العدد 149 -

السنة الثالثة عشرة – جمادى الآخرة 1420هـ – تشرين الأول 1999م

( إنِ الحـكـم إلاّ للـه )

            يقول الله تعالى: (إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين ) ، ويقول عز من قائل: (ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين ) ، ويقول، وهو أصدق القائلين: (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين )  ويقول جلت قدرته: (إن الحكم إلاّ لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه) ويقول جل وعلا: (إن الحكم إلاّ لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون )  ويقول تبارك وتعالى: (فالحكم لله العلي الكبير)، ويقول رب العرش العظيم: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) صدق الله العظيم.

الله خالق كل شيء، وهو مالك الملك، ولا يحدث في ملكه شيء إلا بإذنه، ولذلك فحكمه وأمره هما اللذان يجب أن ينفذا في كل شيء، ولا يصح أن يكون الناس إلا عباداً لخالقهم العلي القدير، ولا أن يحتكموا إلا لربهم العزيز الحكيم؛ (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)، فالله هو الحاكم، والحاكمية لله وحده، ولا يصح بعد هذا اليقين أن يُحتكم إلى غير الله ورسوله في الكتاب الكريم والسنة المطهرة. ولهذا يثبت علماء الأصول أن لا حكم قبل ورود الشرع، فالشارع هو الذي يصف الأشياء والأفعال بالحسن والقبح، لأن هذين الوصفين ليسا نابعين من ذات الأشياء والأفعال، وإنما هما وصفان خارجان عن ذاتهما، أي ليس الحسن والقبح، كالنعومة والخشونة يمكن إدراكهما عن طريق اللمس، أو كالسخونة والبرودة يتعرف إليهما عن طريق الحواس، وإنما هما وصفان يتعلق بهما الثواب والعقاب، ولذلك كان الذي يحق له هذا الحكم هو خالق الأشياء والإنسان، وهو (مالك يوم الدين)، الذي بيده الثواب والعقاب، ويقضي ويفصل بين الناس.

                ولهذا، لا يكتمل إيمان المسلم بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، إلا أن يحكّم الله ورسوله في كل شأنه: (فلا وربّـك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم)، وإلاّ أن يتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأن يبرأ من أعداء الله ورسوله: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى)، ويقول تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله)، وبغير ذلك يتخذ أرباباً من دون الله، ويتخذ أنداداً من دون الله، ويتخذ أولياء من دون الله ورسوله والمؤمنين: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)، فمن أفتاك بمخالفة الله، وأطعته في فتواه، فقد اتخذته رباً من دون الله. سئل حذيفة بن اليمان عن قول الله عز وجل: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) هل عبدوهم؟ فقال: لا، ولكن أحلّوا لهم الحرام فاستحلوه، وحرّموا عليهم الحلال فحرّموه. وروى الترمذي عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وسمعته يقرأ في سورة «براءة»: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) ثم قال: «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلّوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرّموا عليهم شيئاً حرّموه».

                وكل ما يبعدك عن دين الإسلام، والالتزام بالحكم الشرعي، من أهل أو مسكن أو عشيرة أو مال، فهو ند لله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله)، ويقول تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره)، وكل ما قصدته بشيء من جلب خير أو دفع ضر، فأنت متخذه ألهاً: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)، وكل من عُبد من دون الله أو رُشّح للعبادة من دون الله، وهو راضٍ، فهو طاغوت: (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت)، ويقول تعالى: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها).

                ويجب أن يكون إفراد الله بالحاكمية، كإفراده جلّ وعلا بالخلق، ولا يصح أن يكون أحدهما أقل يقينية من الآخر، فالله تعالى يقول: (ألا له الخلق والأمر). فكما أنه الخالق، فهو أيضاً الآمر الناهي، فأمره بين العباد وكذلك نهيه: (يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه). والذين يؤمنون بفصل الدين عن الحياة، يُفردون الله بالخلق، ويقرّون بأنه خالق كل شيء، ومالك الملك، ولكنهم لا يحتكمون إلى الله في شؤون حياتهم، أي إنهم يقرّون من أنفسهم العجز والاحتياج والنقص في موضوع الإيجاد من عدم، ولكنهم لا يُحسّون من أنفسهم العجز عن تشريع الأحكام لتدبير شؤون حياتهم، أي ينصبّون من المخلوقات أرباباً يشرعون لهم، وبذلك يكون لسان حالهم: ألا له الخلق، ولنا الأمر.

                واستقرار هذه الحقيقة، حقيقة أن الحكم لله وحده، في نفس المؤمن، ينير له الطريق، ويحدّد معالمه، فلا يلتفت يمنة أو يسرة، باحثاً عن الأحكام والحلول والمعالجات، ويسكب في نفسه الطمأنينة إلى طريقه، والثقة بمواقع خطواته، فلا يتشكك ولا يتردد ولا يحتار، ويعتقد جازماً أن الله راعيه وحاميه ومسدّد خطاه، فهو بمقدار يقينه بصدق توجهه، متيقن بفساد التوجهات الأخرى، وعدم صلاحية المعالجات والآراء المغايرة لما هو عليه من صدق يقين.

                وبذلك تكون المرجعية الوحيدة هي الشرع، ولا شيء سوى الشرع، من عقل أو دساتير وقوانين وضعية، أو مواثيق إقليمية أو دولية، والسيادة للشرع وليست للشعب، والأحكام تصدر باسم الله وليس باسم الشعب أو الحاكم، وتتمثل سيادة الشرع في محكمة المظالم، التي هي أعلى هيئة قضائية تمثل شرع الله، وهي التي إليها ترجع المنازعات بين الأمة وحكامها، وهي التي تنظر في شرعية القوانين، وفي حال أمير المؤمنين، هل هو منضبط بالشرع فتدعمه وتسنده، أم مجانب للشرع، فتسحب منه الثقة، وتأمر بعزله، وتنصيب آخر مكانه. وباختصار، فإن الشرع هو الناظم لحياة الأفراد والجماعة والدولة، وقوله الفصل في كل شؤون الحياة، ولا يصح أن يوجد صوت غير الشرع.

                وهكذا، فإنه بإفراد الله بالألوهية والربوبية، يكتمل إيمان الفرد، وبإفراد الشرع بالسيادة والمرجعية يكتمل إيمان المجتمع والدولة، ويستتبع ذلك أن يكون أساس الولاء والبراء هو الإسلام: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا)، فالولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراءة من كل ما عداها من عقائد ومبادئ وأفكار وأشخاص مهما كانت منزلتهم أو درجة قرابتهم: (إني بريء مما تشركون    إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين ) ، (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تشركون    إلا الذي فطرني فإنه سيهدين )  .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *