العدد 197 -

السنة السابعة عشرة – جمادى الثانية 1424هـ – آب 2003م

مفهوم مضلِّل «الخلافة أُمْنية»

مفهوم مضلِّل

«الخلافة أُمْنية»

  منذ حوالي أربعين عاماً قرأت في الصفحة الأولى من صحيفة محلية على لسان أحدهم، وكان قاضياً للقضاة ويدرس في الأقصى أسبوعياً قبل الجمعة، قرأت قولاً منسوباً إليه ومفاده أن الخلافة فتنة، ورأيت الليلة 18 ربيع الثاني/1424هـ على قناة اقرأ أحدهم يقول الخلافة أُمنية، وهذا القائل يعمل مفتياً. وإنما ذكرت وظيفتيهما لبيان عظم مصيبة التضليل التي تعاني منها الأمة، فوصف الخلافة بالفتنة من قاضي قضاة ووصفها بالأمنية من مفتٍ أمرٌ مؤلم، وذلك لما يلي:

  أولاً:  القول بأن الخلافة أو العمل لها فتنة مفهوم مقلوب تماماً، أخرج الخلال في السنة عن محمد بن عوف بن سفيان الحمصي قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: «والفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس». والصواب أننا الآن في فتنةٍ بل في أكثر من فتنة ولا يخرجنا منها إلا الخلافة على منهاج النبوة التي وعدنا بها. ومعلوم أن إيقاظ الفتنة حرام فيكون العمل لإقامة الخلافة – حسب هذا الرأي – حراماً لأنه فتنة أي أن الفرض يصير حراماً وهذا قلبٌ واضحٌ للمفهوم، اللّهم اغفر للمسلمين.

  ثانياً:  الخلافة ليست مجرد أُمنية بل هي الفرض الذي تقام به الفروض والأدلة على ذلك الكتاب والسنة والإجماع.

  أما الكتاب فقوله تعالى (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) [آل عمران] ووجه الاستدلال في هذه الآية على وجوب إقامة الخلافة كائن في قوله تعالى (جميعاً) فالمعنى اعتصموا بحبل اللَّه حال كونكم جميعاً لا متفرقين، فجميعاً تعرب حالاً ومعناها الجماعة كما ورد في حديث عرفجة عند مسلم قال سمعت رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يقول: «من أتاكم وأمركم جميع على رجلٍ واحدٍ منكم يريد أن يشقّ عصاكم أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه» فالجميع والجماعة معناهما واحد، والقرينة على الوجوب نهيه تعالى في الآية عن التفرّق، وأمره (صلى الله عليه وسلم) في الحديث بقتل المُفَرِّق.

  ومن الكتاب أيضاً قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) [النور] ووجه الاستدلال موجود في قوله سبحانه: (ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) والكفر هنا هو كفر نعمة الاستخلاف والتمكين والتبديل، ويكون بجحودها وبعدم المحافظة عليها بعد تحققها وبالسكوت على ضياعها بعد فقدانها. فهذا النص وإن كان بصيغة الخبر إلا أنه أريد به الطلب أي المحافظة على النعمة وعدم جحدها والنهي عن السكوت على ضياعها، ومن فعل فقد كفر هذه النعمة واستحق وصف الفسق. ويدل على أن الآية خبر أريد به الطلب الآية المعطوفة عليها وهي قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون) ولولا أن آية الوعد فيها معنى الإنشاء لما جاز العطف.

  والدليل على وجوب إقامة الخلافة من السنة حديث عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما عند مسلم قال: سمعت رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يقول: «من خلع يداً من طاعة اللَّه لقي اللَّه يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهلية» وكذلك حديث عرفجة السابق والأحاديث التي تأمر بالجماعة وتنهي عن الفرقة، لأن الجماعة لا تكون إلا على إمام، أي على رجل واحد.

  أما إجماع الصحابة على وجوب تنصيب خليفة خلال ثلاثة أيام فما أخرجه ابن سعد بإسناد صحيح عن ابن عمر: «ثم قال «يعني عمر» قوموا فتشاوروا فَأَمِّروا أحدكم… فقال عمر أمهلوا فإن حدث بي حدث فليصل لكم صهيب ثلاث ليالٍ ثم أجمعوا أمركم فمن تأمر منكم على غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه».

  فإقامة الخلافة على منهاج النبوة ليست أُمنية، بل فرض تقام به الفروض، دونه حز الرقاب، وصراع الكفار والمنافقين، فكرياً حتى تقام، وفكرياً ومادياً حتى يتم البناء، وتثبت الأطناب، ويتسع الفسطاط، ويربض النفاق وأهله، وتنفرد سالفة الكفر، ولا تنفرد إلا بفلق الرأس. ومن يقول بأن الخلافة أُمنية يضلل ويصرف النظر عن كونها فرضاً تقام به الفروض، وواجباً ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة.

  ثالثاً:  معنى التمني أن إقامتها وهم يتمنى تحققه المتمنون، وهذا الوهم أو هذه الأمنية غير قابلة للتحقيق في أرض الواقع، فكأنه يقول اتركوكم من الأماني والأوهام وعيشوا الواقع، ولا أدري إن كان هذا القائل قد أدرك أبعاد ما يقول، وعرض هذا القول المرعب على قواعد الإسلام؟ لأن مقتضى قوله أن نترك التمني والعمل، ونخلد إلى ما نحن فيه. وما أظن أن اللَّه سبحانه يقبل منا ذلك لأن العمل لإقامة الخلافة فرض لا يحل القعود عنه كما ورد سابقاً، وكونه أمنية لا يبيح القعود. وحتى لو كان المقصود بالأمنية أنه محال فهو فهمٌ مغلوط لأن اللَّه سبحانه لم يكلفنا المحال وإنما كلفنا ما نستطيع، فما دام اللَّه قد كلفنا إقامتها فهي من المستطاع لا المحال، ولكن الذي يحب الدنيا ويكره الموت يصنفها بالمستحيلات، خلافاً لرسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) الذي أوذي فصبر حتى أظهر اللَّه دينه، وكان من مكرهم ما ورد في قوله تعالى: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) وهذا المكر لم يكن مسوغاً للقعود عن إقامة الدولة وحمل الدعوة.

  هذا من ناحية ومن ناحيةٍ ثانية فإن الخلافة على منهاج النبوة ليست مجرد أمنية بل هي وعدٌ من اللَّه ولن يخلف اللَّه وعده، وعدٌ من اللَّه في آية الوعد بالاستخلاف والتمكين وتبديل الخوف أمناً. وقد بشّر رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) بخلافةٍ آخر الزمان في أحاديث بلغت حد التواتر المعنوي. أي أن فكرة قيام دولة الخلافة على منهاج النبوة آخر الزمان قد تواترت معنوياً. فكيف يقال بعد الآية والتواتر المعنوي أن الخلافة أُمنية؟!! فوالذي قوله الحق ووعده الصدق إنها لكائنة إن شاء اللَّه .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *