب الجماعة الإسلامية كلها، وهو مسؤوليتها التي لا ينبغي أن تختلف عليها أو تتفرق في شأنها. قال تعالى: ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) [الشورى 13].

«ففي الآية إيذان بأن ما شرعه الله صادر عن كمال العلم والحكمة. ونسبة هذا الشرع إلى الأنبياء المذكورين تنبيه على كونه ديناً قويماً قديماً أجمع عليه الرسل. وتتوجه الآية بالخطاب إلى أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يقيموا هذا الدين ( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ) أي أقيموا دين الإسلام بأركانه، وسائر ما يكون الرجل به مؤمناً، والمراد بإقامته: تعديل أركانه وحفظه من أن يقع فيه زيغ والمواظبة عليه والتشمير له».

وهكذا تبين الآية أن هناك واجباً هو إقامة الدين في حياة الأمة كلها، فالخطاب في الآية متوجه لكل الأمة حتى تقوم بواجبها حيال الشريعة بتثبيت إقامتها إذا كانت قائمة، أو إقالتها من عثرتها إذا كانت معطلة «فكل من يؤمن بالله ورسوله ويدين دين الحق لا ينتهي عمله بأن يبذل المستطاع لإفراغ حياته في قالب الإسلام، ولا تبرأ ذمته من ذلك فحسب، بل يلزمه بمقتضى ذلك الإيمان أن يستنفد جميع قواه ومساعيه في انتزاع زمام الأمر من أيدي الكافرين والفجرة الظالمين، حتى يتسلمه رجال ذوو صلاح ممن يتقون الله ويرجون حسابه، ويقوم في الأرض ذلك النظام الحق المرضي عند الله الذي به صلاح أمور الدنيا وقوام شؤونها» أما أن يُطمئن الناس أنفسهم بأن الدين باق، وأن الله تكفل بحفظه، ملقين بذلك عن عواتقهم تبعة العمل لإقامة حكمه فهذه هي المغالطة، وهذا هو السير وراء السراب، فما يجدي بقاء الدين محفوظاً في الكتب، إذا كان منتهكاً ومهملاً في الواقع، «لقد جاء كل دين من عند الله لينفذ في دنيا الواقع، وليتبعه الناس في نشاطهم الحيوي كله، لا يبقى مجرد شعور وجداني قابع في ضمائرهم، ولا مجرد تهذيب روحي في أخلاقهم، ولا مجرد شعائر تعبدية في محاريبهم ومساجدهم، ولا مجرد أحوال شخصية في جانب واحد من جوانب حياتهم. قال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ) [النساء 64].

وعلى المسلمين أن يقيموا الخلافة التي تضطلع بمهمة إقامة الدين، إذا لم تكن قائمة، وأن يدعموها ويتبنوها إذا كانت قائمة، ففي قوتها قوة للدين، وفي ضعفها أو ضياعها ضياع للدين، وما لم توجد هذه الخلافة فتقوم بواجبها، فسيظل أمر الدين متوارياً في زوايا الإهمال، ومدرجاً على رفوف النسيان. يقوم محمد أسد -رحمه الله- «إن استعداد المجتمع للتعاون وفق مبادئ الإسلام لتحقيق غايته، سوف يظل استعداداً نظرياً ما لم تكن هناك خلافة مسؤولة عن تطبيق الشريعة الإسلامية ومنع الخروج عليها… ومثل هذه المهمة لابد لها من أن توسد إلى مرجع له من السلطة ما يتيح له الأمر والنهي» وهو الخليفة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *