العدد الخامس -

السنة الأولى، العدد الخامس، صفر 1408هـ، الموافق تشرين أول 1987م

«هزم الأحزاب وحده»

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) [الأحزاب: 9].  

دخل المسلمون في حرب مع قريش، واشتبكوا معها في أول معركة، وهي معركة بدر، فانتصر فيها المسلمون انتصاراً كبيراً. وإثر هذه المعركة، زلزلت قريش زلزلة كبرى أطارت صوابها، وأضعفت هيبتها. كما قويت هيبة المسلمين، ولا سيما بعد أن طهّر الرسول من اليهود وفتنتهم.

غزوة أحد:

غير أن قريشاً لم يهدأ لها بال، فقامت قائمتها ولم تقعد حتى تثأر لقتلاها يوم بدر، وتستعيد مكانتها بين العرب. فكان أن خرجت قريش بحدها وجدها وحديدها، ومعها من تابعها وأطاعها من العرب، حتى نزلوا بجبل من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة. وخرج إليهم رسول الله في ألف من أصحابه، حتى إذا كانوا بالشوط بين المدينة وأحد، انخذل عنه رأس المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول بثلث النّاس. وكانت معركة ببطن جبل أحد، وانهزم فيها المسلمون لأن الرماة قد خالفوا أمر الرسول ، وتركوا مؤخّرة جيش المسلمين دون حماية.

وعادت قريش ممتلئة غبطة وسروراً بما زال عنها من عار يوم بدر، وقالوا: يوم بيوم بدر. ورغم مطاردة المسلمين للمشركين في اليوم التالي حتى حمراء الأسد، إلا أن الهزيمة قد بدت عليهم، فتنكر لهم يهود المدينة ومن فيها من المنافقين، كما تنكرت لهم بعض قبائل العرب، وصار كل هؤلاء يفكرون في التحرش بالمسلمين.

فقد عمدت هذيل على الغدر بستة من أصحاب النبيّ أرسلهم ليعلّموا الناس الدين ويقرؤهم القرآن، وكانت هذيل تجمع العرب لغزو المدينة لكن محاولتهم أُحبطت. كما أرسل النبي بني أسد سريّة أوقعت بهم، لأنهم أرادوا مهاجمة المدينة، فهاجمهم قبل أن يهاجموه. وكذلك فقد غدر أهل نجد بأربعين من كبار الصحابة أرسلهم النبي ينشرون دعوة الإسلام، فقاتلوهم حتى قتلوا عن آخرهم ولم ينج منهم إلا اثنان.

إجلاء بني النضير:

وكانت معركة أحد وغدر هذيل وأهل نجد قد أضعفت هيبة المسلمين في نفوس اليهود والمنافقين في المدينة. واتفق أن رسول الله قد ذهب إلى منازل يهود بني النضير، فائتمروا على قتله، لكن الوحي نبّأه بخبر ذلك، فقام وبعث إليهم أن أخرجوا من أرضي بما هممتم به من الغدر بي. وأجّلهم النبي عشرة أيام، فمن رؤي بعد العشر ضربت عنقه. وهمّ اليهود بالخروج لولا أن ابن سلول حرّضهم على البقاء، ووعدهم أن يقاتل معهم. فقاتلهم الرسول حتى ضيق عليهم، فصالحوه على أن يخرجوا، ولكل ثلاثة منهم حمل بعير إلا السلاح ففعل. فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته، ويخرّب نخله وشجره حتى لا يغنمها المسلمون.

وبإجلاء بني النضير،حسم الرسول الوضع في المدينة، فالتفت إلى قريش ومن مالأها من العرب، فجهّز المسلمين وسار حتى نزل بدراً فلم يلق قتالاً، فكانت تلك غزوة بدر الآخرة. ثم حمل النبي على بني غطفان بنجد، ففرّوا من وجهه تاركين أموالهم فغنمها المسلمون. ثم خرج المسلمون إلى دومة الجندل على حدود الشام ليؤدّبوا القبائل التي كانت تغير على القوافل، ولكنها فرّت من وجههم وتركت أموالها للمسلمين.

وبهذه الغزوات الخارجية، والتأديبات الداخلية في المدينة، استطاع النبي أن يعيد هيبة الدولة الإسلامية إلى نفوس العرب واليهود، وان يمحو آثار هزيمة أحد محواً تاماً.

لكن يهود بني النضير صمّموا على تأليب العرب على حرب المسلمين حتى يقضوا عليهم. وذهب قوم من زعماء اليهود فيهم حُيّى بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق وغيرهما إلى قريش لتحرضيهم على قتال المسلمين، ووعدوهم بمؤازرتهم للهجوم على المدينة. وبعد اقتناع قريش خرجوا إلى غطفان، وقيس غيلان، وبني مرّة وبني فزارة، واشجع وسليم وبني سعد وبني أسد، وكلهم لهم عند المسلمين تأثر، فما زالوا يحرّضونهم على الأخذ بتأثرهم حتى وافقوهم.

الأحزاب:

وخرجت قريش ومن معها من القبائل في اثني عشر ألف رجل يريدون المدينة. ولما اتصل نبأ هذه الجموع بالرسول ، قرّر التحصن في المدينة. وأشار سلمان الفارسي بحفر خندق حول المدينة والتحصن داخلها. فحُفر الخندق جنوبيّ المدينة، وحُصّنت المنازل، وخرج النبي في ثلاثة آلاف من أصحابه فجعل الخندق بينه وبين أعدائه.

ولما جاءت قريش إلى المدينة فاجأها الخندق، فعسكرت خارجه. وكان الوقت شتاء، والرياح عاصفة، والبرد قارساً، فأخذ يدبّ إليهم الوهن، وأخذوا يفضّلون أن يعودوا أدراجهم. ولما لاحظ حُيّي بن أخطب ذلك، وعدهم بتأليب يهود بني النضير ـ وهم في منازل شماليّ المدنية، وأن قريظة إن فعلت ذلك حوصر المسلمون تماماً وانقطع عنهم المدد. وسارع حُيّي بن أخطب إلى كعب لكن أسد زعيم بني قريظة وعرض عليه الأمر، فرفض كعب لكن حيياً ما زال يُفَتِّله في الذروة والغربِ حتى استجاب كعب له، فنقض عهده مع المسلمين.

نقض المعاهدة:

وأعدّت قريظة ثلاثة كتائب لمحاربة المسلمين، وتقدمت إلى المدينة، وبلغ الفزع بالمسلمين مبلغاً عظيماً، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، واشتد ساعد الأحزاب وظهرت قوتهم. وحاولوا اقتحام الخندق من ناحية ضيّقة. وبدأت قريظة تنزل إلى منازل المسلمين القريبة، واشتد الكرب وعم الفزع، لكن الرسول كان على أعظم الثقة بنصر الله تعالى له.

الخدعة!

وجاء نعمي بن مسعود إلى قريظة ـ وكان لهم نديماً في الجاهلية، وقد أسلم خفية، فذكّرهم بمصاحبته لهم في الجاهلية، وأخبرهم أن قريشاً والأحزاب ربّما لا تطيقان المقام طويلاً فترتحلان، وأنهم إن فعلوا ذلك تركوا قريظة للمسلمين بعدما نقضوا العهد. ونصحهم أن لا يقاتلوا مع القوم حتى يأخذوا سبعين رهينة من أشرافهم حتى لا تتنَحى قريش وغطفان عنهم. فذهب إلى قريش وأقنعهم أن بني النضير ندموا على ما نقضوا من العهد بينهم وبين محمد، وانهم بعثوا إليه لاسترضائه بأنهم سيقتلون سبعين من أشراف قريش وغطفان. وأخبرهم نعيم أنه إذا بعثت بنو قريظة يطلبون رهائن فإنهم سيتبينون صدقه. ثم انتهى نعيم إلى غطفان وأخبرهم بمثل ما أخبر قريشاً. ودبت الشبهة في نفوس العرب من اليهود، حتى إذا بعثت قريظة إلى العرب يشيرون إلى الرهائن حتى يطمئنوا إلى مصيرهم، لم يبق ليدهم شك في صدق نعمي. فتخاذلت العرب عن القتال، وجاء الليل، وأرسل الله عليهم ريحاً عاصفة، فاقتلعت الخيام وكفأت القدور، وأدخلت الرعب إلى نفوسهم، وحيّل إليهم أن المسلمين قد انتهزوها فرصة للإيقاع بهم. فلما دب الرعب في نفوسهم استخف القوم ما استطاعوا حمله وفرّوا، وأصبح الصبح ولم يبق أحد، وانصرف الرسول راجعاً إلى المدينة، وانتصر المسلمون بخدعة نعيم. وكان ذلك في شوال لخمس خلون للهجرة.

فبتلك الخديعة أوقع النبي بين العرب واليهود، وأوقعوا الضعف والتخاذل في نفوس العرب من قتال المسلمين. وجاء نصر الله تعالى، فأرسل الريح والمطر والرعد، حتى فرّ العرب من قتال المسلمين.

لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *