الخلافة وترتيب الأولويات
2007/03/23م
المقالات
2,044 زيارة
الخلافة وترتيب الأولويات
نرى كثيراً من المسلمين نتيجةً لسوء فهمهم للإسلام يهتمون بالنوافل أكثر من الفرائض، ويهتمون بالفروع أكثر من الأصول، وبالجزئيات أكثر من الكليات، ونرى كثيراً من الناس يصغرون الأمور الكبيرة ويعظمون الأمور الصغيرة، أو قد تثور معركة بيت اثنين من أجل نافلة وقد ضيَّع الناس كثيراً من الفرائض، أو نرى الاهتمام والتركيز على الأمور المختلف فيها قبل الأمور المتفق عليها.
لذلك على المسلمين أن يعيدوا ترتيب أوراقهم ويضعوا سلماً للأولويات، فلا يؤخر ما حقه التقديم ولا يقدم ما حقه التأخير، ولا يصغر الأمر الكبير ولا يكبر الأمر الصغير.
إن مسألة التفاضل بين الأعمال مسألة شرعية وليست مزاجية فمثلاً: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق».
وكذلك ترتيب الأولويات ليس تابعاً للعقل البشري إنما هو أمر شرعي يحتاج إلى أن يرتب من قبل الشارع الحكيم، وقد جعل الله سبحانه وتعالى الاهتمام بالعقيدة ونشرها على رأس سلم الأولويات، وجعله عملاً لا يعدله أي عمل. ونظراً لأن الجهاد هو طريقة نشر الإسلام إلى غير المسلمين تحمله الدولة فقد جعله الله مقدماً على كثير من الأعمال، فعن النعمان بن بشير الأنصاري قال: «كنت عند منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفر من أصحابه فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل لله عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام وقال ثالث: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم… فزجرهم عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وقال: «لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله، واليوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله: ( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ @ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) [التوبة 19-20]».
وكذلك نرى بعض ضعاف العقول من المسلمين عندما يذهبون لتأدية فرائض الحج ويرون الاهتمام في كسوة بيت الله الحرام وفرشه وما يصرف على تزيينه فيرجع مادحاً فيقول: ما شاء الله كم ينفقون عليه من أموال، والنظافة المستمرة والماء البارد وغيره… نقول إن الله سبحانه وتعالى قد جعل الاهتمام بعقيدة الإسلام وبنشر الإسلام بالجهاد في سبيل الله أولى من كل هذه الأعمال، بل إن الله قد جعل دم المسلم أعظم حرمة من بيت الله الحرام، ونحن نرى دماء المسلمين تسفك من أعداء الله يهود ولا أحد من حكام المسلمين يحرك ساكناً، بل نراهم في التلفاز في صلاة الجمعة أو في صلوات المناسبات في الصف الأول، أو في أول نشرة الأخبار ينقل حضورهم لحفل تخريج حفظة القرآن وتقديم الهدايا إليهم. نقول لهم كفى استخفافاً بعقول المسلمين فإن هذا ضحك على اللحى وذر للرماد في العيون، فأين عمارة بيت الله الحرام من تطبيق شرع الله وتطبيق دين الله في الأرض؟ إن الذي يهتم بكتاب الله لابد من أن يقيم وزناً لما في هذا الكتاب العظيم من أوامر ونواهٍ ومن أحكام أمر الله بإيجادها في واقع الحياة.
وها هو رجل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يرويه أبو هريرة أن رجلاً مر بشعب فيه عين ماء عذب فأعجبته فقال: لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب أعبد الله، ولكني لن أفعل حتى استأذن رسول الله، فلما جاءه قال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً» وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» (رواه مسلم).
وها هو عبد الله بن المبارك العالم المجاهد وهو في أرض الرباط يبعث برسالة إلى الفضيل بن عياض العابد الزاهد الذي كان يلقب بعابد الحرمين؛ لأنه كان متفرغاً للعبادة بين الحرم المكي والمدني، وكان من إجلال عبد الله بن المبارك له إذا لقيه في الطريق أخذ يده وقبلها، وكان الفضيل كثير البكاء من خشية الله في العبادة، فبعث له عبد الله بن المبارك برسالة فيها أبيات من الشعر منها:
يا عابدَ الحرمَيْنِ لو أبصرتنا
من كان يخضبُ خدَّه بدموعه
أو كان يُرهِقُ خيله في باطنٍ
هذا كتاب الله ينطِقُ بيننا
|
|
لعلِمتَ أنـَّك في العبادة تلعبُ
فنحورنا بدمائنا تتخضَّبُ
فخيولنا يومَ الصَّبيحةِ تتعبُ
ليس الشهيد بميتٍ لا يكذبُ
|
فقال الفضيل لما قرأ الرسالة صدقت.
لذلك قال علماء الحنابلة وغيرهم أن الجهاد أفضل ما يتطوع به العبد من أعمال البدن. فبالجهاد يحفظ الله دينه، وبه يحافظ على الأمة، ويعز دين الله في الأرض، وتعلو راية لا إله إلا الله.
لكن الجهاد الذي يفعل كل ذلك غائب اليوم ولا وجود له لعدم وجود دولة إسلامية قائمة على العقيدة الإسلامية تحمل الإسلام رسالة للبشرية، وهذه الدولة غابت بغياب الإمام الذي يبايَعُ بيعةً شرعيةً ليعمل بكتاب الله وسنة نبيه ويقوم مع الأمة بحمل الإسلام ونشره.
لهذا كان تنصيب الإمام على رأس الأولويات، وقد أجمع الصحابة الكرام على ذلك. فبعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ألمت بهم كثير من الأعمال من دفن لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتنفيذ وصيته بإنفاذ بعث أسامة، ومن تجميع الطاقات لتأديب مانعي الزكاة، وتجهيز الجيوش لمحاربة من ارتد من قبائل العرب عن الإسلام، ومن حماية لثغور بلاد المسلمين من الاعتداء عليها، ومن تعيين خليفة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقوم مقام الرسول في الحكم لا في النبوة، فرغم تكاثر وتزاحم هذه الفروض والأعمال إلا أنهم بدأوا أول ما بدأوا بتنصيب خليفة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومبايعته، فقد يستغرب أحدنا أنهم تركوا جسد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا دفن لمدة يومين، فلماذا لم يقوموا بتلك الفروض إلا بعد أن بويع لأبي بكر بالخلافة؟ أتدرون لماذا؟ لأنهم يعلمون أن تنصيب الإمام هو تاج الفروض؛ ولهذا بدأوا به، وبعدها قام الإمام بإرسال بعث أسامة، وقام بإرسال الجيوش لتأديب مانعي الزكاة حيث كان رأيه ملزماً للأمة، ووحدهم على كلمة سواء رغم الآراء المختلفة؛ لأن رأي الإمام يرفع الخلاف، وقاتل من ارتد عن الإسلام، وقد حفظ الله دينه وحماه بأبي بكر الصديق (رضي الله عنه) الذي كان يقول: «أينقص الدين وأنا حي» وقد قال ابن تيمية رحمه الله: «إن الإمامة من أعظم واجبات هذا الدين بل إنه لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها».
لذلك في ظل التيه والضياع الذي تحياه أمة الإسلام اليوم من أقصاها إلى أقصاها، وفي ظل غياب خليفة للمسلمين مبايَعٍ بيعةً شرعيةً، لا يسقط من أعناق المسلمين إثم عدم البيعة كما أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «…ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهليةً».
في ظل سفك دماء المسلمين من قبل الكفار، واحتلال بلاد المسلمين في الشيشان وكشمير والعراق وأوزباكستان وفلسطين والأندلس وغيرها، وفي ظل عربدة الوجود الأميركي في كل بقاع الأرض، في ظل تزاحم كل هذه الأمور لا بد للأمة أن تحدد رأس الأولويات، ألا وهو العمل الجاد لتنصيب إمام مسلم يبايع على العمل بكتاب الله وسنة رسوله، يحكم المسلمين بالإسلام ويطبق شرع الله، ويوحد بلاد المسلمين تحت رايته، ويجيش الجيوش لتحرير مقدسات المسلمين واستعادة أراضيهم، ويؤدب كل من يجرؤ على أن يعتدي على حرمات المسلمين، ويحمل الإسلام رسالة نور وهدًى للبشرية جمعاء، فقد قال رسولنا الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم): «الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به».
وإيجاد الإمام الذي يحكم بشرع الله يتطلب من المسلمين الاهتمام بالسياسة، وأن يجعل العمل السياسي الموجه لتحقيق هذه الغاية على رأس سلم الأولويات. ولتحقيق هذا الأمر لا بد من جماعة سياسية تقوم على هذا الأمر ساعيةً له واضعةً إياه نصب عينيها؛ لأنه بتحقيقه تتحقق كثير من الأمور المطلوبة شرعاً، فعن أم المؤمنين أم سلمة (رضي الله عنها) قالت: «كيف بكم إذا داعيان: داعٍ إلى كتاب الله، وداعٍ إلى سلطان الله، فأيهما تجيبون؟ قالوا: نجيب الداعي إلى كتاب الله، قالت: بل أجيبوا الداعي إلى سلطان الله، فإن كتاب الله مع سلطان الله» ورحم الله الغزالي إذ يقول: «القرآن أس والسلطان حارس، فما لا أس له فمنهدم، وما لا حارس له فضائع» وبالفعل فقد ضاع الإسلام من علاقات الناس في الحياة بغياب السلطان وغياب دولة الإسلام.
من كل هذا نرى أن العمل الجاد والمخلص لإيجاد سلطان الإسلام لابد من أن يكون على سلم أولويات المسلمين، ولابد من أن تتكاثف جميع جهود المسلمين لتحقيق هذا الهدف، وإلا تشتتت طاقات الأمة في أعمال جزئية قد تؤخر قيام هذا الفرض العظيم؛ لأنه بإيجاده تتحقق كل الأمور وتحل جميع مشاكل المسلمين، إن هذا الفرض سيتحقق، إن شاء الله، إن عاجلاً أو آجلاً، متى حقق المسلمون شرط الله سبحانه فيهم حيث قال: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) [النور 55]، وكما أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في نهاية الحديث الذي يرويه الإمام أحمد «..ثم تكون خلافة على منهاج النبوة..».
نسأل الله أن يعز الإسلام بإقامة دولة الإسلام التي يعز فيها الإسلام وأهله ويذل فيها الكفر وأهله… إنه نعم المولى ونعم النصير.
2007-03-23