العدد 199 -

السنة السابعة عشرة – شعبان 1424هـ – تشرين الأول 2003م

موقف العلماء الصَحَويين من أحداث السعودية وحُكم اللَّه فيه (3)

موقف العلماء الصَحَويين من أحداث السعودية

وحُكم اللَّه فيه  (3)

أحمد المحمود

استعرضنا، في العدد السابق، موقف العلماء الرسميين الموالين للدولة السعودية، وقلنا إنه قام على مبنى فاسد، يقوم على أن الدولة السعودية إسلامية، وحاكمها ولي أمر المسلمين فيها، وبيّنا أن حجتهم داحضة حيث لم تكن السعودية دولة إسلامية لا ماضياً عند نشأتها، ولا حاضراً. وبيّنا كذلك، أن هؤلاء العلماء، يذهبون مع حكامهم مذهب سوء، يحلّون لهم الحرام حينما يريدون، كإفتائهم بجواز الصلح مع اليهود، وجواز الاستعانة بأميركا على المسلمين في أفغانستان والعراق… ويحرمون لهم ما أمر اللَّه به، من مثل عدم التعرض لأي أمرٍ له علاقة بالدولة، وليس هذا فحسب، بل يأمرون المسلمين أن يطيعوا، في كل بلد، حاكمهم، وهذا ما صرّح به المفتي العام للسعودية في 21/8/2003م. لقد اجتمع في هؤلاء العلماء مع حكامهم، ما يجعل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم منطبقاً عليهم: «وإذا فسدا فسدت أمتي».

أما علماء الصحوة، فإن الأمل كان معقوداً عليهم، ليسيروا بالدعوة في طريقٍ سوي، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث حتى الآن. فكيف نشأوا؟ وما الذي قاموا به سابقاً، ويقومون به الآن؟ وكيف تعاملت معهم الدولة؟ وما المطلوب منهم؟،… هذا ما ستتناوله، في هذا العدد.

عقب ضرب أميركا للعراق سنة 1991م، حدث تململ ظاهر في السعودية، نتيجة المواقف المعلنة والصريحة، التي وقفتها الدولة السعودية، إلى جانب أميركا، في هذه الحرب؛ إذ إنها قدمت مختلف المساعدات والتسهيلات العسكرية والمادية لأميركا، ثم أوعزت إلى العلماء الأجراء لديها، أن يصدروا فتوى، تجيز للسعودية ولدول الخليج أن تستعين بأميركا على صدام حسين. وبالفعل فقد انعقد في مكة المكرمة (المؤتمر الإسلامي العالمي)، الذي نظمته (رابطة العالم الإسلامي)، من 10/9/90م إلى 13/19/90م أي قبل قيام أميركا بضربتها للعراق، وشارك فيه نحو 300 عالم ومفكر إسلامي، ينتمون إلى 86 دولة. وقد أصدر هؤلاء العلماء فتوى، ليست من اللَّه في شيء، فتوى منكرة، تصادم نصوص الشرع مصادمة حادّة، لم يرعوا فيها حرمةً لدينهم، ولا عصمة لدماء المسلمين. لقد أجازت هذه الفتوى الاستعانة بالقوات الأميركية. وكان الهدف من هذه الفتوى تامين تغطية شرعية لهم، حتى لا تتحرك مشاعر المسلمين ضدهم، بسبب وجودهم الكثيف في جزيرة العرب التي يحرم أن يوجد فيها دين غير دين الإسلام، وحتى لا تثور ثائرة المسلمين عليهم، حين يرون ما سترتكبه هذه القوات بحق مسلمي العراق… وقد استندت فتواهم المنكرة هذه، في مشروعية استدعاء جيوش أميركاوحلفائها، والاستعانة بها على عدة مبررات منها:

          1-  أميركا دولة صديقة، وكذلك حليفاتها الدول الأوروبية.

2-  أميركا جاءت، بناءً على استدعاء السعودية ودول الخليج، وسماحها.

          3-  جيوش أميركا وحليفاتها، موجودة تحت إمرة القيادة السعودية.

          4-  جيوش أميركا وحليفاتها، ستحترم مقدساتنا وأموالنا وأعراضنا.

          5-  جيوش أميركا وحليفاتها، ستنسحب بمجرد إصدار الأمر إليها، من ولي الأمر (الملك فهد).

هذه الفتوى صدمت المسلمين، في السعودية وخارجها، بعلمائهم ومتعلميهم وعامتهم، واعتبروها فتوى أميركية، فانهالوا بالأسئلة على العلماء الواجهة الرسميين، الذين راحوا يبررون للفتوى بالمبررات التي لم تزد المسلمين إلا انزعاجاً واعتراضاً. وقد تولّى ابن باز الرد على الذين يسألون من داخل السعودية وخارجها، وكان من ردوده: “إن الجهاد واجب على السعوديين والمسلمين في أي مكان، إذا تعرضت السعودية لهجوم”. وفي رده على عباسي مدني الذي هاجم السعودية، بسبب استدعائها للقوات الأجنبية إلى البلاد، فقال: “إن هذا غلطٌ كبير، ويدل على عدم فهمه للواقع؛ لأن الإنكار يكون على من ساعد الكفار على المسلمين، أما الذي يدافع عن المسلمين، من جيوش إسلامية، أو غير إسلامية، على طريقة مكفولة، وفيها حيطة للمسلمين، والدفاع عن بلادهم ومقدساتهم، غير داخل في الحرمة، بل إن هذه الجيوش مشكورة ومأجورة…”. ومن مبرراته التي يعتبرها شرعية: إن السعودية ومعها دول الخليج، قد اضطرت إلى أن تستعين ببعض الدول الكافرة، على صدام حسين الظالم الغاشم؛ لأن خطره كبير، ولأن له أعواناً آخرين، ولو انتصروا لظهروا وعظم شرهم. واللَّه سبحانه أباح لعباده المؤمنين، إذا اضطروا إلى ما حرّم عليهم، أن يفعلوه، كما قال: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ)[الأنعام/119]، ولما حرّم الميتة، ولحم الخنزير، والمنخنقة، والموقودة، وغيرها، قال في آخر الآية: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[المائدة/3]، ويضيف: “وهيئة كبار العلماء، في المملكة العربية السعودية، لما تأملوا هذا، ونظروا فيه، وعرفوا الحال، بيّنوا أن هذا أمرٌ سائغ، وأن الواجب استعمال ما يدفع الضرر، ولا يجوز التأخر في ذلك، بل يجب فوراً استعمال ما يدفع الضرر عن المسلمين، ولو بالاستعانة بطائفةٍ من المشركين، فيما يتعلق بصد العدوان، وإزالة الظلم، وهم جاؤوا لذلك، وما جاؤوا ليستحلّوا البلاد، ولا ليأخذوها… وما يتعمدون قتل الأبرياء، ولا قتل المدنيين، وإنما يريدون قتل الظالمين المعتدين، وإفساد مخططهم، والقضاء على سبل إمدادهم وقوتهم في الحرب”.

إن المهمة التي أخذ ابن باز مفتي آل سعود، على عاتقه القيام بها، ليغطي على جريمة النظام السعودي، وليضفي الشرعية على وجود القوات الأميركية في المنطقة، وليلبس على المسلمين أمر دينهم، لم تستطع أن تقنع المسلمين هناك، بل جعلت هذه الفتاوى الواجهات الدينية متهمة، مثلها مثل الحكام، ويدل على ذلك الأسئلة الكثيرة التي راحت تنهال على المفتي العام، والتي تعكس حالة الرفض والاستنكار لما يجري، والتي تعطي صورةً لما يفكر به المسلمون هناك. وهذه الأسئلة أهم من الأجوبة عليها، ومن هذه الأسئلة:

          –  يقول بعض الناس، الذين يشككون في فتوى هيئة كبار العلماء، بشأن الاستعانة بغير المسلمين، في الدفاع عن بلاد المسلمين، وقتال حاكم العراق، بعدم وجود الأدلة القوية التي تدعمها، فما تعليق سماحتكم؟.

          –  إن حال الفساد وصل في الأمة، لدرجة لا يمكن تغييره إلا بالقوة، وتهييج الناس على الحكام، وإبراز معايبهم، لينفروا عنهم، وللأسف، فإن هؤلاء لا يتورعون عن دعوة الناس لهذا المنهج، والحث عليه. ماذا يقول سماحتكم؟

وفي الخلاصة، بدأ المسلمون في السعودية، التي يسيطر عليها المذهب الوهابي، المدعوم من الدولة، على كل المستويات، بالتململ، والاعتراض، ووجدت حالة من عدم الرضى، وهذا لم يكن موجوداً من قبل. فقد كانت السعودية من أكثر الدول استقراراً من ناحية عدم وجود معارضة دينية، ومن ناحية توافق الجميع على المذهب الوهابي، والاطمئنان إليه. ولكن إخلاص المسلمين لدينهم أبى عليهم إلا الاعتراض. إلا أنه بسبب تغلغل المذهب الوهابي في النفوس، ولكثرة ما غرس في نفوس أتباعه الثقة بالعلم والعلماء، ولشدة التركيز على أن حاكم السعودية ولي أمر المسلمين، وأن الدولة السعودية إسلامية، كان صعباً على هذه المعارضة أن تبتعد كثيراً في معارضتها، أو أن تخرج عن إسار ما طُوقت به عبر سنواتٍ طويلة مديدة؛ لذلك كانت معارضة، لم تنزع الثقة فيها من ابن باز، وكبار العلماء؛ لأن الثقة المترسخة ليس من السهل نزعها، فلا بد من وقتٍ أكبر، ومخالفاتٍ أكثر، وأخطاء وهفوات وفتاوى منكرة أكثر حتى تنزع الثقة أكثر وأكثر. ومع هذا، تحرك عددٌ كبير من العلماء في السعودية، باتجاه النظام لتقديم النصيحة له منطلقين من منطلق حسن الظن بهذا النظام، وقدموا في أواخر سنة 1412هـ أي سنة 1993م (مذكرة نصيحة) إلى الملك فهد، ووقعها أكثر من مائة من العلماء، بعضهم مشهورٌ جدا، إن لم يكن من الأشهر، وأيّدها عددٌ من علماء (هيئة كبار العلماء) ولكنهم خافوا أن يضعوا توقيعهم عليها. وهذا يعني أن التذمّر كان عاماً، وقد جاءت هذه الأحداث لتوقظ المسلمين من سباتهم، جاءت لتنبه المخلصين إلى الواقع البعيد عن الشرع، جاءت لتحرك الوعي الخامل والخامد، منذ وقتٍ طويل. لقد حوت (المذكرة النصيحة) فقهاً رائعاً، وقدمت للحكم السعودي مختارات من القضايا الكبرى، وقالت إنها (إذا عولجت علاجاً صحيحاً شرعياً من ولاة الأمر، تيسّر بعد ذلك معالجة سائر المسائل دونها في الأهمية والخطورة). وتضمنت عرضاً لهذه القضايا، ونصائح لسبل إصلاح هذه القضايا ذات العلاقة، وتناولت: دور الدعاة والعلماء، وواقع الأنظمة واللوائح، والقضاء والمحاكم، والحقوق والكرامة الإنسانية، والوضع الإداري، والمال والاقتصاد، والمرافق الاجتماعية، والجيش، والإعلام، والعلاقات الخارجية… ولكن هذه (المذكرة النصيحة) بالرغم مما فيها من مسائل شرعية مهمة، إلا أنها جاءت خجولة وناقصة، حيث لم تتطرّق إلى الحل الجذري، وهو إقامة الخلافة الراشدة، ولم تتناول النظام الملكي، فتبين أنه ليس من الإسلام في شيء، ولم تتطرّق إلى الهيمنة الأميركية على البلاد، بمعنى آخر، لقد تعاملت هذه (المذكرة النصيحة) مع النظام السعودي، لا على أنه غير إسلامي يُراد تغييره، بل على أنه نظام إسلامي يُراد إصلاحه وخاطبت الحكام بأنهم ولاة أمر. وهذا هو لبّ المشكلة. ولكن كيف تعامل النظام السعودي مع هذه المذكرة ومع موقّعيها، الذين لم يظهروا إلا نيّة الإصلاح؟.

لقد أوعز النظام السعودي، إلى (هيئة كبار العلماء) التي يترأسها المفتي العام للسعودية، ابن باز، بإصدار بيان يشجب هذه المذكرة، ويتهم الذين قدموها بسوء النية. وكان حوالي نصف أعضاء (هيئة كبار العلماء) قد أيّدوا (المذكرة النصيحة) دون أن يوقعوها، ولم يوافقوا على البيان الذي أصدرته (هيئة كبار العلماء). فأرسل الملك فهد رسائل خاصة، إلى سبعةٍ منهم في 2/12/92م يبلغهم فيها الإعفاء من عضوية الهيئة، وأعلن الإعلام السعودي، أن سبب الإعفاء هو حالتهم الصحية. وقبل إعفاء هؤلاء رسمياً، كان الملك فهد قد عيّن مكانهم عشرة أعضاء جدد. وفي 19/12/92م دعا الملك إلى عقد مؤتمر في قصره، في المدينة المنورة، وحاول فيه أن يظهر، أن لا خلاف بينه وبين العلماء، وأنه متمسك بالدين، وحذر من توجيه نصائح بشكل علني، وحذر من استخدام المنابر في بث الآراء التي لا توافق سياسة الدولة، وكان مما قاله الملك فهد في المؤتمر: “بدأنا نرى، من سنتين، أموراً ما كنا نعرفها، ولا كانت موجودة عندنا نهائياً”.

ثم راح النظام السعودي، يضيّق على العلماء الذين رفضوا هذا الواقع، ورفضوا الخضوع لتعليمات الملك التي يتلقاها من بوش الأب، ومن هؤلاء سلمان العودة، وسفر الحوالي الذي صار يلقي الخطب، محذراً الناس والحكام والعلماء، من المكائد التي تكاد للمسلمين من أميركا والغرب، وكتب رسالةً مطوّلة من 115 صفحة، وقدّمها للعلماء، وقال لهم فيها: إنه لا يشرح لهم الأحكام الشرعية؛ لأنهم يعرفونها، ولكنه يشرح لهم الواقع، أي مناط الأحكام الشرعية. ويبيّن أن الأمر ليس استعانة من السعودية بأميركا وحلفائها، بل هو احتلال أميركي للسعودية والخليج، وفي هذا الصدد نقل تصريحات المسؤولين الأميركيين والأوروبيين، التي تبيّن خططهم وأهدافهم الاستراتيجية، ونظرتهم المعادية للإسلام والمسلمين، وأهمية السعودية في السياسة الأميركية، ودور اليهود في هذه السياسة، وأوضح أن كل ما يحدث مخططٌ له أميركياً… لذلك كان مناط الحكم مختلفاً، وبالتالي لم تعد المسألة تتعلق بالحكم الشرعي الذي يقول بجواز الاستعانة بالكفار أو عدم جوازها، بل بالحكم الشرعي الذي يتعلق بالاحتلال الأميركي للسعودية والمنطقة. وذكر كلاماً لا تسمع مثله من عالم في السعودية، حيث يقول تحت عنوان (ليست استعانة بأميركا، بل أميركا تفرض سيطرتها):

–  هل من الاستعانة أن يكون المستعان به جيوشاً غفيرة، ورايات كثيرة، وبحيث يصبح عددهم 8 أضعاف الجيش المستعين؟

–  هل من الاستعانة أن يكون لبوش الأمر والنهي، ولغيره من الحكام الطاعة؟

–  هل من الاستعانة أن يكون الجندي المسلم شبه أعزل، والجندي الكافر مدجّجاً بالسلاح؟

–  هل من الاستعانة بناء المدن العسكرية داخل المدن…

نعم أخذت السعودية، تضيق على أمثال هؤلاء العلماء وتعمل على محاصرتهم، حتى لا تمتد خيوطهم خارج سيطرتها، ومن ذلك ما حدث مع سلمان العودة وسفر الحوالي، فقد كتبا إلى ابن باز، بناءً على طلبه، ما جرى لهما مع وزارة الداخلية، فقالا: إنهما دعيا في 10/4/1414هـ للقاء وزير الداخلية، الذي لم يحضر، بل حضر وكيل الوزارة، ومدير المباحث، مع مندوبَين من وزارة الأوقاف. وفي اللقاء منع كل منهما من المناقشة، وقرأ عليهما وكيل الوزارة اتهامات، وقال إن مهمة المندوبَين الشهادة فقط، وطلب منهما التوقيع على تعهّد معدّ سلفاً. أما الاتهامات فهي قولهم: إن السياسة جزءٌ من الدين، وإن المساهمة في البنوك الربوية حرام، وإن العالم الإسلامي يتعرّض لهجمةٍ صليبية، وإن الجهاد واجب ضد اليهود،… وأما التعهّد والإقرار فهو: الاعتذار عن جميع التجاوزات السابقة، والتعهّد بعدم تكريرها، وعدم الإجابة عن أي سؤال مهما كان، وإحالة ذلك للجهات المختصّة، وعدم التعرّض لأي أمرٍ له علاقة بالدولة، والتعهّد بعدم الاتصال بالخارج، لا بالهاتف، ولا بالفاكس، ولا بأي إنسان له نشاط. ثم قامت الدولة بعد ذلك باعتقالهما، وبقيا في السجن لمدةٍ تزيد على الخمس سنوات، ولم يفرج عنهما إلا قبل سنتين من حدوث تفجيرات 11 أيلول تقريباً. وبهذا الحصار والاعتقال استطاعت الدولة السعودية أن تضيّق عليهما، وتحاصرهما، وتمنعهما من القيام بأي عملٍ جماعيٍ تغييريٍ ضدها. ومن المتوقّع أن تكون الدولة السعودية قد حاولت، أن تأخذ تعهّداً منهما، شبيهاً بالتعهّد الذي ذكرناه سابقاً قبل الإفراج عنهما. ولكن هل استطاعت أخذه؟ أم لا؟ فهذا ما ستنبئ به الأيام المقبلة الحبلى بالأحداث الجسام.

هذا ما حدث في السعودية، مع العلماء الصحويين، من جرّاء الحرب الأولى، التي شنّتها أميركا على العراق سنة 1991م. ولما جاءت الحرب الثانية سنة 2003م، وقفت السعودية نفس الموقف الذي وقفته سنة 91م، ولكنها حاولت أن تخفي، قدر الإمكان، مساعدتها لأميركا، لأن أوضاعها الداخلية لا تسمح بذلك، بسبب وجود تعاطف كبير، عند المسلمين، مع ابن لادن ونهجه، وهي بمساعدتها العلنية، كما فعلت سنة 91م ستفتح على نفسها باب القلاقل والاضطرابات… ولكن مع وجود الفضائيات والإنترنت، لم يعد من السهولة إخفاء الحقائق، واقتربت حالة الوعي على الإسلام، عند مسلمي السعودية وخارجها، من بعضها البعض، بعد أن كانت ضئيلة منعزلة، وانكشفت سوءة النظام السعودي أكثر من أي وقتٍ مضى، وظهر تآمره مع أميركا على الإسلام، والرمي معها عن قوسٍ واحدة ، ولم يستطع العلماء الأجراء أن يغطوا جرائمه، ولم تعد حجتهم مقبولة، بل أصبحوا هم والحكام مسبّة الناس… ثم حدثت تفجيرات الرياض على خلفيّة ما ذكرناه، إلا أن هذه التفجيرات لم تكن في مصلحة الذين قاموا بها؛ لأنها أدّت إلى قتل أبرياء مسلمين، ولأنها حدثت في غير مكانها. وشدت الدولة على الفاعلين، وأعلنت الحرب عليهم، واعتبرتهم من الضالين، وقامت باعتقالهم، واستجوابهم، بالتنسيق مع الأميركيين، وأدخل هذا، ضمن ما يسمى محاربة الإرهاب، وهو في الحقيقة محاربة الإسلام. وجرى إدانتها من قبل علماء السلطة، وكذلك علماء الصحوة.

أما علماء السلطة فقد وصفوا الفاعلين بأنهم جهّال في الدين، وغلاة، وخارجون عن الحاكم، ولا يميزون بين الجهاد والإرهاب، ولا يوفقون بين النصوص.

وأما علماء الصحوة فقد أدانوا هذه التفجيرات، فاعتبر سلمان العودة، أنها تشكّل الشرارة الأولى، لإثارة الفتنة، والاحتراب الداخلي الذي يدمر الطاقات، ويهدر المكتسبات، ويعيق التنمية، ويؤخّر مسيرة الإصلاح والدعوة، ويفتح الباب أمام الطموحات الكامنة، والتناقضات المذهبية والقبلية والإقليمية والفقهية، وربما شكّل فرصةً مناسبةً للتدخلات الخارجية. ومثله فعل سفر الحوالي، حيث اعتبر أن مراعاة المصالح والمفاسد، من أهمّ ما على الدعاة والمربّين نشره، وتأصيله، وأسف أن تغيب هذه الحقائق عن بعض الدعاة، ويستجرّهم الحماس، ويستسلموا لأمواج الأحداث، من غير أن يميزوا بين ثبات مبدأ العداوة في الدين، وبين سعة أساليب التعامل مع المخالفين. واعتبر أن درء الفتنة هو المطلوب، ولو وجهت إليه تهمة التخاذل أو التخذيل، (فإن ذلك خيرٌ من أن يكال لك الثناء، ثم تلقى اللَّه وفي عنقك أنفس معصومة، وأموال مسلمة معصومة، أو أسرى من المسلمين بيد العدو، أخذهم غنيمةً باردة، وذرائع لأهل الكفر يتسلّطون بها على أهل الإسلام…). ثم إن الحوالي، سلم الفقعسي نفسه إلى السلطات السعودية عن طريقه، وحضّ الحوالي المطلوبين للجهات الأمنية على تسليم أنفسهم للسلطات السعودية، وأوضح أن السعودية تشهد حالياً، لدى أوساط مجموعة كبيرة من الشباب، وجود فريقين: أحدهما في دائرة العنف، والآخر في دائرة الميول الفكرية، وقال: “مسؤوليتنا تنحصر في هذه المرحلة بسحب مجموعات من دائرة العنف إلى دائرة الميول الفكرية التي تعتبر أسهل بكثير، في التعامل معها، وإعادة تأهيلها، مشيراً إلى أن الغلو في العمل والفكر، ليس محصوراً في السعودية فقط”.

هكذا نشأت هذه الفئة من العلماء، وهكذا كان موقفها من حرب أميركا على المسلمين في العراق سنة 91م. أما موقفها من حرب أميركا على المسلمين في العراق سنة 2003م، فلم يكن على المستوى المتوقع منها، ولم تكمل ما بدأت به سنة 91م، ولم يظهر عليها موقف مما قامت به الدولة السعودية، ولا أبدت رأيها في الدولة السعودية نفسها، ولا طرحت حلاً للمسلمين تقودهم على أساسه، بل ظهر عليهم موقف تستفيد منه الدولة السعودية، في مواجهة الجهاديين. وهنا لا بدّ من ذكر، أن هؤلاء العلماء، وإن كانوا لا يوافقون على تفجيرات الرياض، وموقفهم هذا موقف شرعي، إلا أن الشرع يوجب عليهم، أن يتوجهوا بالنصيحة الخالصة، لمن يخالفونهم الرأي من المسلمين العاملين الجهاديين، ومحاولة إقناعهم بما عندهم، من غير أن تستفيد الدولة السعودية، ولا أميركا التي تشنّ حرباً صليبيةً على الإسلام.

إن العمل الإسلامي في السعودية يحتاج إلى جذرية في التفكير، ويحتاج إلى عملية تغيير لا إصلاح، يحتاج إلى قيادة مبدعة، ملهمة، لا تنخدع بالواقع، قيادة تعرف أن تميّز بين واقع الناس، ومن حيث هو واقع إسلامي، يحتاج إلى الإصلاح، وواقع الدولة السعودية، من حيث هو غير إسلامي، ويجب تغييره، فتستفيد من الأول للثاني، قيادة تستطيع أن تملأ الفراغ، حتى لا يملأ بردات فعل، أو حتى لا تستفيد الدولة من هذا الفراغ…

إن الذين قدموا (المذكرة النصيحة)، لم يكن يجمعهم عملٌ منظّم، لذلك سرعان ما انفرط عقدهم، بعد أن واجهتهم الدولة، حتى يمكن القول إن هؤلاء العلماء، بتقديمهم (المذكرة النصيحة)، والاكتفاء بها، يكونون قد سجّلوا اعتراضاً فقط. وقد ساعد الدولة، في موقفها هذا، المفتي العام للسعودية ابن باز، ومن معه من أعضاء (هيئة كبار العلماء)، التي تمّ غربلتها من كل العناصر المعترضة. ولم يبق من علماء الصحوة إلا القليل من الذين رغم التضييق عليهم، واعتقال بعضهم، استمروا في طرح أفكارهم التي تتعلق بالصحوة، وبالتجديد، وإثبات حضارة الإسلام في مقابل فساد الحضارة الغربية، ومن ذلك الرد على بيان الستين مفكراً غربياً الذين هاجموا الإسلام، عقب أحداث 11 أيلول، واعتبروه أقلّ شأناً… ولكن من غير أن يشكلوا جماعةً أو حزباً أو عملاً منظماً، وبالتالي من غير أن يبلوروا فكراً واضحاً، ولا طريقة عمل شرعية، ولم يكن معهم أعضاء ملتزمون وإنما أتباع ومؤيدون يعملون على نشر ما ألف عن طريق الإنترنت والكتب…، وابتعد بعضهم عن مواجهة الدولة، وعن ربط المشاكل بها كسفر وسلمان، وركز بعضهم على كشف ما تقوم به الدولة من سياسات خاطئة، وخاصة ما قامت به من تقديم تسهيلاتٍ ومساعدات لأميركا، وإرسال فاكسات من الخارج إلى داخل السعودية تكشف تآمر آل سعود، وذلك كسعد الفقيه، ومحمد المسعري. وباختصار: لم يوجد عمل جديّ، لا للتغيير، ولا للإصلاح، وبقيت ساحة العمل فارغة.

إن الأجواء القاسية، والأوضاع الصعبة، وانكشاف موقف آل سعود من أميركا ضد المسلمين في حربها الصليبية عليهم سنة 1991م و2003م… كانت تشكّل أجواء طبيعية لولادة عملٍ منظّم، وتحتاج لمن يقودها، لمن يقدم لها برنامج عملٍ شرعياً وواضحاً. وقد كنا نرى أن نشأة هذه الفئة من العلماء عقب حرب سنة 91م كان يبشّر بخيرٍ كثير، والموقف الذي وقفه علماؤها كان مبعث أملٍ في حصول صحوة مميزة تنطلق من السعودية، لتلتقي مع مثيلاتها خارجها، ولكننا لم نجد ما كنا نتوقعه، ولم نجد جديداً من هؤلاء العلماء، مع أن الأحداث جدّدت نفسها، والاستعمار الأميركي اليوم، للمنطقة بات أقسى وأوضح، وتعامل النظام السعودي معها في حربها على العراق، وعلى الإسلام صار مكشوفاً… لم نجد فكراً تغييرياً لدى هؤلاء العلماء، ولا طريقة عمل، وإنما بعض أفكار إصلاحية، فيما يتعلق بداخل السعودية، وبعض كتابات تتعلق بالصحوة الإسلامية عامةً، يتجاوب معها عددّ لا بأس به من طلبة العلم الشرعي… وبقيت الساحة فارغة، والطريق خالية، وهذا ما يجعل السعودية متأخرة في العمل الإسلامي التغييري.

إن ما حدث في السعودية، يدفع العالم الغيور فيها لأن يهتم بأمر دينه وأمته، داخل السعودية وخارجها، إذ إن الدين واحد، والأمة واحدة، ولم يفرّقها إلا حدود مصطنعة، وإن المتتبع لواقع السعودية، يرى أن المشكلة الأساسية فيها، ليست هي مساعدة آل سعود للأميركيين، وتقديم التسهيلات المختلفة لأميركا في حربها على الإسلام والمسلمين، فهذا حرام، وحرمته قطعية، ويعتبر من الكبائر، ولكن الأكبر منه عند اللَّه، وعند المسلمين، أن هؤلاء الحكام لا يحكمون بما أنزل اللَّه، بل يسوسون البلاد والعباد بعيداً عن الشرع، وبما يحقّق مصلحة أسرتهم، ومصلحة بقائهم في الحكم، أولاً وأخيراً. من هنا كان وقوف حكام السعودية إلى جانب أميركا، في حربها على الإسلام والمسلمين، وكان ما قدمته السعودية لأميركا، نتيجة للحكم بغير ما أنزل اللَّه، وإفرازاً من إفرازاته، وعرضاً من عوارضه، إذ المرض الأساسي الذي يجب أن تنصبّ المعالجة عليه هو إقامة الحكم بالإسلام. فلو كانت المملكة السعودية دولة إسلامية، قائم دستورها على العقيدة الإسلامية، بحيث لا يتأتى وجود أي حكم فيه إلا وهو منبثق عن العقيدة الإسلامية، لما قامت بما قامت به، بل على العكس، لكانت واجهته… ومن العجيب أن لا يفطن علماء الصحوة على ذلك! أم أن الأمر يتعلّق بالموروث القديم، الذي لا يعرفون كيف يتخلصون منه وهو أن السعودية دولةٌ إسلامية، وحاكمها ولي أمر المسلمين فيها؟

ثم إن النظام السعودي، إذا كان في نظر العلماء فيه إسلاميا، فإنه يجب شرعاً منابذته بالسلاح، لأنه أظهر الكفر البواح، في كثيرٍ من الأحكام القطعية مما ذكرناه، ومما ذكرته (المذكرة النصيحة) من قبل، من مثل إجازتهم للربا المحرّم تحريماً قطعياً، وسنّهم لقوانين وضعية للجان المختصة في مختلف الشؤون، المحرم تحريماً قطعياً إن لم يؤدِ إلى الكفر، ومن مثل مساعدتهم لأميركا في حربها على الإسلام والمسلمين، وهذا محرّمٌ تحريماً قطعياً، ومن مثل الاعتراف بالقانون الدولي، والتحاكم إليه، وذلك من خلال اشتراكها في منظمة الأمم المتحدة، والمحكمة الدولية، وغيرها من المؤسسات الدولية وهذا محرّمٌ تحريماً قطعياً، ومن مثل الإقرار بتجزئة بلاد المسلمين، تحت اسم الاستقلال، بحسب ميثاق جامعة الدول العربية وهذا محرّمٌ تحريماً قطعياً، ومن مثل إعلان استعدادها للاعتراف بدولة يهود، والتطبيع معها، والصلح الدائم معها، وهذا حرام، وحرمته قطعية. روى مسلم والبخاري عن عبادة بن الصامت قال: «دعانا النبي صلى الله عليه وسلم، فبايعناه، فقال، فيما أخذ علينا، أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، قال: وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من اللَّه فيه برهان».

إن الأمر ليس كذلك، لأن حكام السعودية لم يقم حكمهم ابتداء على أساس الإسلام، ولم ينصب الحاكم فيها ببيعة شرعية، ولأن شكل الحكم ملكي وليس إسلامياً، ودستورها ليس إسلامياً لذلك لا ينطبق عليها الحديث، بل ينطبق على الدولة السعودية ما ينطبق على سائر الدول التي تحكم المسلمين بغير ما أنزل اللَّه.

إن الدولة السعودية ليست إسلامية، وتحديدها بذلك يقتضي من هؤلاء العلماء، أن يقفوا منها الموقف الشرعي الذي يتطلّبه، وهو العمل على جعلها دولةً إسلامية، وهذا يقتضي بدوره، التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم أي القيام بالأعمال التي قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل إقامة دولة الإسلام، وهذا الأمر، ليس بعيداً عن أهل نجد والحجاز، عن المهاجرين والأنصار، الذين كانوا سابقي هذه الأمة، إلى هذا الخير، مع الرسول صلى الله عليه وسلم وما لم يصل علماء السعودية إلى هذا المستوى من التفكير، وإلى هذا الصعيد من التغيير، فستبقى السعودية على ما هي عليه، من وجود حكام فسقة وفجرة، ووجود علماء يحترمونهم ويعتبرونهم ولاة أمورهم. حتى تأتيها الخلافة الراشدة من الخارج لتعيد لهذه الأمة عزّها المفقود عن طريق خلافة راشدة أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم أنها تأتي في آخر الزمان، وتكون على منهاج النبوة.

إن فهم واقع الحكم في السعودية على هذا النحو، وتبنّي الأحكام الشرعية التي تلزم للعمل بها، يجعل هذا العمل بمنأى عن ردات الفعل، التي غالباً ما لا تكون في مصلحة الدعوة، وتجعله بمنأى عن دائرة الاستيعاب أو الاستغلال من قبل العدو.

          إن فهم الواقع فهماً عميقاً، ودقيقاً، ومن ثم معالجته بالأحكام الشرعية، اللازمة له، تجعل العمل يسير بخطىً واثقة، ونحو هدفٍ شرعي ثابت، ويعتبر ما يحققه، هو الخير الذي يفتح باب تطبيق الشرع تطبيقاً كاملاً، وعندها ينتفي القول بمآل الأفعال. فالذي يعمل لإقامة الخلافة الراشدة، لا يرد في حقه ما يمكن أن يقال من أن عمله يثير الفتنة، أو الاحتراب الداخلي، أو يعيق التنمية، أو يؤخر مسيرة الإصلاح، أو يشكل فرصة مناسبة للتدخلات الخارجية…

كذلك، فإن الذي يعمل لإقامة الخلافة الراشدة، فإن التأسي بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، والقيام بكل الأحكام المطلوبة شرعاً، هو بحدّ ذاته فيه من الكفاية ما يغني عن مراعاة المصالح والمفاسد، او التمييز بين ثبات مبدأ العداوة في الدين، وبين سعة أساليب التعامل مع المخالفين.

إن ترديد القول، إن العمل في التغيير، يؤدي إلى فتنةٍ داخلية، هو في غير محله. لأن وجود هؤلاء الحكام على رؤوس المسلمين، ومنهم حكام السعودية، هم الفتنة الكبرى، وهم مفتاح كل شر، ومغلاق كل خير، وسبب كل ذلّ… تقع فيه الأمة اليوم.

إن العمل لإقامة الدولة الإسلامية، سواء كان في داخل السعودية أم خارجها، ليس من السهولة التي تشجع العلماء على سلوك طريق إقامتها؛ لأنها طريق خشنة، وعرة حفّت بالمكاره، فيها التشريد، والإهانة، والتكذيب، والاعتقال، والتعذيب، وتبدل الحال، من عالم يزار، إلى عالم يطعن فيه وبعلمه، ويلاحق بقسوة، أو يعتقل ويعذب ويهان، وتحصى عليه أنفاسه، او يعيش متخفياً مستضعفاً هو ومن معه.

إن العمل لإقامة دولة إسلامية، يحتاج إلى نفوس كبار، تعبت في مرادها الأجساد، إلى نفوس تضع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته أمامها، فتتعلم منهم شدة الإيمان والثبات، والصبر، وقول الحق والقيام به من غير أن تأخذهم في اللَّه لومة لائم، إلى نفوس يكون أصحابها أحباب رسول اللَّه الذين أخبر عنهم أن أجر أحدهم بأربعين من أجر الصحابة، وشهيد أحدهم بأربعين من شهدائهم. لأنهم يأتون في آخر الزمان، ولا يجدون على الحق أعواناً، ويحاطون بالظالمين من كل مكان.

إن وعد اللَّه سبحانه بالاستخلاف والتمكين هو لمن يتصف بالإخلاص الخالص للَّه سبحانه وحده. ونسأل اللّه أن يوفق هؤلاء العلماء لأرشد أمر المسلمين، وأن تتضافر جهودهم مع جهود من سبقهم لتؤتي ثمارها خلافةً راشدة على منهاج النبوة فيلتقي خير نجد والحجاز مع خير الشام في عمل يجعل شيطان أزب العقبة يصرخ من جديد .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *