العدد 276 -

العدد 276 – السنة الرابعة والعشرون، محرم 1431هـ، الموافق كانون الثاني 2010م

المرأة والعمل السياسي في الإسلام

المرأة والعمل السياسي في الإسلام

 

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، خلق آدم، وخلق منه زوجه، وبثَّ منهُما رجالاً كثيراً ونساءً، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمدٍ وآلهِ وصحبهِ وأزواجهِ ومنِ استنَّ بسنتهِ منْ ذكرٍ أو أنثى إلى يومِ الدينِ.

يقولُ تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات 13]، ويقول تعالى: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) [الإسراء 13].

جعلَ اللهُ الإنسانَ كإنسانٍ محلَّ التكليفِ والخطابِ بالأحكامِ الشرعيةِ بشكلٍ عامٍّ، بغضِّ النظرِ عنْ كونهِ ذكرًا أو أنثى، ففرضَ على كلٍّ منَ الرجلِ والمرأةِ الصلاةَ والزكاةَ والصيامَ والحجَ والعلمَ والدعوةَ إلى الإسلامِ، وجعلَ منَ التقوى معيارًا للأكرميةِ عندهُ تعالى.

وفي نفسِ الوقت خصَّ تعالى الرجلَ أو المرأةَ بأحكامٍ خاصةٍ لكلٍّ منهُمَا بحسبِ طبيعتهِ ودَوْرِهِ في الحياةِ، ففرضَ على الرجلِ السعيَ لطلبِ الرزقِ والنفقةَ على زوجهِ، ولمْ يفرضْ ذلكَ على المرأةِ، وخصَّ الإسلامُ المرأةَ بجعلِ الأصلِ فيها أنَّها أمٌّ وربَّةُ بيتٍ.

ومنَ الأحكامِ الشرعيةِ العامةِ التي خاطبَ بها اللهُ تعالى الرجلَ والمرأةَ على السواء، وَوَعَدَهُمْ على إقامتِهَا جزيلَ الثوابِ وتَوعَّدهُمْ إنْ تركوها عظيمَ العذابِ هو العملُ السياسيُّ.

فالسياسةُ لغةً: رعايةُ الشؤونِ، قالَ في القاموسِ المحيطِ: “وسُسْتُ الرعيةَ سياسةً أمرتُها ونهيتُها”، وهذهِ حقيقةُ السياسةِ منْ حيثُ كونِها رعايةُ الشؤونِ بالأوامرِ والنواهي. ورَوى مُسلمٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: قَاعَدْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ خَمْسَ سِنِينَ فَسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ فتَكْثُرُ، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ»، وقالَ الإمامُ النوويُّ في معنى تَسُوسُهُمْ في الحديثِ: “أَيْ: يَتَوَلَّوْنَ أُمُورهمْ كَمَا تَفْعَل الأُمَرَاء وَالْوُلاة بِالرَّعِيَّةِ، وَالسِّيَاسَةُ: الْقِيَام عَلَى الشَّيْء بِمَا يُصْلِحهُ”.

فالسياسةُ هيَ رعايةُ شؤونِ الأمّةِ داخلياً وخارجياً، وتكونُ منْ قِبَلِ الدولةِ والأمّةِ، فالدولةُ هيَ التي تُباشِرُ هذهِ الرعايةَ عملياً، والأمّةُ هيَ التي تحاسِبُ بها الدولةَ. والسياسةُ تشملُ: مباشرةَ رعايةَ الشؤونِ عمليًا مِنْ قِبَلِ الحاكمِ ومحاسبةَ الدولةِ مِنْ قِبَلِ الأمةِ والاهتمامَ بمصالحِ المسلمينَ وقضاياهُمْ والنصحِ لهمْ، وتشملُ كذلكَ العملَ ضمنَ كتلةٍ لاستئنافِ حياةٍ إسلاميةٍ.

ويختلفُ حكمُ العملِ السياسيِّ بالنسبةِ للمرأةِ حَسَبَ شكلهِ ومجالهِ، فَفيما يتعلقُ بمباشرةِ رعايةِ الشؤونِ عمليًا أو ما يُسمَّى بالحكمِ، فإنَّ الإسلامَ لا يُجيزهُ للمرأةِ على الإطلاقِ, لِما رَوى البُخاريُّ عنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لَمَّا بَلَغَه أَنَّ فَارِسًا مَلَّكُوا ابْنَة كِسْرَى قَالَ: “لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَة”. وإخبارُ الرسولِ (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفيِ الفلاحِ عمَّنْ يُوَلُّونَ أمرهمْ امرأةً هوَ نهيٌ عنْ توليتِهَا، إذْ هوَ مِنْ صيغِ الطلبِ، وكونَ هذا الحديثِ جاءَ إخباراً بالذمِّ لمنْ يُوَلُّونَ أمرهمْ امرأةً بنفيِ الفلاحِ عنهمْ، فإنَّهُ يكونُ قرينةً على النهيِ الجازمِ، وتكونُ توليةُ المرأةِ حراماً. والمرادُ توليتُهَا الحكمَ أي الخلافةَ وما دونَها منَ المناصبِ التي تُعتبرُ منَ الرعايةِ العمليةِ للشؤونِ، لأنَّ موضوعَ الحديثِ هوَ ولايةُ ابنة كسرى مُلكاً فهوَ خاصٌ بموضوعِ الحكمِ الذي جرى عليهِ الحديثُ. وليسَ خاصًّا بحادثةِ ولايةِ ابنةِ كسرى وحدَها، كما أنَّهُ ليسَ عامًّا في كلِّ شيءٍ، فلا يشملُ غيرَ موضوعِ الحكمِ، ولا بوجهٍ منَ الوجوهِ.

ونجدُ أنَّ الرسولَ (صلى الله عليه وآله وسلم) لمْ يستعملْ امرأةً في أمرٍ منْ أمورِ الحكمِ، ولمْ يُروَ عنهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ أنَّهُ ولَّى امرأةً ولايةً قطْ، وعلى هذا سارَ الخلفاءُ الراشدونَ رضيَ اللهُ عنهمْ والمسلمونَ مِنْ بعدهمْ حتى هُدمتِ الخلافةُ العثمانيةُ. بلْ إنَّنا نَرى أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ (رضي الله عنه) غَضِبَ أشدَّ الغضبِ حينَ اشْتَمَّ مِنْ زوجتِهِ نوعًا مِنَ التدخُّلِ في أمورِ الحكمِ, فقدْ رَوى ابنُ شَبَّةَ في تاريخِ المدينةِ المنورةِ وابنُ قدامةَ في مختصرِ منهاجِ القاصدينَ وابنُ الجوزيِّ في مناقبِ عمرَ بنِ الخطابِ أنَّ عمرَ (رضي الله عنه) استعملَ عِياضَ بنَ غنمٍ على الشامِ، فبلغهُ أنَّهُ اتَّخذَ حَمَّامًا واتَّخذَ بَوَّابًا، فكتبَ إليهِ أنْ يَقدُمَ عليهِ، فقدِمَ، فَحَجَبَهُ ثلاثًا، ثمَّ أذِنَ لهُ، وألبسَهُ جُبَّةَ صوفٍ وأَمَرهُ أنْ يرعى ثلاثمائَةَ شاةٍ، ولمْ يزلْ يعملْ بِهِ حتى مضى شهران، فاندسَّ عِياض إلى امرأةِ عمرَ (رضي الله عنها) وكانَ بينَهُ وبينَهَا قرابةً، فقالَ: سَلِي أميرَ المؤمنينَ فيمَ وَجَدَ عليَّ؟، فلمَّا دخلَ عليها عمرَ (رضي الله عنه), قالتْ: يا أميرَ المؤمنينَ فيمَ وجدتَ على عِياضٍ؟ قالَ: يا عدوَّةَ اللهِ، وفيمَ أنتِ وهذا، ومتى كنتِ تدخلينَ بيني وبينَ المسلمينَ؟ قالَ: فأرسلَ إليهَا عياض: ما صنعتِ؟ فقالتْ: وَدَدْتُ أنِّي لمْ أعرفكْ, ما زالَ يُوبِّخُنِي حتى تمنيتُ أنَّ الأرضَ انشقَّتْ فدخلتُ فيها. ومنْ هنا يتبينُ أنهُ يحرمُ على المرأةِ أنْ تباشرَ شؤونَ الحكمِ، وأنهُ لمْ يَرِدْ مثلُ ذلكَ في تاريخِ المسلمينَ، إلا في هذا الزمنِ الذي ابتُلينا فيهِ بتقليدِ شرائِعِ الكفرِ والقوانينِ الوضعيةِ، ومنها جوازُ مشاركَةِ المرأةِ في الحكمِ والتشريعِ.

أمَّا باقي مجالاتِ العملِ السياسيِّ، فقدْ أمرَ الإسلامُ بها الإنسانَ المسلمَ بوصفهِ مسلمًا دونَ النظرِ إلى كونهِ رجلاً أو امرأةً، فنرى مثلاً في مجالِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عنِ المنكرِ وهوَ منَ العملِ السياسيِّ لكونِهِ جزءًا منْ رعايةِ الشؤونِ، نرى أنَّ أدلتَهُ جاءتْ عامةً لا تختصُّ بالرجلِ دونَ المرأةِ، ومِنْ ذلكَ قولُهُ تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران 110]، ولفظُ “أمةٍ” لفظٌ عامٌ يشملُ الرجلَ والمرأةَ على السواء، وقالَ تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة 71]، وقالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ» رواهُ أحمدُ والترمذيُّ وحسنَّهُ، وواضحٌ أنَّ الأمرَ في الحديثِ عامٌ للرجالِ والنِّساءِ.

وكذلكَ الأمرُ بالنِّسبَةِ للعملِ ضمنَ كتلةٍ تسعى لاستئنافِ حياةٍ إسلاميةٍ بإقامةِ الخلافةِ وتحكيمِ الشَّرعِ، فإنَّ دليلَ إنشاءِ الكتلةِ قولهُ تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران 104]، هذهِ الآيةُ خاطبتِ المؤمنينَ والمؤمناتِ وأمرتهمْ بإنشاءِ كتلةٍ يكونُ عملُهَا الدعوةُ إلى الإسلامِ (الخيرِ) وأمرُ الأمةِ بتحكيمِ شرعِ اللهِ ونهيِهَا عنِ الأخذِ بالأفكارِ والأنظمةِ الغربِيَّةِ، وهذا أعظمُ معروفٍ يُؤمرُ بِهِ وأشدُّ منكرٍ يُنهى عنهُ. وكذلكَ الأحاديثُ الشريفةُ التي يُستدلُّ بِها على وجوبِ إقامةِ الخلافةِ، كقولِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مَيْتَةً جَاهِلِيَّةً» رواه الطبراني في الكبير، فكلمةُ “مَنْ” عامةٌ تشملُ الرجالَ والنساءَ، ومِنَ المعلومِ أنَّ نُسَيْبَة بنتُ كعبٍ ـ أمُّ عُمَارةَ ـ مِنْ بني مازن بن النجار،وأسماءُ بنتُ عمرو ـ أم منيع ـ من بني سلمة بايعنَ الرسولَ (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيعةِ العقبةِ الثانيةِ، وقدْ بايعَ الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) النِّساءَ اللاتي هاجرنَ بعدَ إقامةِ الدولةِ، قالَ تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الممتحنة 12]، وعليهِ فإنَّ الميتةَ الجاهليةَ تشملُ النِّساءَ أيضًا ممنْ لمْ يكنْ في أعناقهنَّ بيعةٌ أو لمْ يَتَلَبَّسْنَ بالعملِ لإيجادِ خليفةٍ يستحقُّ البيعةَ.

وقدْ حملتِ النساءُ الدعوةَ إلى الإسلامِ في مكةَ ضمنَ كتلةِ الرسولِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحابتِهِ (رضي الله عنهم)، بلْ إنهنَّ تحملْنَ في سبيلِ حملِ الدعوةِ أشدَّ أنواعِ العذابِ والتنكيلِ منْ كفارِ مَكَةَ، ومنْ ذلكَ ما رواهُ البخاريُّ عن سَعِيدٍ بْنِ زَيْدٍ (رضي الله عنه) أنهُ قالَ: “لَوْ رَأَيْتُنِي مُوثِقِي عُمَرُ عَلَى الإِسْلامِ أَنَا وَأُخْتُهُ وَمَا أَسْلَمَ…”، فسعيدُ بنُ زيدٍ وزوجَتُهُ فاطمةُ أختُ عمرَ رضيَ اللهُ عنهُمْ أجمعينَ كانوا منْ حملَةِ الدعوةِ قبلَ إقامةِ الدولةِ، حتى إنَّ عمرَ قبلَ إسلامِهِ عذَّبَهُمْ على ذلكَ. وروى ابنُ هشامٍ في سيرتِهِ أنَّ أبا بكرٍ (رضي الله عنه) مَرّ بِجَارِيَةِ بَنِي مُؤَمّلٍ حَيٍّ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ، وَكَانَتْ مُسْلِمَةً وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ يُعَذّبُهَا لِتَتْرُكَ الإِسْلامَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ وَهُوَ يَضْرِبُهَا، حَتّى إذَا مَلّ قَالَ: “إنّي أَعْتَذِرُ إلَيْك، إنّي لَمْ أَتْرُكْ إلا مَلالَةً”، فَتَقُولُ: “كَذَلِكَ فَعَلَ اللّهُ بِك”، فَابْتَاعَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَأَعْتَقَهَا. وقصةُ خديجةَ وسميةَ مشهورتانِ تُغنيانِ عَنِ الذكرِ.

وأما محاسبةُ الحكامِ، فهيَ أيضًا منَ الأعمالِ السياسيةِ التي يستوي فيها الرجالُ والنِّساءُ منْ جهةِ فرضيةِ الحكمِ الشرعيِّ, لأنَّ أدلةَ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عنِ المنكرِ التي ذَكَرْناها سابقًا هيَ أدلةٌ عامةٌ تشملُ أيضًا أمرَ الحاكمِ بالمعروفِ ونهيَهُ عنِ المنكرِ، وهيَ أيضًا أدلةٌ تُفيدُ الوجوبَ. إضافةً إلى ذلكَ، يقولُ (صلى الله عليه وآله وسلم): “سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ، قَالُوا: أَفَلا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: لا مَا صَلَّوْا“، والحديثُ عامٌ أيضًا في الرجالِ والنِّساءِ.

ونرى أنَّ النِّساءَ في زمنِ الخلافةِ الراشدةِ قدِ التزمنَ بحكمِ المحاسبةِ ومارسنَهَا دونَ إنكارٍ منَ الصحابةِ، فحينَ تولَّى عمرُ الخلافةَ اعترضتْ طريقَهُ خولةُ بنتُ ثعلبةَ وقالتْ لهُ ناصحةً: “كُنَّا نعرفُكَ عُوَيْمِرًا ثمَّ أصبحتَ عُمرًا ثمَّ أصبحتَ عمرَ بنَ الخطابَ أميرًا للمؤمنينَ، فاتَّقِ اللهَ يا عمرَ فيما أنتَ مستخلفٌ فيهِ”، وكذلكَ أنكرتْ سمراءُ بنتُ نهيكٍ الأسديَّةُ على عمرَ (رضي الله عنه) نهيَهُ أنْ يزيدَ الناسُ في المهورِ على أربعمائةِ درهمٍ، فقالتْ لهُ: ليسَ هذا لكَ يا عمرَ: أما سمعتَ قولَ اللهِ سبحانهُ: (وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا) [النساء 20] فقالَ: أصابتْ امرأةٌ وأخطأَ عمرُ.

كما أنَّ للمرأةِ في الإسلامِ أنْ تترشَّحَ لمجلسِ الأمةِ باعتبارهِ وكيلاً عنِ الأمةِ في المحاسبةِ والشورى، لأنَّ الشورى حقٌّ للمرأةِ والرجلِ على السواء، والمحاسبةُ واجبةٌ على كليهِما، وللمرأةِ شرعًا أنْ تكونَ وكيلاً لغيرِها أو توكِّلَ غيرَها في الرأيِ. وقدْ تجلَّى دورُ المرأةِ المسلمةِ في الشورى لمَّا أمرَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الصحابةَ (رضي الله عنهم) بعدَ عقدِ صُلْحِ الحديبيةِ أنْ يَقوموا فيَنْحَروا هَديَهُمْ، فقالَ لهمْ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: “قُومُوا فَانْحَرُوا، ثمَّ احْلِقُوا“، فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رجلٌ واحدٌ حتى قالَ ذلكَ ثلاثَ مراتٍ، فلمَّا لم يَقُمْ مِنْهم أحدٌ، قامَ فدخلَ على أُمِّ سلمةَ، فذكرَ لها مَا لَقِيَ مِنَ الناسِ، وقدْ أهمَّهُ ذلكَ وَشَقَّ عليهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقالتْ أُمُّ سلمةَ: “يا رسُولَ اللهِ؛ أَتُحِبُّ ذلكَ؟ اخرُجْ ثم لا تكلِّم أحداً منهمْ كلمةً حتى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعو حَالِقَكَ فيحلقَكَ”، فقامَ، فَخَرَجَ، فلمْ يُكَلِّمْ أحداً منهمْ حتى فَعَلَ ذلكَ: نَحَرَ بُدنَهُ، ودعا حَالِقهُ فحلقهُ، فلما رأى الناسُ ذلكَ، قامُوا فنحروا، وجعلَ بعضُهم يَحْلِقُ بعضاً. وهذهِ الإشارةُ والرأيُ السَّديدُ منْ أمِّ سلمةَ تُعتبرُ منَ الشورى للحاكمِ.

وثبتَ عنْ سيدنا عمرَ (رضي الله عنه) أنَّهُ كانَ حينَ تعرضُ لهُ نازلةٌ يدعو المسلمينَ إلى المسجدِ، وكانَ يدعو النِّساءَ والرجالَ ويأخُذَ رأيَهمْ جميعاً، وقدْ رَجَعَ عنْ رأيهِ كما رأينا حينَ ردَّتهُ امرأةٌ في أمرِ تحديدِ المهورِ.

هذهِ أحكامُ شرعِنا الحنيفِ المتعلقةُ بالمرأةِ والعملِ السياسيِّ, منها ما هوَ خاصٌ بالمرأةِ كحُرمةِ مباشرةِ أعمالِ الحكمِ, ومنها ما ينطبقُ على الرجلِ والمرأةِ لعمومِ أدلتِها كوجوبِ العملِ لاستئنافِ الحياةِ الإسلاميةِ ومحاسبةِ الحكامِ والشورى. وقدْ عملتِ المسلماتُ في زمنِ النبوةِ والخلافةِ الراشدةِ بهذهِ الأحكامِ وأحْسَنَّ تطبيقَها، ولمْ تأخذهنَّ في ذلكَ لومةُ لائمٍ ولا رهبةُ حاكمٍ, فكانَ لهُنَّ بذلكَ عظيمُ الأجرِ والثوابِ بإذنِ اللهِ.

ونحنُ اليومَ نتأسى بسيرةِ هؤلاءِ النِّساءِ العظيماتِ، ونعملُ كما عملنَ لاستئنافِ الحياةِ الإسلاميةِ والنهوضِ بالمسلمينَ، حتى يُظهِرَ اللهُ أمرهُ ويعزَّ دينَهُ، فإذا شهدنا قيامَ خلافةِ المسلمينَ الثانيةِ على منهاجِ النبوةِ، لنْ نترُكَ العملَ السياسيَّ، بلْ إننا سنستمرُ في نصحِ المسلمينَ وأمرِهمْ بالمعروفِ ونهيهمْ عنِ المنكرِ، ولنْ نتوانى بإذنِ اللهِ عنْ محاسبةِ خليفتِنا وأعوانهِ والنصحِ لهُمْ، حتى يرضى اللهُ تعالى عنَّا، ويحشُرَنا في زمرةِ المسلماتِ الأوائلِ، ويجمعَنا بهنَّ في جناتِ النعيمِ، كما جمعنا على عملٍ واحدٍ في الدنيا.

اللهمَّ ثبت قلوبنا على دينك، وأعنا على حمل دعوتك، كما حملها من سبقنا من الصالحين، واجعلنا من العاملات المخلصات لإقامة الخلافة، ومن شهودها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *