العدد 216 -

السنة التاسعة عشرة محرم 1426هـ – شباط 2005م

أكذوبة الديمقراطية

أكذوبة الديمقراطية

شريف عبد الله- مصر

برغم أن الولايات المتحدة لم تعبأ بالتشاور الجماعي داخل مجلس الأمن الدولي، ولا حتى بالطابع الديمقراطي للجمعية العامة للأمم المتحدة، حين قامت بضرب العراق، وكلاهما -مجلس الأمن والجمعية العامة- كانا أصلاً فكرة أميركية بشرت بها العالم سنة 1945م، يأتي الرئيس الأميركي جورج بوش ليسوق لنا تلك الديمقراطية -الأكذوبة- على اعتبار أن مشكلة المسلمين الكبرى هي غياب تلك الديمقراطية من مجتمعاتهم ودولهم. وعلى هذا فحرصاً من بوش على أن يعيش المسلمون في ظلال الديمقراطية الوارفة “التي ستصل إلى الدول العربية في نهاية المطاف” اعتبر بوش نفسه مبعوث العناية الإلهية للناس؛ ليخرجهم من الظلمات إلى نور الديمقراطية والحرية فـ«الديمقراطية والحرية هي خطة السماء للإنسانية» التي يبشر بها بوش.

بوش يفتي المسلمين بأن الديمقراطية لا تتناقض مع الإسلام، والمستغرب أن بعض المتفيقهين من المسلمين يريدون أن يسوقوا لنا أيضاً هذه الديمقراطية، فيقزمون الموضوع إلى درجة تصوير الديمقراطية أنها مجرد الحرية في اختيار الحاكم من خلال صناديق الاقتراع. والحقيقة أنها فكرة ناتجة عن تصور كلي للحياة والكون والإنسان، ناجم عن حضارة تختلف اختلافاً جذرياً مع حضارة الإسلام. فالحضارة الغربية تقوم على مبدأ فصل الدين عن الدولة، وإذا فُـصل الدين عن الدولة، فمن الذي ينظم المجتمع والدولة بالأنظمة والأحكام والقوانين؟ إنه الشعب حسب ادعاء هذا المبدأ. بينما في الإسلام الحاكم والمشرع هو الله سبحانه وتعالى، والأمة هي صاحبة السلطان فقط، فقد أعطاها الشارع الكريم الحق في اختيار الحاكم؛ ولذلك كان عقد الخلافة عقد رضا واختيار، والخليفة نائب عن الأمة في تطبيق الإسلام، فلا الأمة، ولا الحاكم، ولا مجلس الأمة، له الحق فضلاً عن أن يملك القدرة على التشريع.

وحتى نبين ذلك لابد من إبراز عدة نقاط:

1- لا حكم قبل ورود الشرع:

لقد قرر الشرع الحنيف أن الحاكم هو الله سبحانه وتعالى، وبالتالي فإن مصدر الأحكام هو الوحي المنـزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [يوسف 40] وقال تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة 44] وقال تعالى: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) [المائدة 49] فكل حــكم غير حــكم الله هو طاغوت: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا )[النساء 60]. وطريق معرفة حكم الله هو الوحي المنـزل على نبيه؛ ولذلك كان أهل الفترة ناجون، وأهل الفترة هم الناس الذين عاشوا بين فترة ضياع رسالة أو تحريفها، ومجيئ رسالة جديدة، قال تعــالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا) [الإسراء 15] فالذي يريد أن يسوق الديمقراطية لنا اليوم كمن يدعي أن لا حكم لله، إما رفضاً لهذا الحكم وادعاء أن عقولنا أقدر على الحــكم من الله -والعياذ بالله- أو أننا من أهل الفترة، والادعاءان باطلان. فالعقل لا حكم له؛ لأنه لا يملك الأدوات اللازمة للحكم، والادعاء بإعطاء الحكم للعقل ادعاء باطل؛ لأن الذي يحكم هنا هو الهوى، والميول، واتباع المصالح.

والادعاء الثاني باطل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين، ورسالته خاتمة الرسالات السماوية، والتي تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظها من التبديل والتحريف. إذاً الديمقراطية تعطي الشعب حق التشريع، والإسلام يعطي هذا الحق لله سبحانه وتعالى، وشتان بين الأمرين. فالأول كفر والثاني إيمان.

2- آليات اختيار الحاكم في الإسلام:

الذين يحصرون الديمقراطية في اختيار الحاكم من خلال صناديق الاقتراع يقزمون الموضوع ويتقزمون معه. فالديمقراطية كما قلنا تعطي حق التشريع للشعب، وتعزل الدين في الزاوية أو المسجد. والحديث عن الاستفادة من آليات اختيار الحاكم في الديمقراطية تلاعب بالألفاظ لا ينطلي على أصحاب الفكر المستنير. فالإسلام ليس خلواً من هذه الآليات، فقد تم اختيار أبو بكر الصديق خليفة للمسلمين من خلال أهل الحل والعقد في سقيفة بني ساعدة, ثم ما لبثت الأمة أن بايعته رضي الله عنه في اليوم الثاني في المسجد بيعة الطاعة. أما الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد رشحه سيدنا أبو بكر رضي الله عنه ورضيت الأمة بهذا وبايعته. أما في بيعة عثمان رضي الله عنه فإن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أخذ رأي المسلمين في المدينة ولم يقتصر على سؤال أهل الحل والعقد. وفي عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه اكتفى ببيعة أكثر أهل المدينة وأهل الكوفة وأفرد هو بالبيعة. إذاً فما يسميه البعض بـ”الآليات” هي مجرد إجراءات عملية تتم بها عملية تنصيب الخليفة قبل أن يُـبايَـع، وهي مما يجوز أن تأخذ أشكالاً مختلفة كم حصل مع الخلفاء الراشدين إذ لم يلتزم معهم بشكل واحد معين. وصندوق الاقتراع هو إجراء عملي لاختيار الخليفة من بين عدد من المرشحين لهذا المنصب، والعمل به ليس مدعاة لتبني الديمقراطية وإيهام الأمة أن الديمقراطية «بضاعنا ردت إلينا».

3- الفرق بين الحضارة والمدنية:

كثير من الذين يطالبوننا بأخذ الديمقراطية لا يفرقون بين الحضارة والمدنية، أو بمعنى آخر لا يفرقون بين ما لا يجب أخذه، وما يجوز أخذه من غير المسلمين فتراهم يلوون شفاهم بغيظ، قائلين لمن يرفض الديمقراطية إنكم تستعملون كل أدوات الغرب من التلفاز والكمبيوتر والإنترنت والأسلحة وحتى الملابس فلماذا ترفضون الديمقراطية. وهؤلاء من الذين صدق فيهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى إذا دخلوا جحر ضب دخلتموه وراءهم. قيل: من يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟». إن الديمقراطية ليست شكلاً مدنياً كالطائرة والصاروخ والإنترنت لا يخضع لوجهة النظر في الحياة حتى يجوز للمسلمين أخذه من أي كان بغض النظر عن عقيدته. بل هي نتاج حضارة تقوم على أساس فصل الدين عن الدولة.

4- اشكالية الإصطلاح والتعاريف:

لفظ الديمقراطية اصطلاح غربي يعني إعطاء حق التشريع للشعب وحصره فيه. ولهذا المعنى مجموعة من التوابع فنقول من الديمقراطية للناس الحرية في اختيار الحاكم، في الديمقراطية تجري انتخابات حرة لاختيار أحد المرشحين لمنصب ما، في الديمقراطية يُـحاسب الحاكم من خلال مجلس منتخب. فالقول بأخذ أو استعارة جزئية من الديمقراطية، كهذه التي ذكرناها، قول مشدود للانبهار باللفظ أكثر من الفكرة، ولا يتفق مع منهج الإسلام؛ لأنه لا مجال لأخذ مال لا يجوز الأخذ به حين توفر اللفظ الصحيح للفكرة الصحيحة. وهذا يشكل خروج على المعنى الذي وضع اللفظ لأجله وهو تعريف ليس جامعاً ومانعاً. فهو لم يجمع كل ما هو داخل في التعريف، ولم يمنع ما هو خارج عنه من الدخول فيه. وبالتالي فإن الديمقراطية ليست هي «التعبير العصري عما نسمية بلغة الفقه والثقافة الإسلامية بالشورى» وكأن المبدأ الإسلامي قاصر عن وضع المصطلح الصحيح، عدا عن كون اللفظ المستعار منافياً لمعنى الشورى. فالشورى حكم شرعي له تفصيلات تتعلق بتنظيم عملية أخذ الرأي من الدولة الإسلامية، والديمقراطية حكم بشري يتعلق بإعطاء الشعب حق التشريع، وفي ظلها يتاح للملحد أن يدعو إلى إلحاده، وللعلماني أن يعلن أن الإسلام غير صالح للعصر، وأن القرآن كتاب بشري يمكن نقده… إلى غير ذلك من دعوات الكفر والإلحاد.

5- بيان الكذب والخداع في مصطلح الديمقراطية:

القول بأن الديمقراطية هي حكم الشعب هو أكبر كذبة في العالم. وفي هذا القول تضليل وخداع, فحتى في أعرق الديمقراطيات في العالم، فإن رؤساء الدول، وأعضاء البرلمانات، ورؤساء الحكومات، إنما يمثلون أصحاب رؤوس الأموال الذين يدفعون المبالغ الطائلة لإيصالهم إلى الحكم لتأمين مصالحهم. وهل تداول السلطة في ظل النظام الديمقراطي يعني انحصار هذه السلطة من حزبين فقط هما الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي في أميركا أو حزب المحافظين وحزب العمال في بريطانيا، إنها صورة مبتدعة لحكم القبيلة أو العشيرة أو الأسرة المالكة.

6- بيان فساد فكرة المطالبة بالحرية قبل المطالبة بتطبيق الإسلام:

إن الأنظمة الكافرة والعميلة في العالم الإسلامي هي أنظمة عدوة للإسلام، تعمل جاهدة بالتعاون أو الانصياع للغرب الكافر للقضاء على الإسلام. والذي يجب أن يدركه أصحاب هذه الطروحات، أن هكذا أنظمة لن تعطي الدعاة إلى الإسلام الحرية في دعوتهم مهما طمأنوا الكافر، ومهما تنازلوا عن بعض دينهم، ومهما حاولوا إرضاء الكفار، قال تعالى: (وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة 120]. فهذه جبهة الإنقاذ في الجزائر كانت على وشك أخذ الحكم بشكل “ديمقراطي” عن طريق صناديق الاقتراع فتدخل الجيش وألغى الانتخابات، وحظر جبهة الإنقاذ، وأودع قادتها في السجون. وهؤلاء الإخوان في مصر تأبى الحكومة إعطاءهم رخصة حزب سياسي برغم ما قدموه ويقدموه من تنازلات للدولة. ثم على من يطالب بالحرية ويصر على ذلك قبل المطالبة بتطبيق الإسلام أن يبين لنا ما العمل إذا مُـنع من هذه الحرية.

7- ليس معنى رفض الديمقراطية المطالبة بالدكتاتورية.

إذا لم تكن ديمقراطياً فأنت دكتاتوري، إذا لم تكن رأسمالياً فأنت اشتراكي، إذا لم تطالب بالحرية فأنت نصير الاستبداد. فأنت دائماً محصور بين خيارين، ولا مناص لك في خيار ثالث. أنا لست ديمقراطياً، ولست دكتاتورياً، ولا يمكن أن أكون رأسمالياً، أو اشتراكياً، وأنا ضد الحرية بالمفهوم الغربي، وضد الاستبداد. أنا مسلم، والإسلام هو الأصل وليس البديل. والحاكم في الإسلام ليس دكتاتورياً، بل هو مقيد بالأحكام الشرعية، وهو منصّـب لتنفيذ الشرع، ولا يملك إلا أن يُـسير أعماله حسب الأحكام الشرعية. كما أن طاعته واجبة، إلا أن يأمر بمعصية فلا طاعة له فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يُـؤمر بمعصية، فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة». ومحاسبته فرض على الأمة، كما يجب الخروج عليه إن أظهر الكفر البواح. قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ). [المائدة 50]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *