العدد 216 -

السنة التاسعة عشرة محرم 1426هـ – شباط 2005م

النفس وأثرها في تكوين الشخصية

النفس وأثرها في تكوين الشخصية

حسن الحسن

(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)

تتشكل شخصية الإنسان من عقلية ونفسية، وهذا أمر مدرك بالحس المتصل مباشرة بواقع الإنسان. أما العقل فهو أداة التمييز والإدراك والفهم، وهو الذي يبعث بالإنسان على التفكر والتأمل والتدبر. وهو ميزة الإنسان التي إن انتفت عنه، رُفع التكليف عنه ويفقد بذلك معنى تميزه عن بقية الخلائق المشاهدة. ومن هنا كان العقل مفتاح الارتقاء وسبب النهوض.

وأما النفس فإنها تقابل العقل، وهي التي تصوغ طبائع الإنسان، وتشكل له شخصيته، لتمنحه نموذجا معينا بنكهة وبصمة خاصتين، ولذلك يقال أن زيدا شرير لأن نفسه حسودة حقودة، كما يقال النفس طماعة أو أبية أو سخية أو ما شاكل، وهذه ميزات تتصف بها النفس على غرار الصفات التي تنسب للعقل، كقولنا أن عمروا ذكي أو غبي، نبيه سريع البديهة أو بليد.

والنفس لها تأثيرها البالغ على الإنسان، إذ إنها صمام الأمان للطاقة الحيوية، التي تشتمل على الغرائز والحاجات العضوية، التي تُفَعّل الإنسان وتدفعه للقيام بما من شأنه إشباعها. وإذا ما جردنا الإنسان من عقله، تصبح نفسه أسيرة شهواته الغرائزية وحاجاته العضوية، لتتحكما بالنفسية فتهيمنا على تصرفات وسلوك صاحبها بشكل مطلق، فتصبح الغرائز آنذاك هي من يصنع النفسية ويصوغها، وهي من يحدد طريقة الإشباع آنذاك من حيث الكم والكيف، ويحصل ذلك بشكل تلقائي، تماما كما هو الحال عند الحيوان.

 وبما أن موضوع النفس البشرية من أهم المواضيع التي ينبغي الوقوف عليها، كونها حجر الزاوية في استقامة الإنسان، وصفائه، ونقائه، وبناء شخصيته السوية، كان لا بد من سبر أغوارها وبلورتها؛ لكي نعي السبيل إلى تهذيبها، وذلك بترتيب علاقتها ما بين الغرائز الدافعة لنشاط الإنسان وعقله المرشد له.

ومن جراء استقراء واقع البشر نرى أن النفوس هي نتاج عوامل متعددة. فالصفات الوراثية، والبيئة الاجتماعية، والأوضاع العامة، والظروف التي يخضع لها الإنسان ويحياها، والعادات والتقاليد التي تربى ونشأ عليها، تمثل الجزء الجوهري في تكوين نفسه وتعكسها في شخصيته. ولذلك فإننا نرى أن أهل الشيشان مثلا ورثوا الإباء والشجاعة كابراً عن كابر، ونفوسهم تأبى الضيم والخضوع لأعدائهم. على خلاف كثير من البلدان التي يعيش أصحابها كسالى راضين بواقعهم  السيئ، متميزين بالأنانية الظاهرة، نفوسهم خانعة ذليلة، تدور مع المنفعة الخاصة حيث دارت، الشح شعارهم والاستسلام للواقع دينهم، وتبرير كل فعل خسيس ديدنهم؛ وذلك جراء سيطرة الثقافة الغربية وإطباقها عليهم، إلى جانب هيمنة مفاهيم فاسدة تركزت لديهم نتيجة ارتباطهم بالدنيا، ورضوا بالعيش متجسداً بالحد الأدنى، أي العيش الذي يمنحهم الشهيق والزفير فقط، حتى شاع لدى الكثيرين منهم قول ” نحن لا نجد الخبز الحاف نأكله فهل تطلب منا إنهاض الأمة والعمل على تغيير واقعها!؟” 

ولذلك فإن وراثة واكتساب الميول الحسنة أو القبيحة في النفس الإنسانية هو أمر مشاهد محسوس، سواء عن طريق الآباء والأجداد، أم من خلال العادات والتقاليد الاجتماعية المتأصلة، أم من خلال العيش في ظل نظام يفرض وجهة نظر معينة، وطريقة عيش محددة، تؤثر في الإنسان وتصوغ نفسيته؛ ولذلك كنا نرى سكان  الاتحاد السوفياتي سابقاً يمقتون التجارة وينفرون منها، ويعتبرون القيام بها أقرب إلى العار جراء ارتباطهم بالمبدأ  الاشتراكي، وذلك على النقيض من سكان أميركا وأوروبا، بل وسكان دول  الاتحاد السوفياتي بعد انهياره، حيث بات جميع هؤلاء يطبقون النظام الرأسمالي الذي يشجع على التجارة، بل ويجعل الحياة كلها بدون استثناء “بيزنس” ومن هنا نرى مدى تأثير النظام المطبق على صياغة نفوس الناس قديماً وحديثاً، وأما التأثر بالعادات والتقاليد فأمر غني عن التدليل وقد قيل “العادة عبادة” كما قيل قديما “من عاشر قوماً أربعين يوماً صار منهم”.

ومن هنا يرد سؤال يتعلق في صميم بحث النفس وبنائها وتنميتها وهو، طالما أن نفس الإنسان تتشكل نتيجة البيئة التي تعيش فيها، بل وترث الخصال الحسنة أو القبيحة بفعل أثر الآباء والأجداد فيها، فكيف نعاتب الناس فيما هم عليه من سوء حال، وهل من سبيل إلى تغييرها من غير تغيير الأوضاع السائدة في المجتمع؟

لعله والحق يقال إن تغيير ما تطبعت عليه النفوس أمر يصعب نواله، وخصوصا في ظل أوضاع تختلف بل وتتناقض مع ما يراد التغيير له.  ولذلك فإنه من المبالغة بمكان توقع تغير أنفس الناس عموما لتسمو إلى سدرة المنتهى، ونحن نشاهد كيف أن الرأسمالية المقرفة قد أطبقت على نفوس البشر من الأرض والسماء، لتصوغ نفوسهم بعيداً عن القيم الرفيعة، حتى تلك منها التي كان يتمتع بها العرب في جاهليتهم، كالإباء ورفض الضيم، وإيواء عابري السبيل، وغير ذلك من مثل الكرم، والشهامة، والأنفة، مما نفتقده اليوم بشدة؛ ولذلك فإن المعول عليه لتغيير أنفس الناس وصياغتها بشكل سليم، هو تغيير الأوضاع العامة السائدة في المجتمع، وهذا لا يكون بدون تدخل الدولة لإيجاد سياسات عامة تضعها لطرح بيئة صحية تنمو فيها نفوس البشر، وتترعرع على القيم الرفيعة التي لا قيمة للإنسانية حقاً إلا بها. ولذلك فإن محاولات كل الحركات السياسية والأخلاقية والروحية في تهذيب أنفس الناس وتنقيتها، تذهب سريعا أدراج الرياح في ظل قانون واحد يوصد أمام الناس باب الفضيلة، ويشرع أمامهم باب الرذيلة مفتوحاً على مصراعيه. إلا أنه لا يصح كما لا يليق بحق من ادعى أنه صاحب رسالة في الحياة، ونذر نفسه لحمل دعوة وتبني قضية مصيرية فيها، الانجرار مع السائد، فضلا عن الركون للواقع، والتلون بما عليه عموم الناس؛ لأنه لا يصلح آنذاك ليكون قائداً لأمة، فضلاً عن رائد لها. فحامل الدعوة إن لم يتميز عن المجتمع بضربه النموذج والمثال الذي يستحق أن يحتذى به، فلن يفلح في قيادة الناس أو جذبهم إلى قضيته وتحقيق نصرتهم لها.

ومن هنا كان جديراً بالاهتمام، أن يبذل حامل الدعوة جهده في تنقية نفسه من شوائب الواقع الفاسد، وتأثيرات العوامل الوراثية، ورواسب المفاهيم القبيحة والعادات البالية التي يرفل بها المجتمع. والسؤال الذي يحسن الإجابة عليه هو كيف يتم ذلك؟

والجواب هو، إن اكتساب نفسية راقية سامية لا يتأتى إلا بإرادة صلبة، وتصميم جاد، وهمة عالية. ومن غير ذلك لا أمل في تحقيق أي تغيير جدير ذكره في نفس الإنسان، مهما نمت عقليته، واتسعت ثقافته، وكثرت معلوماته، وثرثر لسانه؛ وذلك لأن العادة ليس من السهل تركها أو التخلي عنها، ولا يمكن تغييرها إلا بكسرها أو تغليب عادة أخرى عليها. ويتم ذلك بتطويع النفس على غير ما تشتهيه، ولو كان من المباحات والحلال الزلال، وعلى حملها على ما لا تحب ولا ترغب به، حتى تصبح طيعة لينة بيد صاحبها. ولعل رأس الأمر في تغيير ما عليه النفس بالإضافة للإرادة، هو جعل العقل قائداً لها، والإصرار على ذلك، وفي حالتنا فإنه ينبغي جعل المنهج الشرعي هو القائد الذي يتبناه العقل، ليلزم نفسه بما ألزمه به ربه، وليتقرب إلى الله زلفى بما ندب إليه ذلك، صاداً نفسه عن كل ما حرمه الله تعالى، متجنباً ما كرهه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فإذا ما حصل هذا تحقق التغيير المنشود، وسمت النفس إلى ما ينبغي أن تصل إليه، ولتتصف بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون عقله الذي أعقل به». ولتوضيح ذلك أقتصر على مثلين:

فالمسلم يؤمن بأن الرزق من عند الله، وهو أمر من ثوابت العقيدة ومسلماتها، وبالتالي فإن من سلك درب الحرام للكسب، فهو على دراية بأن ذلك لن يغير من واقع رزقه شيئاً، ولن يزيده ذلك إلا إثماً وحسرة وندامة، وهذا أمر توصل إليه العقل كونه ثبت لدى كل مسلم أن القرآن حق يقيناً. وأن كل كـلمة فيه هي عبارة عن صدق خالص لا ريب فيه، فالله تعالى يقول: ( وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ (23))[الذاريات]، بينما هـوى النفس يداعب المشاعر بإثارة القلق على الرزق، ويدفع الإنسان إلى أن ينهل منه قدر المستطاع، بأي وسيلة طالما أن ذلك متاح، ولو لم يكن مباحاً، وذلك بدافع الغريزة كما جاء في القرآن: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ) [آل عمران 14] أو بدافع وسوسة الشيطان خشية الإملاق، يقول تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ) [البقرة 268]، فإن نفرت النفس إلى ماتشتهيه، أو اتبعت وسوسة الشيطان، وانصرفت عن صدق وعد الله المتعهد بكفالة الرزق، كان الانحطاط عما سلم به العقل وآمن به إلى ما تذهب إليه النفس باتباعها الشهوة وانقيادها للغريزة. وتتشكل مع تكرار ذلك نفسية رديئة اعتادت الخصومة مع الشريعة والبعد عن منهج الله، وبالتالي تنفصم شخصية المسلم بين إيمانه الذي صدق به ونفسه التي أصابها الحسرة لانجرارها وراء الشهوة، وفقد بذلك الانسجام بين النفس والعقل، فيؤدي ذلك إلى الاضطراب والقلق، وإذا ما تكررت هذه الحالة في الانفصام بين النفس والعقل أدى إلى اهتزاز الشخصية وعدم جدواها لقيادة نفسها فكيف بقيادة البشرية. أما إن جعل المرء ما يؤمن به العقل هو العامل الحاسم في تقرير ما ينبغي أداؤه، كان الثبات والرقي حقاً، وعلت النفس لترتقي إلى ما آمن به صاحبها، فيحصل آنئذ انسجام بينهما، مما يحقق الطمأنينة والانسجام والثبات، فتتشكل بذلك الشخصية الإسلامية السوية الصادقة.

والمثال الثاني، فإن مما تدفع إليه الغريزة بشكل فطري، الميل إلى الجنس الآخر، فإن أرخى المرء لنفسه عنانها، وأطلق نظراته وراء كل محرم؛ بغية التلذذ وإشباع الشهوة، فيؤدي ذلك بالنفس الى التخلي عما يحصنها، من وجوب انقيادها للعقل الذي سلم بوجوب اتباع وحي الله، الذي أمر بغض النظر عن المحرمات فكيف بما هو أكثر من ذلك، ومن هنا تصبح النفس البهيمية هي القائدة لنفس صاحبها، فيخسر جولته أمامها؛ لتنقاد النفس بذلك إلى طريق الفجور والعصيان. بينما لو حصل العكس، واتخذت النفس الشرع الذي آمن به الإنسان سيداً لها، ومنحته السلطان عليها، فامتنعت عن النظر إلى ما يحرم، لتعززت ثقته بقدراته، ولقويت مع ذلك إرادته، ولوجد لذة من جراء تكرار ذلك، لأنه بات هناك انسجام بين نفسه وبين عقله، بالسعي معاً لنيل رضى الله تعالى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «النظر سهم من سهام إبليس من تركها لله، جعل الله في قلبه حلاوة الإيمان».

وهكذا ينبغي أن تسير الأمور عند من يريد أن يسلك درب الرشاد، وينال رضى الرحمن، ليتلطف به، ويكفله، وينصره، فيصبح بصره الذي يبصر به، وعينه التي يرى بها؛ ولذلك لزم عند من أدرك في نفسه صفة تخرم مروءته، أو تنتقص من آدميته، فعليه أن يهذب نفسه بتعويدها عما يجل النفس ويرفعها عن الموبقات والآثام. فمثلا من شعر بنفسه يتملكها الحسد، لزمه تذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله علماً فهو يعلمه الناس، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه في سبيل الله». وعليه أن يجبر نفسه على الانكسار أمام شرع الله لكي يتقبله الله ويوفقه، فلا يغلب شهوة أو طبعاً سيئاً على أمر يخالف الشرع، وعليه أن يحذر من التبرير لما يقدم عليه، فإن ذلك هو درب إبليس الذي تجرأ بذلك حتى على الله، فأخذ يجادله في أمرطاعته، وأن سجوده لآدم سينقص من قدر خلقه، إذ أن النار أفضل من الطين بزعمه، وتجاهل أن الله هو خالق الأشياء، ويعلم كنهها، وهو بكل شيء عليم.

وانطلاقاً من هذه القاعدة الفكرية، ينبغي الانطلاق ليجــعل المــرء أمــام ناظريه شــرع الله جل وعلا، مدركاً أنه متبع بذلك عقله الذي ميزه الله به ليسلم بآلاء الله ووحيه فيسير في دربه ويعتصم بحبله، مما يبقيه مشدوداً إليه، منقطعاً إليه عمن سواه، لينطبق عليه في رحلته إلى محطته البرزخية قوله تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي) (30) [الفجر]. نعم هذا هو الحال إذا ما ألزم الإنسان نفسه به، وجعله تبعاً لعقله المعتنق لعقيدة تفسر له سبب وجوده في الحياة، وتضع له نظاماً منبثقاً عنها؛ ليضبط حركات أفعاله على إيقاعات متناسقة من منهج الله وهديه الذي رسمه له قال تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا )[الإنسان 3]. وأما إذا ما أتبع الإنسان نفسه هواها، وجعل العقل في خدمة هذا الهوى، منطلقاً في عالم الغواية، منـزلقاً في عالم البهيمة المطلقة؛ ليصبح شراً منها؛ لأنه يتمتع الآن بعقل مسخر من أجل دفع أقوى للغريزة وإشباعها، فسينطبق على من هذا هو حاله قول الله تعالى: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) [الفرقان44] .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *