العدد 147 -

السنة الثالثة عشرة – ربيع الثاني 1420هـ – آب 1999م

كلمة الوعي: الدولة ليست حزباً، والأحزاب ليست بديلاً عن الدولة

أصبح واضحاً أن الأمة الإسلامية في شتى أقطارها، تتطلع بشوق إلى بناء دولتها الإسلامية، وتحركت وتتحرك في أكثر من بلد من بلدانها، بشكل جدي وعملي، لإيجاد هذه الدولة واقعاً عملاقاً في الحياة الدولية. والمفروض في الحركات الإسلامية الجذرية، أن يكون في رأس اهتماماتها إعلان هذه الدولة، وأن يكون المنطلق في تأسيس هذه الحركات، هو استهداف تحقيق هذه الغاية العظيمة. ولهذا فمن المسلّم به أن يكون هناك فصل واضح بين كيفية بناء الحركة، وكيفية بناء الدولة، وتحديد حاسم بين عمل الدولة وعمل الحركة. ولكن، للأسف، نحس أن هذا التمايز بين الدولة والحركة ليس مدركاً، وبالتالي يجري قياس بناء الدولة على بناء الحركة، فيحصل الضياع، وتختلط الأعمال، وتتشابك الأهداف.

فهناك من يقولون إن استهداف الحكم غير جائز شرعاً، لأن النصر والاستخلاف والتمكين في الأرض مِنّة من الله تبارك وتعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) ، وان حمل الدعوة يجب أن يستهدف نوال رضوان الله، وإن استهدف غاية غير ذلك كان ذلك نوعاً من الشرك، فقد رتب الله الوعد للمؤمنين بالتمكين والاستخلاف على عبادته وحده وعدم الإشراك به: (يعبدونني لا يشركون بي شيئاً).

وهناك من يعملون على إيجاد نواة دولة من حركتهم، لها أجهزة الدولة ومؤسساتها، وتقوم برعاية شؤون أعضائها، ومن يرغب من المسلمين، ويأملون أن تكون هذه الدولة «الظل» بديلاً للدولة القائمة، فتخضعها لها، وهؤلاء ينعزلون عن الناس، ولا يشاركون في الحياة العامة لا اقتصادياً ولا ثقافياً ولا اجتماعياً، ولا يتحاكمون إلى المحاكم القائمة، ويقولون بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هاجر بأصحابه إلى المدينة المنورة، حيث أقام مجتمعاً مسلما وبنى دولة مسلمة، ثم عاد إلى مكة فاتحاً، فقهر الدولة المتمثلة في قريش وألحقها بدولته.

وهناك من يعملون ويخططون من أجل أن يصبح جميع موظفي الدولة من مدنيين وعسكريين أعضاء في الحركة، ويعلنون أن الدولة الإسلامية لا يمكن أن تقوم وأن تستمر إلاّ أن يكون أعضاء الحركة يحتلون كل المناصب، من رأس الدولة إلى أصغر حاجب في أصغر مؤسسة من مؤسسات الدولة، ولهذا يحاولون تسريب عناصرهم إلى وظائف الدولة، وإذا استلم أحدهم مركزاً مرموقاً، جاء بمن يستطيع من حركته ليتسلموا ما أمكن من الوظائف، وبغير ذلك لا تقوم دولة، ولا يتغير الحال. ويحضرني في هذا المقام مقال قرأته قبل بضع عشرة سنة في مجلة «الحوادث» اللبنانية بقلم الكاتب المصري جلال كشك، وفيه أن أعضاء الجهاز الخاص في جماعة الإخوان في مصر عرضوا على القائد المؤسس المرحوم حسن البنا، تسلّم الحكم في مصر، وأن الظروف مواتية لذلك، فطلب منهم أن يضعوا برامج للإذاعة المصـرية لمدة أسـبوع، ولما عجزوا عن ذلك، قال لهم

 

إننا حين نتمكن من وضع برامج إسلامية للإذاعة نأخذ الحكم، وطوي الأمر، وما زال مطوياً.

وهنا تبرز خطورة عدم التفريق بين بناء الحركة وبناء الدولة. فالكتلة تبنى من أفراد، يجري بلورة عقائدهم، وإصلاح مفاهيمهم، وصقل عقلياتهم، وتهذيب نفسياتهم، وذلك بالتثقيف المركز، والرعاية المتواصلة، حتى إذا أصبح مؤهلاً للاندماج في البناء التنظيمي، وذلك بعد تمحيصه بالتكاليف، وملاحظة مدى استعداده للتضحية، جرى ربطه بالطريقة المعتمدة. وهذه عملية  تثقيفية بحتة، وبالتالي تحتاج إلى عناية ومثابرة ووقت، فلا يمكن حرق المراحل في عملية البناء التنظيمي، لأن ذلك يؤدي إلى خلخلة التنظيم، وربما انهياره، وفي جميع الأحوال، لا يستطيع تنظيم كهذا أن يحقق الغاية التي وجد من أجلها.

والكتلة المنظمة، حركة كانت أم جماعة أم حزباً، تعتمد في القيام بأعمالها على أعضائها فقط، وربما ساعدها في بعض الأعمال المناصرون والمؤيدون والموالون، وهي تأمل أن يقوم جميع أبناء أمتها معها ببعض أعمالها، لأن ذلك، إن تحقق، يعني أن الناس منقادون لها بأبدانهم فضلاً عن انقيادهم لأفكارها، وهو ما تطمح إليه أية حركة تعتمد على ناسها وأمتها لتحقيق أهدافها.

أما بناء الدولة، فهو في جزء منه، عملية فكرية دعوية، وفي الجزء الآخر منه، عملية فنية مادية. فبالنسبة لتهيئة الأمة، من أجل القبول بالدولة الموعودة، والرضا بأحكامها وتشريعاتها، والاستعداد للدفاع عنها داخلياً وخارجياً، فهذا عمل دعوة، وعملية تثقيفية تتولاها الحركة، بالنشر الواسع، والتثقيف الجماعي، وهي عملية متواصلة، بعد قيام الدولة كما قبل إعلانها، وإن كانت الأساليب والوسائل تتسع وتتعدد بعد القيام.

والدولة ليست دولة حزب، وليست حزباً، وليست دولة فئة، وهي تحارب الفئوية، وأي مظهر من مظاهر التشرذم والتفتيت، على أساس ديني أو مذهبي، أو عرقي أو مناطقي. وهي تفجر طاقات الناس كلهم، وتسخرها كلها في عملية التنمية والبناء، وفي القيام بالأعمال والوظائف، وفي قضاء المصالح، وحماية البلاد والعباد، وحمل رسالة الإسلام بالدعوة، والدعاية والجهاد. ولذلك تستخدم كل الناس، مسلمهم وكافرهم (فيما لا يشترط فيه الإسلام)، برهم وفاجرهم. والدولة القوية هي التي تستثمر طاقات شعوبها جميعاً، لا أن تقوم هي عنهم بما هو من اختصاصهم، وأن تقوم هي فقط بما لا يصح أن يقوم به إلاّ الدولة، وأن تترك الناس ومبادراتهم الفردية والجماعية، لأن في ذلك استثماراً لطاقات أوسع بكثير من طاقة الدولة. فالدولة هي التي تضع الخطط والبرامج، وتشرف على تنفيذها وحسن أدائها، والناس هم الذين ينفذون، فللدولة أجهزتها ومؤسساتها، وهي تتولى التخطيط والإشراف، وتحديد الأهداف، ومدى صلاحية الخطط والبرامج لتحقيق الأهداف المرجوة، ومن يخرج عن المرسوم والمخطط يحاسب مهما كان مركزه. «والله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».

ويجب أن تكون ركائز الدولة قوية صلبة، موثوقة ومأمونة، ويجب الحذر أن تتسلل عناصر غير كفؤة، أو غير مخلصة، أو غير مستوعبة لاستراتيجية الدولة وتطلعاتها، إلى المراكز الحساسة، لأن في ذلك هدمَ الدولة، أو تحويلها عن مسارها، كما حصل في الاتحاد السوفياتي في عهد غورباتشوف.

أما الاسـتعانة بغير الأكفاء أو غير المأمونين في الأعمال جميعاً، فلا ضـرر منه، ما دام التسيير

 

بحسب المخطط والمرسوم. فقد روت لنا كتب السيرة، أنه كان في جيش العسرة منافقون، وأن أبا بكر كان يعرف واحداً منهم لم يكن مقتنعاً بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وحين اشتد على المسلمين البلاء، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربّه، فجاءت سحابة أمطرتهم، فشربوا وسقوا دوابهم، وغسلوا حوائجهم، واغتسلوا، وملأوا قربهم، فتوجه أبو بكر رضي الله عنه إلى المنافق قائلاً: ألا يكفيك هذا شهادةً على أنه رسول الله، فأجابه الأعرابي المنافق: نحن أبناء الصحراء، وإنها سحابة صيف. وبالقطع، لم يكن جيش العسرة على هذه الشاكلة، ولم يكن أمثاله، يقودون الجيش، أو يرسمون خططه. وعلى ذلك، فإنه يجوز أن يستخدم كل الناس في كل المواقع غير القيادية أو الهامة أو المفصلية.

والأصل في الحركة المخلصة الواعية، أن لا تضحي بعناصرها النشيطين المبدعين، بإلحاقهم بمراكز الدولة، لأن ذلك على حساب الحركة، وعلى حساب دورها المركزي بين أبناء أمتها. لأن مراكز الدولة تستهلك الأفراد، فمن كان حريصاً على المحافظة على قدراته الفكرية والحركية، فليبتعد عن وظائف الدولة، وليلتصق بالناس، لأن ذلك أفعل وأفضل. كما أن على الحركة أن لا تضع أعضاءها على رقاب الناس، لأن ذلك يُشعرهم بالتمايز عن الناس، ويورث في نفوسهم الاستعلاء والكبر، وبالتالي يضعف ثقة الناس بهم وبحركتهم. وحين أخرج عبد الرحمن بن عوف نفسه من المرشحين للخلافة، من أهل الشورى الستة، الذين عهد إليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن يختاروا خليفة منهم، قال لعثمان بن عفان رضي الله عنه: إن صار الأمر إليك، فلا تجعل بني أمية على رقاب المسلمين، كما قال لعلي بن أبي طالب: إن صار الأمر إليك، فلا تجعل بني هاشم على رقاب المسلمين.

أما الجزء الفني من بناء الدولة، فهو المتعلق بعملية تسلّم السلطة. وهذه عملية فنية مادية بحتة، بعد أن تحدّد الأساس العقيدي، والطريق الشرعي، ويؤخذ فيه برأي الخبراء، ويستقرأ فيه الواقع، وتحشد القوى المادية، وتستنهض أسمى القيم عند الناس، وتشحذ الهمم، ويُستصرخ ذوو النخوة والبأس والنجدة، وتحشد كل الطاقات، ويدرس واقع القوى المضادة، والدول العدوة، ويعمل على الالتفاف عليها، وتطييش سهامها، وإشغالها في نفسها ومشاكلها، ويستأنس بالأعمال المثمرة القديمة والحديثة. ولا بد هنا من التنبيه إلى ملاحظتين:

الأولى: وجوب تحديد مراكز القوة التي يستند إليها النظام بشكل دقيق، من أجل تحويل ولائها وبالتالي إسنادها، إلى إسناد الدولة الفتية الوليدة، وبالتالي لدعم مشروع الأمة الحضاري والسياسي، أو إضعاف قدرتها على إسناد النظام القائم، وفي كلٍ خير.

الثانية: إن أي تغيير مخلص في أية دولة في المنطقة، يعني أنك تسحب هذه الدولة من النظام الأمني والسياسي الذي يظلل المنطقة. والذي تتصارع عليه إسرائيل وأميركا، ولهذا يجب أن لا يكون التخطيط قطرياً، وإنما تخطيطاً للمنطقة ككل، وأن لا يكون المشروع مبنياً على نظرة قطرية أو حتى إقليمية، وإنما هو يشمل الأمة كلها، وهنا مكمن القوة على المدى القصير والأبعد.

ولكلٍ دوره في هذا المشروع الحضاري للأمة، والمهم أن يعرف كلٌ دوره، وأن يقوم به، ضمن منظور متكامل هادف، (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *