العدد 270-271 -

السنة الثالثة والعشرون ـ العددان 270 – 271

مواقف رجال في الدفاع عن الخلافة إبان هدمها وبعد هدمها

مواقف رجال في الدفاع عن الخلافة إبان هدمها وبعد هدمها

 

لم تكن دولة الخلافة العثمانية تمثل للمسلمين دولة غريبة عنهم، بل كانت امتداداً لدولة أسسها محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وأرسى دعائمها مع صحبه الأخيار في المدينة المنورة، وأخذت هذه الدولة تنتقل من حاضرة إلى حاضرة حتى استقر بها المقام في مدينة إسلامبول فمكثت فيها زهاء الأربعة قرون، حتى عدت عليها الذئاب الكمالية بهيئة البشر واغتالتها أياديهم الآثمة في غفلة من المسلمين، وعند هدمها فوجئ المسلمون بهذا المصاب الأليم وثارت ثائرتهم، وأخذ بعض الرجال من العلماء والكتّاب والأعيان يصدرون عن مواقف نسأل الله أن تكون في موازين حسناتهم بالرغم من عدم كفايتها.

– محمد شاكر، (رحمه الله): ومن مواقف الرجال الرافضة لهدم الخلافة موقف الشيخ محمد شاكر أحد أبرز علماء الأزهر في مطلع القرن الرابع عشر الهجري، حيث ظهر موقفه هذا من خلال مقالاته وخطبه. فهذا مقال كتبه في صحيفة المقطم يصور من خلاله ما يشعر به من خيبة الأمل، وقد أخذت ضربات الكماليين تتوالى، محاولة قطع كل الصلات التي تربط تركيا بالإسلام والمسلمين فهو يقول:

«خليفة يخلع، وخلافة تلغى، وأموال تصادر، وأوقاف تضم إلى أملاك الدولة، وتعليم ديني يمحى، ومحاكم شرعية تغلق، وأسرة عثمانية تطرد من آفاق البلاد، وتحرم من جنسيتها التركية، فما معنى هذه العاصفة الهوجاء، عاصفة الجنون التي تـهب على العالم في مشارق الأرض ومغاربـها من عاصمة الجمهورية التركية بقرارات الجمعية الوطنية في أنقرة؟».

«رحم الله زماناً كنا نعطف فيه على هذه الفئة إبان تمردها على السلطنة العثمانية، وهي تجالد مجالدة الأبطال لطرد الأعداء من الأناضول، وزحزحة الحلفاء عن دار الخلافة. والله يشهد أن الذي حدا بنا إلى العطف على هؤلاء المتمردين إنما هو الإشفاق على الخلافة العظمى أن تمتد إليها يد المهانة والاستـذلال، وهي البقية الباقية من مجد الإسلام وعهد النبوة الأول، وهي العزاء الوحيد الذي كنا نتعزى به في نكبات الأيام وصروف الليالي… عجيب أمر هؤلاء الذين تسللو في جنح الظلام إلى كهوف الأناضول، وظلوا يهتفون باسم الإسلام حتى حازوا فخار النصر، كيف ارتدوا على أدبارهم يحاربون الإسلام بأسوأ أداة ملكتها أيديهم في أعز عزيز على العالم الإسلامي، وهو نظام الخلافة…».

– مصطفى صادق الرافعي (رحمه الله): ومن أحسن ما كتب في تصوير هذا الانحراف مقال مصطفى صادق الرافعي بعنوان: “تاريخ يتكلم“. حيث يقول الكاتب:

«إن مصطفى كمال بدأ حركته بالغيرة على الإسلام تألفاً للقلوب، ثم انقلابه بعدما أمكنته الفرصة… أظهر الطاغية أن الله يؤيد به الإسلام ليتألف الجند والشعب والتفسير والحديث والفتيا، وبذل فيها الأموال، وجعل فيها الفقهاء و”المشايخ”، وبالغ في إكرامهم والتوسعة عليهم والتخضع لهم، ودخل في ظلال العمائم… وأحضر لنفسه فقيهين مالكيين يعلمانه ويفقهانه. وكان أشبه بمريد مع شيخ الطريقة يتسعّد به ويتيمن، أشرف ألقابه أنه خادم العمامة الخضراء، وأسعد أوقاته اليوم الذي يقول له فيه الشيخ: رأيتك في الرؤيا ورأيت لك…».

«… إنه ما كاد يتمكن من الناس ويعرف إقبالهم عليه وثقتهم به، حتى طلبت اللفافة اليهودية رأس المال والربا، فأمرهم بهدم تلك المدارس وإخرابها، وأبطل العيدين وصلاة الجمعة، وقتل الفقهاء وقتل معهم فقيهيه وأستاذيه، وعاد كالمريد المنافق مع شيخ الطريقة، يقول في نفسه: إن هناك ثلاثة تعمل عملاً واحداً في الصيد: الفخ، والعمامة، واللحية!…».

«إن هذا الطاغية ملك حاكم، يستطيع أن يجعل حماقته شيئاً واقعاً، فيقتل علماء الدين بإهلاكهم، ويقتل مدارس الدين بإخرابها، ولو استطاع أن يشنق من المسلمين كل ذي عمامة في عمامته، ويبلغ من كفره أن يتبجح ويرى هذا قوة، وهو يعلم أن لهوانه على الله قد جعله الله الذبابة التي تصيب الناس بالمرض، والبعوضة التي تقتل بالحمى، والقملة التي تضرب بالطاعون. فلو فخرت ذبابة، أو تبجحت قملة، أو استطالت بعوضة، لجاز أن يطن طنينه في العالم! وهل فعل أكثر مما تفعل؟».

«لقد أودى بأناس يقوم إيمانهم على أن الموت في سبيل الحق هو الذي يخلدهم في الحق، وأن انتزاعهم بالسيف من الحياة هو الذي يضعهم في حقيقتها، وأن هذه الروح الإسلامية لا يطمسها الطغيان إلا ليجلوها».

«إنه والله ما قتل ولا شنق ولا عذب، لكن الإسلام احتاج في عصره هذا إلى قوم يموتون في سبيله، وأعوزه ذلك النوع السامي من الموت الأول الذي كان حياة الفكر ومادة التاريخ، فجاءت القملة تحمل طاعونها!..».

«لقد أحياهم التاريخ، أما هم فقتلوه في التاريخ. وجاءهم بالرحمة من جميع المسلمين. أما هم فجاؤوه باللعنة من المسلمين جميعاً».

«يرى هذا الطاغية أن الدين الإسلامي خرافة وشعوذة على النفس، وأن محو الأخلاق الإسلامية العظيمة هو نفسه إيجاد أخلاق. وأن الإسلام كان جريئاً حين جاء واحتل هذه الدنيا، فلا يطرده من الدنيا إلا جراءة شيطان كالذي توقح على الله حين قال: ( قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين ) [ص28]. ولهذا أمر الناس بسب الصحابة، وأن يكتب ذلك على حيطان المساجد والمقابر والشوارع!».

«يزعم الطاغية أنه سيهدم كل قديم. وإني لأخشى والله أن يأمر الناس في بعض سطوات جنونه أن كل من كان له أم أو أب بلغ الستين فليقتله. لتخلص الأمة من قديمها الإنساني!..».

وأخذ الناس في مصر اضطراب وحيرة، فلم يعرفوا كيف يصنعون، وقد أصبح العالم الإسلامي للمرة الأولى منذ وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا خلافة، ولم يدرِ الناس لمن ينصرف دعاء الداعين حين يبتهلون إلى الله في ظهر كل جمعة أن يشمل بعنايته وتوفيقه خليفة المسلمين، وكان أول خطوة أخرجت الناس عما هم فيه من حيرة وارتباك بيان مذيل بإمضاء ستة عشر عالماً من علماء الأزهر أذاعوه بعد إلغاء الخلافة بأربعة أيام، يقررون فيه بطلان ما تجرأ عليه الكماليون من عزل الخليفة عبد المجيد، الذي انعقدت له البيعة من المسلمين جميعاً، لأنه صادر من فئة قليلة لا يعتد بهم فبيعته صحيحة شرعاً في عنق كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر».

وينبه البيان المسلمين إلى حاجتهم للخليفة، ثم يدعوهم للإسراع في عقد مؤتمر “يقرر ما يراه في أمر الخلافة من الطريق الشرعي”، ويحذرهم من “تسرب الخلاف الذي يؤخر الإسلام ويوهنه”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *