العدد 242 -

العدد 242، السنة الواحدة والعشرون، ربيع الأول 1428هـ، الموافق نيسان 2007م

(إسرائيل) والحسابات المعقدة

(إسرائيل) والحسابات المعقدة

 

من مفارقات القدر أن يجثو العرب على ركبهم يتوسلون “السلام” مع (إسرائيل)، في وقت تبدو فيه واهية هائمة على وجهها تتساءل عن مستقبلها، بعد أن فرضت وقائع مختلفة ومتعددة على اليهود توجهات جديدة وأساسية، بدءاً بتلاشي وهمهم بإقامة دولة تمتد من الفرات إلى النيل، وانتهاء بخضوعهم استراتيجياً لرؤية الإدارة الأميركية من حلٍ يقوم على أساس دولتين لإنهاء الصراع مع الفلسطينيين، مع ما يجره عليها ذلك من مزيدٍ من التقوقع والانغلاق ضمن بقعة ضيقة لا أفق لها لقاء ضمان قبولها كدولة حصرية لليهود! وطمعاً بتأمين امتداد اقتصادي وسياسي لها في منطقة ثرية ومهمة من العالم.

وفيما يجتمع ملوك العرب وزعماؤهم ليقدموا تنازلاً يتبعه آخر ليهود، تلوح لدى القائمين على الدولة اليهودية علامات استفهام كبيرة ومقلقة عن كل ما يتعلق بكيانهم الذي ولد قيصرياً بمؤامرة محاكة بإتقان. فالتهديدات والتحديات التي تواجه هذا الكيان الهش ما زالت بعد نصف قرن على إعلانه في مربعها الأول، لا سيما تلك المرتبطة منها بالطعونات المتعلقة بشرعية نشأة (إسرائيل) وأحقيتها بالبقاء، ما يفسر إصرارهم المستميت على الاعتراف بهم من قبل خصومهم، وهو ما لا تفعله الدول الطبيعية بحال. إضافة إلى ذلك فقد تغيرت الوقائع التي رافقت ظهور (إسرائيل) على كل مستوى، كما أخذت الأسباب التي أدت إلى تعاطف الرأي العام الغربي معها بالضمور، وبالكاد يذكرها التاريخ الذي شرع بطي صفحاتها، ليسجل ما يستجد من أحداث تشغل العالم.

فها هم حلفاؤها التقليديون يتململون منها ويعبرون عن ضجرهم من تصرفاتها وباتوا يطرحون شروطهم عليها لتغطيتها سياسياً ودعمها مادياً. وفي هذا السياق، دقت نتائج الاستفتاء الأوروبي نواقيس الخطر بشدة لدى اليهود، ذلك الاستفتاء الشعبي الذي تم ترتيب دولتهم فيه في مقدمة المنظمات والدول التي تهدد السلم والأمن والاستقرار العالمي. ما يعني تفكك عقدة الذنب على محارق اليهود ونهاية مفهوم “جرم” اللاسامية عند الشعوب الأوروبية، تلك التي سُوِّق بجريرتها بناء دولة (إسرائيل) على أرض فلسطين بدعم وتمويل وغطاء وتعاطف أوروبي كبير.

وعلى صعيد لا يقل أهمية، تأتي حرب تموز 2006 بين حزب الله و(إسرائيل) في لبنان، لتحطم ما ترسخ من وهم الدولة التي لا تقهر من قبل العرب مجتمعين، إذ هزمتها منظمة لا تقارن مقدراتها نسبياً من الناحية العسكرية مع ما لدى اليهود من عدة وعتاد، متصدية بثبات وعنفوان اجتياحاً شرساً استُعمِلت فيه كل الطاقات الممكنة لتحقيق انتصار ولو شكلي، وهو ما لم يتحقق رغم طول المدة! ما ألحق بـ(إسرائيل) هزيمة نكراء، سيتردد صداها طويلاً في نفوس وعقول اليهود، ضاربة ببدهياتهم ومسلماتهم المفترضة عرض الحائط.

وهكذا تتراكم التحديات التي تواجه هذا الكيان النشاز والمصطنع في منطقة لا يمكن أن تهضمه بحال لتكون أكبر بكثير من مجرد تتميم لتسويات “سلمية” هنا وهناك. فعندما كانت صواريخ العراق تنـزل في عمق دولة يهود المصطنعة، كانت عيون المتابعين ترقب عن كثب اهتزاز عروش حكام القاهرة ودمشق وعمان وانقلاب الجيوش على أنظمتها مقتحمة المعركة الفاصلة لاستئصال هذا الكيان. وفي حين كانت صواريخ حزب الله تمطر حيفا وعسقلان، كانت الشعوب الإسلامية شغوفة في ولوج ميادين القتال، غير آبهة بما يمكن أن يترتب على ذلك من تكاليف وأثمان. ما يعني أن قضية تحرير فلسطين حية في عقول وقلوب الأمة، تلك التي تنتظر فرصة مناسبة لاسترداد كرامتها المهدورة ومقدساتها المسلوبة، لا سيما بعد أن تصدعت كل الأكاذيب عن قوة يهود الأسطورية من نفوس أبنائها.

إضافة لما سبق فإن تحدياتٍ من نوعٍ آخر لا تقل أهمية ولا خطراً على مستقبل هذا الكيان قد برزت في العقد الأخير بشكل لافت للأنظار. فتنامي التيار الإسلامي والقومي والوطني داخل فلسطين 48، بعد عقود من السكون، نسف فكرة أي دمج ممكن الحصول لأكثر من مليون نسمة في الدولة اليهودية، فضلاً عن استحالة إنتاج أي انتماء صادق أو ولاء لها من قبلهم. حيث يستشعر هؤلاء حالة الأسر والإذلال والإهانة كما ضاقت صدورهم مما يتعرضون له من تمييز عنصري مقزز رغم اعتبارهم مواطنين (إسرائيليين)! وقد عبر هؤلاء في أكثر من موقف وعلى أكثر من صعيد عن مواقف تتناقض وتتضاد مع ما يطالب به اليهود في القضايا المصيرية والمهمة، ليس آخرها حرب لبنان، حيث اعتبر رموزهم إطلاق صواريخ حزب الله على مدنهم وأحيائهم شرفاً ينالهم وعملاً تحريرياً لهم من احتلالٍ بغيضٍ جاثم على صدورهم لا عدواناً عليهم. ما يعني فشلاً ذريعاً في كل مشاريع اليهود لاحتواء الداخل، وتسوية مع الخارج، و”سلام” متهافت باردٍ لا يتجاوز الأنظمة التي عقدته معها.

وبينما تتداخل في المنطقة صراعات متنوعة وحادة ودموية، طائفياً وقومياً ودولياً، سيتساءل كثيرٌ من أبناء الكيان اليهودي عن مصيرهم، حيث إنهم جزء من هذه المنطقة الملتهبة والمتقلبة، وسيفكرون ملياً بلا أدنى شك بانعكاسات هذه الصراعات عليهم؟ بينما ما زالوا يراوحون مكانهم حيارى تائهين ومضطربين في صراعات أقل وطأة عقوداً من السنين. وستستدعي عقولهم بكل تأكيد تداعيات تغلب أي فئة من الفئات على الأخرى أو توافقهم عليهم؟ كما ستستوقفهم ملياً حالة انهيار واحدٍ أو أكثر من الأنظمة في هذه المنطقة وسقوطها بين أيدي من لن يرضى حتى بمجرد الهدنة معهم؟ وضمن الحسابات التي لن يتركها هؤلاء تمر مر السحاب، ماهية المعادلات القادمة إذا ما تغيرت المعطيات الدولية القائمة حالياً تحت وطأة زلزال العراق وردود الفعل العكسية لما يسمى “الحرب على الإرهاب”؟ كل هذه الأسئلة وغيرها تدفع بكثير منهم إلى التأزم والإحباط والتفكير بالهجرة، وإلى بعضهم بالهجرة من غير تفكير، حيث يكفيه القلق وما يجره عليه من اكتئاب وشعور بعدم الأمان وغياب عنصر الاستقرار.

من هنا فإن إجراء أية تسوية بين (إسرائيل) والعرب تتجاوز مجرد بناء علاقات أو معاهدات أو هدن أو حتى اعتراف تام وغير مشروط وشاملٍ بـ(إسرائيل) من قبل فئة معينة. فالمسألة لديهم مرتبطة بمفهوم الدولة التي أسستها الحركة الصهيونية، وعليه فإن الثمن الذي يريده هؤلاء للقبول بـ”تسوية” ما، هو ما يعالج أزمات هذا الكيان منذ نشأته ويضع حداً لأية مخاطر قد تهدده في المستقبل، ولذلك تراهم كلما تنازل لهم حكامُ العرب خطوةً طلبوا منهم خطوةً أخرى ليضمنوا لأنفسهم أمناً تاماً قائماً على أشلاء الآخرين وتنازلاتهم.

وإذا ما وضعنا في سلسلة التحديات التي عجز عن مواجهتها هذا الكيان رغم كل الرعاية التي منح إياها على مدى أكثر من نصف قرن، إذا ما وضعنا إشكالات هوية هذا الكيان الغريب الذي لا يزال منعدم التعريف ومستعصياً على التجانس، حيث إنه خلطة عجيبة لا تستوي على قدم، كما إنه ليس مجتمعاً مدنياً بل مواطنوه عسكريون منخرطون في السلك العسكري، أو احتياطيون ينتظرون أوامر استدعائهم للجبهات، ولذلك فإن أمثل توصيف له أنه قاعدة عسكرية تنتظر من يهشم أركانها فيعيد الأمور إلى نصابها والأرض لأصحابها.

م. حسن الحسن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *