العدد 274 -

العدد 274 – السنة الرابعة والعشرون، ذو القعدة 1430هـ، الموافق تشرين الثاني 2009م

مع القرآن الكريم: (سل بني إسرائيل)

مع القرآن الكريم:

(سل بني إسرائيل)

 

(سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ ءَاتَيْنَاهُمْ مِنْ ءَايَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ، زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).

يتبين من هاتين الآيتين ما يلي:

1. بعد أن ذكر الله في الآيات السابقة وجوب الدخول في الإسلام كله لمن أراد أن يقبل الله إيمانه فلا يؤمن ببعض ويكفر ببعض، ولا يؤمن بالإسلام ويضيف إليه شيئاً ليس منه، وبخاصة بعد أن تأتيه البينات الواضحة والحجج القاطعة على الإيمان بالإسلام كاملاً.

وبعد أن بين الله سبحانه أن من ينحرف ولا يدخل في الإسلام كله بعد مجيء هذه البينات فإن له عذاباً شديداً.

بعد ذلك بين الله في هذه الآية الكريمة جواباً لمن يتساءل مستغرباً: كيف يمكن لإنسان أن لا يدخل في الإسلام كله بعد مجيء الآيات الدالة على ذلك؟

وهذا الجواب هو النظر في واقع بني إسرائيل، فلقد جاءتهم الحجج القاطعة بوجوب إيمانهم بموسى عليه السلام وما أنزل عليه من كتاب وبما أنزل الله فيه من صفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ووجوب إيمانهم به، وكلّ ذلك في آيات بينات جاءهم بها موسى عليه السلام ومع ذلك فقد كفروا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وحرفوا وبدلوا في كتبهم كما أملته عليه أهواؤهم، فبدل أن تكون تلك الآيات البينات نعمة عليهم تدفعهم للإيمان والهدى بدلوها فجعلوها طريقاً لكفرهم وضلالهم، ولقد علموا أن من بدل نعمة الله كفراً فإن عقابه شديد أليم (فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).

(سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) استفهام للتقريع والتوبيخ على طغيانهم وجحودهم وتركهم الحق بعد وضوح الآيات، وليس استفهاماً لأن يجيبوا فيعلم واقعهم من جوابهم، كما تقول لمخاطب: سل فلاناً كم أنعمت عليه، تريد توبيخ فلان وليس انتظار جوابه.

(كَمْ ءَاتَيْنَاهُمْ مِنْ ءَايَةٍ) كم خبرية، ولأن مميزها (ءَايَةٍ) مفصول عنها بفعل متعدٍ فقد وجب الإتيان بـ(مِنْ) لئلا يلتبس المميز بمفعول ذلك المتعدي على نحو قوله تعالى: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الدخان 25] (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ) [القصص 58]… فلو لم تذكر (مِنْ) وكانت الآية (كم آتيناهم آية) لالتبس موضع (ءَايَةٍ) هل هو مميز (كَمْ) أم مفعول (ءَاتَيْنَاهُمْ).

  1. لقد بين الله في الآية الثانية سبب عدم اتباع الكفار للآيات البينات التي تأتيهم وهو تمسكهم بزينة الدنيا وزخرفها، فتصرفهم عن تدبر الآيات ومن ثم الإيمان.

ليس هذا فحسب، بل إنهم ينظرون إلى المؤمنين الذين يتطلعون إلى الآخرة ولا يتعلقون بالدنيا فيسخرون من فقرهم.

ثم بيّن الله سبحانه أن فقراء المؤمنين هؤلاء الذين يسخر منهم الكفار الذين زينت لهم الدنيا يكونون أعلى شأناً وأفضل منـزلة عند الله يوم القيامة فهم في جنات النعيم، وأولئك الكفار في جهنم وبئس المصير، فالمؤمنون فوقهم في الدرجات لأنهم في جنة عالية والكفار في نار هاوية.

أما الرزق في الدنيا فالله يؤتيه من يشاء كافراً كان أو مؤمناً دون أن يحاسبه أحد على ذلك بل لحكمة من الله يستدرج الكفار بالتوسعة عليهم ليزدادوا إثماً، ويبتلي المؤمنين إن قدر عليهم رزقه ليزدادوا بذلك أجراً: (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) التزيين للدنيا أي جعلها حلوة محببة للذين كفروا يتشبثون بها ويتنعمون فيها إما بتوسعة الرزق عليهم من الله سبحانه، أو بوسوسة الشيطان لهم بالتمتع فيها والإغراق في الشهوات واللذات.

أما الأول فيكون المزين لهم هو الله سبحانه لاستدراجهم على نحو قوله سبحانه (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [آل عمران 178].

وأما الثاني فيكون المزين هو الشيطان بوسوسته كما ذكرنا على نحو قوله سبحانه عن فعل إبليس – لعنه الله – (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر 39].

والراجح فيها أن تزيين الدنيا للكفار هو بتوسعة الرزق عليهم لاستدراجهم فالأمر متعلق بالرزق بقرينة آخر الآية (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).

(وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا) أي يستهزئون بهم لفقرهم وإعراضهم عن الدنيا وإقبالهم على الآخرة.

(وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي فوقهم لأنهم في عليين والذين كفروا في أسفل سافلين.

وقد رويت روايات فيمن هم الذين يسخرون وممن يسخرون، أهُمْ رؤساء الكفر في مكة يسخرون من فقراء المؤمنين أم يهود في المدينة من فقراء المهاجرين أو غيرهم، وإن كان الأرجح أنها في اليهود لأن موضوع الآية السابقة فيهم، إلا أن العبرة ليست بخصوص السبب بل بعموم اللفظ، واللفظ عام يشمل الكفار المتصفين بتلك الصفات والذين يتصرفون تلك التصرفات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *