العدد 274 -

العدد 274 – السنة الرابعة والعشرون، ذو القعدة 1430هـ، الموافق تشرين الثاني 2009م

فبهداهم اقتده: زيد بن حارثة (رضي الله عنه)

فبهداهم اقتده:

زيد بن حارثة (رضي الله عنه)

 

مضت سُعْدى بنتُ ثَعْلَبَة تبتغي زيارة قومها بني معن، وكانت تصحب معها غلامها زيد بن حارثة الكعبي. فما كادت تحل في ديار قومها حتى أغارت عليهم خيل لبني القَيْنِ فأخذوا المال، واستاقوا الإبل، وسبوا الذراري… وكان في جملة من احتملوه معهم ولدها زيد بن حارثة. وكان زيد إذ ذاك غلاماً صغيراً يدرج نحو الثامنة من عمره، فأتوا به سوق عكاظ وعرضوه للبيع فاشتراه ثري من سادة قريش هو حكيم بن حَزَام بن خويلد بأربعمائة درهم. واشترى معه طائفة من الغلمان، وعاد بهم إلى مكة. فلما عرفت عمته خديجة بنت خويلد بمقدمه، زارته مسلمة عليه، مرحبة به، فقال لها: يا عمة، لقد ابتعت من سوق عكاظ طائفة من الغلمان، فاختاري أياً منهم تشائينه، فهو هدية لك. فتفرست السيدة خديجة وجوه الغلمان… واختارت زيد بن حارثة، لما بدا لها من علامات نجابته ومضت به.

وما هو إلا قليل حتى تزوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأرادت أن تُطْرِفه وتُهدي له، فلم تجد خيراً من غلامها الأثير زيد بن حارثة فأهدته إليه. وفيما كان الغلام المحظوظ يتقلب في رعاية محمد بن عبد الله، ويحظى بكريم صحبته، وينعم بجميل خلاله. كانت أمه المفجوعة بفقده لا ترقأ لها عبرة، ولا تهدأ لها لوعة ولا يطمئن لها جنب. وكان يزيد أسًى على أساها أنها لا تعرف أحي هو فترجوه أم ميت فتيأس منه… أما أبوه فأخذ يتحراه في كل أرض، ويسائل عنه كل ركب، ويصوغ حنينه إليه شعراً حزيناً تتفطر له الأكباد حيث يقول في بعضه:

بكيتُ على زيد ولم أدرِ ما فعلْ               أحي فيُرجى أم أتى دونه الأجلْ؟

فوالله ما أدري وإني لسائلٌ                   أغالك بعدي السهلُ أم غالك الجبلْ

تُذَكِّرُنيه الشمسُ عند طلوعِها                          وتعرضُ ذكراه إذا غربها أفلْ

سأعمل نَصَّ العيس في الأرض جاهداً                           ولا أسأَمُ التَّطوافَ أو تسأم الإبلْ

حياتيَ، أو تأتي عليَّ منيَّتي                     فكل امرئٍ فانٍ وإن غرَّهُ الأملْ

وفي موسم من مواسم الحج قصد البيت الحرام نفر من قوم زيد، وفيما كانوا يطوفون بالبيت العتيق، إذا هم بزيد وجهاً لوجه، فعرفوه وعرفهم وسألوه وسألهم، ولما قضوا مناسكهم وعادوا إلى ديارهم أخبروا حارثة بما رأوا وحدثوه بما سمعوا. فما أسرع أن أعد حارثة راحلته، وحمل من المال ما يفدي به فلذة الكبد وقرة العين، وصحب معه أخاه كعباً، وانطلقا معاً يغذان السير نحو مكة، فلما بلغاها دخلا على محمد بن عبد الله وقالا له: يا ابن عبد المطلب، أنتم جيران الله، تفكون العاني، وتطعمون الجائع، وتغيثون الملهوف. وقد جئناك في ابننا الذي عندك، وحملنا إليك من المال ما يفي به. فامنن علينا، وفاده لنا بما تشاء. فقال محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): «ومن ابنكما الذي تعنيان؟»، فقالا: غلامك زيد بن حارثة. فقال: «وهل لكما فيما هو خير من الفداء؟» فقالا: وما هو؟! فقال: «أدعوه لكم، فخيروه بيني وبينكم، فإن اختاركم فهو لكم بغير مال، وإن اختارني فما أنا -والله- بالذي يرغب عمن يختاره». فقالا: لقد أنصفت وبالغت في الإنصاف. فدعا محمدٌ زيداً وقال: «من هذان؟». قال: هذا أبي حارثة بن شُراحيل، وهذا عمي كعب. فقال: «قد خيرتك: إن شئت مضيت معهما، وإن شئت أقمت معي». فقال في غير إبطاء ولا تردد: بل أقيم معك. فقال أبوه: ويحك يا زيد، أتختار العبودية على أبيك وأمك؟! فقال: إني رأيت من هذا الرجل شيئاً، وما أنا بالذي يفارقه أبداً. فلما رأى محمد من زيد ما رأى، أخذ بيده وأخرجه إلى البيت الحرام، ووقف به بالحِجْر على ملأٍ من قريش وقال: يا معشر قريش، اشهدوا أن هذا ابني يرثني وأرثه… فطابت نفس أبيه وعمه، وخلفاه عند محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعادا إلى قومهما مطمئني النفس مرتاحي البال. ومنذ ذلك اليوم أصبح زيد بن حارثة يدعى بـ”زيد بن محمد”، وظل يدعى كذلك حتى بعث الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وأبطل الإسلام التبني، فأصبح يدعى: زيد بن حارثة.

لم يكن يعلم زيد -حين اختار محمداً على أمه وأبيه- أي غُنْمٍ غنمه. ولم يكن يدري أن سيده الذي آثره على أهله وعشيرته هو سيد الأولين والآخرين، ورسول الله إلى خلقه أجمعين. وما خطر له ببال أن دولةً إسلاميةً ستقوم على ظهر الأرض فتملأ ما بين المشرق والمغرب بِراً وعدلاً، وأنه هو نفسه سيكون اللبنة الأولى في بناء هذه الدولة العظمى… لم يكن شيء من ذلك يدور في خلد زيد… وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء… والله ذو الفضل العظيم.

ذلك أنه لم يمضِ على حادثة التخيير هذه إلا بضع سنين حتى بعث الله نبيه محمداً بدين الهدى والحق، فكان زيد بن حارثة أول من آمن به من الرجال. وهل فوق هذه الأوَّلية أوَّلية يتنافس فيها المتنافسون؟! لقد أصبح زيد بن حارثة أميناً لسر رسول الله، وقائداً لبعوثه وسراياه، وأحد خلفائه على المدينة إذا غادرها النبي عليه الصلاة والسلام.

وكما أحب زيد النبي وآثره على أمه وأبيه، فقد أحبه الرسول الكريم صلوات الله عليه وخلطه بأهله وبنيه، فكان يشتاق إليه إذا غاب عنه، ويفرح بقدومه إذا عاد إليه، ويلقاه لقاءً لا يحظى بمثله أحد سواه. فها هي ذي عائشة رضوان الله عليها تصور لنا مشهداً من مشاهد فرحة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بلقاء زيد فتقول: «قدم زيد بن حارثة المدينة، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيتي، فقرع الباب، فقام إليه الرسول عرياناً -ليس عليه إلا ما يستر ما بين سرته وركبته- ومضى إلى الباب يجر ثوبه، فاعتنقه وقبله. ووالله ما رأيت رسول الله عرياناً قبله ولا بعده». وقد شاع أمر حب النبي لزيد بين المسلمين واستفاض، فدعوه بـ”زيد الحب”، وأطلقوا عليه لقب “حِبِّ” رسول الله، ولقبوا ابنه أسامة من بعده بحب رسول الله وابن حبه. وفي السنة الثامنة من الهجرة شاء الله -تباركت حكمته- أن يمتحن الحبيب بفراق حبيبه. ذلك أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه، بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتاب إلى ملك بصرى يدعوه فيه إلى الإسلام، فلما بلغ الحارث “مؤتة” بشرقي الأردن، عرض له أحد أمراء الغساسنة شُرَحْبِيل بن عمرو فأخذه، وشد عليه وثاقه، ثم قدمه فضرب عنقه. فاشتد ذلك على النبي صلوات الله وسلامه عليه إذ لم يُقتل له رسول غيره. فجهز جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل لغزو مؤتة، وولى على الجيش حبيبه زيد بن حارثة، وقال: إن أصيب زيد فتكون القيادة لجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب جعفر كانت إلى عبد الله بن رواحة، فإن أصيب عبد الله فليختر المسلمون لأنفسهم رجلاً منهم. ومضى الجيش حتى وصل إلى “معان” بشرقي الأردن. فهب هِرَقْلُ ملك الروم على رأس مائة ألف مقاتل للدفاع عن الغساسنة، وانضم إليه مائة ألف من مشركي العرب، ونزل هذا الجيش الجرار غير بعيد من مواقع المسلمين. بات المسلمون في “معان” ليلتين يتشاورون فيما يصنعون. فقال قائل: نكتب إلى رسول الله ونخبره بعدد عدونا وننتظر أمره. وقال آخر: والله -يا قوم- إننا لا نقاتل بعدد ولا قوة ولا كثرة وإنما نقاتل بهذا الدين. فانطلقوا إلى ما خرجتم له. وقد ضمن الله لكم الفوز بإحدى الحسنيين: إما الظفر… وإما الشهادة. ثم التقى الجمعان على أرض مؤتة، فقاتل المسلمون قتالاً أذهل الروم وملأ قلوبهم هيبةً لهذه الآلاف الثلاثة التي تصدت لجيشهم البالغ مائتي ألف. وجالد زيد بن حارثة عن راية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جلاداً لم يعرف له تاريخ البطولات مثيلاً حتى خرقت جسده مئات الرماح فخر صريعاً يسبح في دمائه. فتناول منه الراية جعفر بن أبي طالب وطفق يذود عنها أكرم الذود حتى لحق بصاحبه. فتناول منه الراية عبد الله بن رواحة فناضل عنها أبسل النضال حتى انتهى إلى ما انتهى إليه صاحباه. فأمَّر الناس عليهم خالد بن الوليد -وكان حديث إسلام- فانحاز بالجيش، وأنقذه من الفناء المحتم.

بلغت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنباء مؤتة، ومصرع قادته الثلاثة فحزن عليهم حزناً لم يحزن مثله قط. ومضى إلى أهليهم يعزيهم بهم. فلما بلغ بيت زيد بن حارثة لاذت به ابنته الصغيرة وهي مجهشة بالبكاء، فبكى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى انتحب. فقال له سعد بن عبادة: ما هذا يا رسول الله؟! فقال عليه الصلاة والسلام: «هذا بكاء الحبيب على حبيبه».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *