العدد 276 -

العدد 276 – السنة الرابعة والعشرون، محرم 1431هـ، الموافق كانون الثاني 2010م

حامل الدعوة والوقت

حامل الدعوة والوقت

 

جواد عبد المحسن – الخليل – فلسطين

الوقت هو مقدار من الزمن وكل شيء قدرت له حيناً فهو مُؤقت، والوقت مقدار من الدهر معروف وأكثر ما يستعمل في الماضي، ووقت موقوت يعني محدود في قوله تعالى (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) [النساء 103]، يعني مقدراً، والميقات هو الوقت المضروب للفعل والموضع فيقال هذا ميقات أهل الشام ونحو ذلك، والتوقيت هو تحديد الأوقات في قوله تعالى: (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) [المرسلات 11]، قال الزجاج جُعل لها وقت واحد للفصل في القضاء بين الأمة. والميقات هو مصدر الوقت، والآخرة ميقات الخلق، ومواضع الإحرام مواقيت الحج، والهلال ميقات الشهر وهكذا.

لقد كانت هذه المقدمة اللغوية لازمة في هذا البحث حتى ندرك العلاقة بين أعمارنا وآجالنا وأننا دخلنا هذه الدنيا وسنخرج منها بميقات معلوم ومقدرٍ لنا، وهذه الفترة من الزمن هي وقتنا في هذه الحياةَ الدنيا وصدق الله العظيم (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ، قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ) [المؤمنون 112-113].

إن ميزات الوقت أنه يسيرُ رغماً عنا ولا نملك إيقافه أو تأخيره، وإن مما يقتضيه نظام الوجود أنه يسير وفق نظام لا يتخلف مطلقاً، وأننا نعيش في هذه الحياة الدنيا ضمن ثلاث مراحل للوقت هي الماضي والحاضر والمستقبل، وأن الحاضر يمر مر السحاب إلى المستقبل حتى يصير الحاضر ماضياً والمستقبل حاضراً، ونحن ضمن هذه المراحل نحيا شئنا أم أبينا، رضينا أم سخطنا، ولله در الشاعر حين يصف العمر فيقول:

وما المرءُ إلا راكبُ ظهرِ عمره                على سَفَرٍ يُفنيه باليوم والشهر

يبيتُ ويَضْحَى كلَّ يومٍ وليلةٍ                  بعيداً عن الدنيا قريباً إلى القبر

ولما كان الوقت سريع الانقضاء وكل ما مضى منه لا يعود ولا يعوض بشيء، كان أنفس وأغلى ما يملك الإنسان، كما ترجع نفاسته إلى أنه وعاء لكل عمل وكل إنتاج، وهو رأس المال الحقيقي للإنسان فرداً كان أو مجتمعاً.

إن مما لا شك فيه ولا ريب لكل ذي عقل لبيب أن القرآن والسنة قد عنيا بالوقت أشد العناية، وفي مقدمة هذه العناية بيان أهميته وأنه من أعظم نعَم الله تعالى على الإنسان، ولبيان هذه الأهمية أقسم الله تعالى في مطلع سور عديدةٍ من القرآن بأجزاء معينة منه فقال: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى) [الليل 1-2]، وقال: (وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ) [الفجر 1-2]، وقال: (وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) [الضحى 1-2]، وقال: (وَالْعَصْرِ) [العصر 1]، ومن المعروف لدى المفسرين، بل وبنظر المسلمين أجمعين أن الله إذا أقسم بشيء من خلقه فما ذلك ألا ليلفت انتباههم إليه وينبههم لجليل نفعه وعظيم آثاره.

ولذلك جاءت السنة لتوكد قيمة الوقت وتقرر مسؤولية الإنسان عنه أمام الله يوم القيامة، فعن معاذ بن جبل قال: «لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا وَضَعَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ» (سنن الدارمي) وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» (البخاري).

إن عمر الإنسان الذي يقطعه بين ميلاده ومماته إذا استثنينا النوم يفنيه بواحد من أربعة أفعال: الجد، واللعب، واللهو، والعبث، أما الجد فإنه الفعل الذي حددت له غاية وطريقة وصول مع أخذٍ بالأسباب، وأما اللعب فإنه العمل الذي لا غاية له الآن وإنما هو عملية تدريب على حركةٍ أو شغل للملكات كألعاب الأطفال وترويض الخيل ولا يشغل عن مطلوب، وأما اللهو فإنه كاللعب ويختلف عنه بأنه يشغل عن مطلوب، وأما العبث فإنه اللعب بما لا يعنيك وليس في بالك، وهو الفعل الذي لا غاية له ولا فائدةَ منه.

إن الوقت الذي نسأل عنه هو (الآن) يعني اللحظة التي نعيشها والفعل الذي نفعله (الآن) وأن هذا العمل أو القول لابد من إدراك الصلة بالله الخالق حين قيامنا بهذا العمل في هذا الوقت، فالله سبحانه وتعالى قد حدد لنا أوقاتاً لأداء أحكام شرعية فقال: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) [الإسراء 78]، وقال: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) [البقرة 197]، وقال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الجمعة 9]، فهذه أوقات أداء إذا فات الوقت لم يتم الأداء ،وليس هذا وحسب بل إن لم يتم الأمر في وقته حلت الكوارث والنكبات ولا مجال لاستدراك الوقت، فالصلاة في وقتها والجهاد في وقته والحج في وقته ومحاسبة الحاكم في وقته، والدفاع عن الخلافة في وقته، فكان لابد من التعامل مع الوقت بجدية من كونه الحياة التي نعيشها والتي تفضي إلى يوم الحساب.

إن المسلم حامل دعوةٍ وهو صاحب قضية سامية يعيش لأجلها، وإن وقته المحدود في هذه الدنيا لا بد له من أن يتعامل معه بجدية ليحقق الغاية التي يصبو إليها والتي ما وجد إلا لأجلها، وهذا ما فهمه السلف الطيب، فقد ذكر الطبراني في الجامع الكبير عن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: «سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي: ما يمنعك أن تغرس أرضك؟ قال: أنا شيخ كبير أموت غداً، فقال له عمر: أعزم عليك لتغرسنّها، فقال عمارة: فلقد رأيت عمر بن الخطاب يغرسها بيده مع أبي» وقيل لابن المبارك إلى متى تطلب العلم؟… قال: حتى الممات إن شاء الله.

فلقد كانوا أصحاب عزم وصاحب العزم لا يرضى بالقليل وباب المسابقة والمسارعة مفتوح.

إن صاحب الهمة العالية هو من يحمل قضية إقامة الإسلام ويواجه الصعوبات وهو يسير في مراقي الكمال حاملاً الإسلام بقوةٍ وعزيمة مستعيناً بالله غير متخاذل ولا خائف، فكيف يعجز وعون الله يصاحبه، فقد اعد العدةَ وأخذ بالأسباب وشحن نفسه بما يلزمها لتحقيق غايته حين يواجه المستقبل، وليس هذا وحسب بل إنه يغلق الماضي حين يواجه حاضره ومستقبله في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ».

إن المسلم منهي عن التحسر والحزن على ما فات، فإنه يفسد الحاضر ويشغله عن الاستعداد لما هو آت، ثم يأتي المستقبل وهو مشغول باجترار الحزن والأسى، وهكذا يضيع عمره وهو يردد «لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا».

إن تحقيق الأهداف لا يكون بالحسرة ولا باجترار الأحزان على الماضي، وإنما يكون بالعمل الجاد واستغلال كل الوقت لتحقيق الغاية والعمل لها، وهذا من علو الهمةِ كما أخبر عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ» (رواه أحمد).

إن صاحب القضية المدرك لقضيته التي يحملها ليعي أن الوقت هو أثمن ما يملك، وأنه المادة التي توصله إلى مبتغاه، وهذا ما فهمه علماء المسلمين الذين أسسوا لنا أصل العلم ودونوه وحفظوه، وفي هذا الأمر يقول الإمام ابن عقيل: «إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا على الفراش، فلا أنهض إلا وخطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرص على العلم وأنا في الثمانين من عمري أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة، وأنا اقصّرُ بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى اختار سف الكعك وتحسيه بالماء على الخبز لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، وإن أجلَّ تحصيلٍ عند العقلاء -بإجماع العلماء- هو الوقت، فهو غنيمة تنتهز فيها الفرص، فالتكاليف كثيرة والأوقات خاطفة».

إن من يعلم ليس كمن لا يعلم، وهذا هو الذي فهمه كل صاحب قضية، فعلمه أنه صاحب قضية أوجب عليه هذا الحمل التزامات تجاه قضيته، وهذه الالتزامات لها أوقات أداء تؤدى بوقتها من أجل الغاية والقضية، فلا يصح أن يكون صاحب القضية حامل الدعوةِ خالياً من التزامات تجاه دعوته وقضيته، بل لابد من التزامات وأهمها أن يكون وقته يدور حول مركز دعوته وقضيته فقط، فالأولوية في كل أمر عند صاحب القضية قضيته، ورحم الله أبا بكر فقد كان من دعائه: «اللهم لا تدعنا في غمرة، ولا تأخذنا على غرةٍ، ولا تجعلنا من الغافلين» فكان التعاطي مع التزامات القضية ليس تعاطياً برتابةٍ تفضي إلى الملل وقتل الوقت، بل بتشوقٍ ولهفة لأنه يدرك أن هذا وقتٌ لأداء مطلوبٍ استحق أداؤه، فلا بد من أدائه على أكمل وجه قربى لله عز وجلَّ أداءً يبرز فيه الفرق بين صاحب القضية والموظف، إذ إن قضية الأولويات لا تبرز إلا حين يتزاحم في الوقت الواحد أكثر من أمر، فأيهما يقدم أو يؤخر؟ فهذا السؤال عند صاحب القضية لا يطرح مطلقاً لأن مفهوم الأولوية محسوم عنده ولا نقاش فيه ولا استدراك، فقضيته هي أولويته حتى لو وصل الأمر لحياته، فإن الأولوية هي قضيته يقدمها على حياته إذ لا بقاء ولا حياة له بغير قضيته.

لقد أدرك السلف الصالح معنى حديث المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم): «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلاةُ لِوَقْتِهَا…».

ونحن واجب علينا إدراك ما أدركوه من أن كل عمل أو واجب لهذه القضية حان وقته فقد وجب أداؤه، فلا توجد في مفردات صاحب القضية أو مفاهيمه اصطلاح (التسويف) أو سأفعل غداً لأمور حان وقت أدائها، فلا تأخير ولا تسويف، فقد فهموا أن عمارة اليوم أن يؤدي واجبه ولا يؤخر، فقد قيل لعمر بن عبد العزيز (رحمه الله) وقد بدا عليه الإرهاق من كثرة العمل… أخِّر هذا إلى الغد فقال: لقد أعياني عمل يوم واحد فكيف إذا اجتمع عليَّ عمل يومين، ولله در الشاعر حين قال:

إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً            ندمت على التفريط في زمن البذر

إن الاستنارة هي إدراك الأمور في أوقاتها وليس إدراك الأمور بعد فوات وقتها، وهذا ما يعمل حزب التحرير جاهداً لتحميله للأمة حتى تدرك الأمة الأمر في وقته فتؤدي واجبها في وقته، لا أن تتحسر وتندم على أنها لم تدرك وقد فات الأوان.

إن الإدراك المتأخر عن وقته لا ينبت إلا الحسرةَ والندم، فهل كان الحال يكون كذلك لو أدركت الأمة في وقته أن منظمة التحرير لم توجد إلا لتصفية القضية الفلسطينية، وهل كان الحال يكون كذلك لو أدركت الأمة في وقته الاتفاق الحاصل بين يهود والملك حسين على تسليم الضفة، وغيره وغيره كثير من الأمثلة، إذ إن الحزب في كل بيان يصدره يبين للناس الحدث في وقته وكيفية التعاطي معه في وقته والموقف الواجب اتخاذه تجاه هذا الأمر حتى تدرك الأمة الإدراك الصحيح للأمور وللأحداث وللواجبات في وقتها.

إن كثرة الأعباء التي تقع على عاتق حملة الدعوةِ وثقلها وتزاحم الواجبات لتدعو كل حامل دعوة حتى يستغل هذا الوقت استغلالاً منتجاً ولو كان جزئياً لمصلحة الدعوة… فالأيام قليلة ورحم الله الحسن البصري فقد قال: «الدنيا ثلاثة أيام: أما الأمس فقد ذهب بما فيه، وأما غداً فلعلك لا تدركه، وأما اليوم فلك فاعمل فيه» قال سبحانه وتعالى: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر 37].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *