العدد 195 -

السنة السابعة عشرة – ربيع الثاني 1424هـ – حزيران 2003م

حمل الدعوة في العالم الغربي

حمل الدعوة في العالم الغربي

          لا شك بأن حكم فرضية الدعوة إلى الإسلام من الناحية الشرعية هو أمر ملزم لكل مكلف من المسلمين، كل بحسب طاقته ومسؤوليته وصلاحياته إذ إن الدعوة إلى اللّه هي نمط حياة الذين يتبنون الإسلام طريقة عيش فيها. وهو ليس مجرد دين عزلة لا فاعلية له في الحياة. إنه دين استخلف الإنسان في الأرض لعمارتها وإحياء دين اللّه كالحصن المنيع والسور المتين اللذين يحميان ويحفظان على الأمة دينها من كل لثم وأذى. ولقد تحدث الكثيرون عن أحوال المسلم بوصفه الفردي كداعية اللَّه. إلا أنني سأتجاوز في مقالتي هذه الناحية من حمل الدعوة إلى الحالة الجماعية وخصوصا إلى الدعوة التي تتبناها الكتلة الإسلامية وتمثلها.

          كما سألتزم معالجة النواحي التي تتعلق بحمل هذه الكتلة الدعوة تحديدًا في بلاد الغرب، وذلك حتى يتم إدراك المقصود بحديثنا هنا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

          ولمعرفة ما يجب أن يكون عليه سير الكتلة في الغرب، كان لا بد من معرفة واقع حال العالم الغربي وأحوال المسلمين فيه حتى نلم بما يمكن أن نتصوّره من عمل تكتلي مجدٍ ومفيد ومساهم في تحقيق الغاية التي نشأت من أجلها الكتلة الإسلامية. وليس من العجب القول في هذا المقام إن انكشاف الواقع الغربي على ما هو عليه من السوء والحقد والكراهية للإسلام وبالتالي للمسلمين عموما والملتزمين بدينهم خصوصا هو عين الحقيقة وليس أمرًَا عابرًا ناتجًا عن ردة فعل تذهب مع الوقت. فإعلانهم عن بدء الحروب الصليبية الجديدة كما أورد بوش، وانتصار حضارتهم وتفوقها على الإسلام كما ذكر برلسكوني رئيس وزراء إيطاليا، وما إلى ذلك من تعامل الغرب مع قضايا المسلمين عموما وما يتضمنه من ظلم واستغلال واستهتار بأبسط حقوقهم واضح جلي.فها هي فلسطين وأخواتها أفغانستان والشيشان وكشمير والعراق وآسيا الوسطى وغيرها كثير، تئن وتصرخ تحت وطأة الظلم والفقر والاضطهاد بسبب تآمر الغرب عليهم. كذلك أيضا ما تعانيه الجاليات المسلمة التي تقطن في الغرب من التمييز العنصري والديني والنظرة الدونية التي لا تخفى على أحد. إضافة إلى محاولتهم القضاء على أي حركة للنهضة أو الصحوة أو الثورة على الأوضاع البائسة التي يعيشها المسلمون في أنحاء العالم. كل ذلك مشاهد ومحسوس لدى الجميع.

ويخطئ من يتصور أن مفكرين مثل فوكومايا وصموئيل هنتغنتون (المعروفين بنظريتيهما اللتين تدعوان لسحق الإسلام) هما مجرد مؤلفين أو كاتبين من الهواة يريدان أن يُبرزا مواهبهما في عالم الفكر والسياسة. بل إن القراءة الجادة والمتابعة المعمقة للأحداث والمطالعة لمختلف البحوث والتقارير تشير إلى أنهما جزء من مجموعة لا تقلّ عنهما تصلّبًا وتبجّحًا ترسم التصور الاستراتيجي لسياسة الدولة الأولى في العالم التي تجعل من الإسلام العدو الأول والمنافس المستقبلي والخطر الداهم والمهدد لحضارتهم ورفاهيتهم وخصوصًا إن مُكِّنَ له في كيان سياسي مبدئي. فما يذكره صموئيل هنتغتون مؤلف كتاب صدام الحضارات في مقالة له تحت عنوان “عصر حروب المسلمين”:

“إن حروب المسلمين قد احتلت مكانة الحرب الباردة كشكل أساسي للصراع الدولي. وهذه الحروب تتضمن حروب الإرهاب، حروب العصابات، الحروب الأهلية والصراعات بين الدول. إن هذه الأمثلة الشاهدة على عنف المسلمين قد تصل إلى نقطة الانعقاد وتعقد للأمور ووصولها إلى مرحلة صراع رئيسي واحد بين الإسلام والغرب أو بين الإسلام وباقي العالم”.

و لا أريد في هذه المقالة سوق الأدلة على هذا التصوير لواقع العالم الغربي وما يحمله من أمنيات خالصة بالقضاء على الإسلام وأهله، خصوصا أن الشواهد العملية التي يعيشها المسلمون سواء في العالم الإسلامي أو بلاد الغرب لا تدع مجالا للتشكيك في هذه الحقيقة فضلا عن أن هذه الحقيقة قد أثبتها القرآن الكريم بقوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) [البقرة/120] قال ابن كثير تفسيره “وليست اليهود يا محمّد ولا النصارى براضيةٍ عنك أبدا..” وقد استدلّ كثير من الفقهاء بقوله: (حتى تتبع ملتهم) حيث أفرد الملّة على أنّ الكفر كلّه ملّة واحدة” ومن هنا فإني لا أود أن أغرق في توصيف ماهية التصور الغربي عن المسلمين لأن ما يحياه المسلمون ويشاهدونه في هذا المجال يكفي، وكما يقال فإن كلام السيف يغلب كلام القلم.

          أما بالنسبة للكتلة الإسلامية فقد وضعت غاية لها منبثقة عن العقيدة الإسلامية التي تجعل العبودية للَّه هي غاية وجود الخلق (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات] ولذلك كانت غايتها هي استئناف الحياة الإسلامية وإعادة صياغة مجتمعات المسلمين صياغة إسلامية من حيث بناء العلاقات والقوانين التي تحكم حركة سير المجتمع بناء إسلاميا خالصا. ولذلك كانت إقامة الدولة الإسلامية المتمثلة بالسلطان السياسي المستند إلى القوة المادية هي رأس الأولويات وأولى الخطوات لإيجاد هذه الغاية إذ إنها الطريقة العملية الوحيدة لاستئناف الحياة الإسلامية.

          ولذا فإنّ إدراك واقع المسلمين بأنهم لا يعيشون العيش الطبيعي، أو يعيشون على هامش المجتمع في البلدان الغربية، وإن قصدهم من إقامتهم على الأغلب هو الدراسة أو تحسين أوضاعهم الاقتصادية أو طلبًا للجوء بسبب أوضاع سياسية أو اقتصادية أو ما شاكل، يجعلنا ندرك أنهم ليسوا شريحة أساسية من نسيج المجتمع الغربي وهم بغض النظر عن الفترة الطويلة التي قضوها في بلاد الغرب فإنهم يعاملون كغرباء وأجانب في تلك البلدان. أضف إلى أن السياسة التي يسلكها الغرب إزاء المسلمين لا تُمكّن المسلم وخصوصا حامل الدعوة من الانخراط في المجتمع وتقبله وهضمه لأن الغرب يتوجس القلق والخوف من المسلمين ولأن المسلم لا يمكن أن يكون ولاؤه إلا لدينه وهو جزء من أمة لا يستطيع الانفصام والانفصال عنها. ولذلك فإن برامج الاندماج ومحاولات تذويب المسلمين غالبا ما يصيبها الفشل. وبالتالي يبقى المسلمون القاطنون في الغرب غير متجذرين في المجتمع الغربي ووجودهم مهدد دائما بالترحيل أو حملات الانتقام، حتى وإن كانوا حائزين لجنسية تلك البلدان، وما أحداث أوكلاهوما وأحداث 11 سبتمبر إلا شاهدين عابرين على ذلك حيث رأينا حصول الفرز الطبيعي والانفصال بين المسلمين والغربيين عموما وما هذا إلا نتيجة طبيعية لأزمة الثقة التي يعاني منها الطرفان نتيجة لما سبق شرحه.

بناء على ما سبق وفي ظل هذا الواقع أستطيع أن أحدد نقاطا عامة يجب الوقوف عليها لكي تقوم الكتلة بخدمة الدعوة التي نذرت نفسها لها ووضعتها نصب عينيها.

  1. يجب أن تبقى الكتلة متيقظة إلى أنها جزء من كتلة عالمية لها غايتها المحددة وأن لا تنفصل عنها لا فكريا ولا شعوريا ولا إداريا، ولا من ناحية الاهتمام بقضايا الأمة الإسلامية (أي عدم جعل القضايا المحلية هي همها الأول وأساس تفكيرها). وأما ما سوى ذلك من ناحية الوسائل والأساليب المتاحة لها في الغرب فعليها أن تبدع قدر المستطاع باستغلالها بما يفيد وينتج ويساعد في تحقيق الغاية.

  2. يجب ابتداءً أن لا تكون حركة الكتلة عبثية أو مضطربة، أي أن لا تخضع لردود الأفعال أو الهبّات والحماسة مما يؤدي إلى وقوعها بالكثير من الأخطاء التي تسبب الإحباط والقعود أو تثقل الكتلة بأعباء ومعوقات هي أصلا بغنى عنها ولا تنقصها. بل يجب أن تكون خاضعة لرؤية عميقة، مدركة الأبعاد، بعيدة عن الانفعال، آخذةً بعين الاعتبار الواقع القائم في العالم الغربي والغاية التي حدّدتها الكتلة لنفسها.

  3. حامل الدعوة في هذه الكتلة عليه أن يضع دعوته نصب عينيه. فيكون حيث تلزمه الدعوة أن يكون. وأن لا يؤثر المصلحة الشخصية على حساب دعوته. وعليه أن يضع تصوّرًا للمكان الذي يتناسب مع إحياء دعوته ويعمل بجد لكي يتواجد فيه.

  4. أن تركز الكتلة على المسلمين ابتداءً لحفظ هويتهم وعدم ذوبانهم ومحاولة كسب ثقتهم ولفت انتباههم إلى أنهم جزء لا يتجزأ من الأمة الإسلامية وإقناعهم بالرجوع إلى حيث يمكن حفظ دينهم وأبنائهم إذ إن الخطر عليهم داهم واللَّه يقول: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) [التحريم] “ذكر الإمام القرطبي في تفسيره “الملائكة الزّبانية غلاظ القلوب لا يرحمون إذا استُرحموا خلِقوا من الغضب، وحبِّب إليهم عذاب الخلق كما حبِّب لبني آدم أكل الطعام والشراب”.

          وأن يذكروهم بربهم وينبهوهم لعدم الركون إلى الدنيا والفرح بما هم فيه من رخاء وبحبوحة مؤقتة يستدرجون من خلالها بواسطة قوانين الكفر وعلاقات المجتمع وقيمه المتعارضة مع قيم الإسلام وأخلاقياته لترك دينهم أو إهمال أحكامه فيدمجون فيها ويسلب دينهم منهم وهم على غفلة أو صحوة لقاء هذا المتاع القليل.

  1. أن تقوم الكتلة بمحاولات جادة متقصدة للكسب عمومًا وخصوصًا من أبناء المسلمين من الجيل الجديد الذي لم يعرف الوطن الأصلي وولد وترعرع في الغرب والعمل على صقلهم وتركيز الثقافة الإسلامية فيهم لكي يكونوا النواة لحمل الدعوة لنظرائهم ولمن استطاعوا من أهالي البلاد لمعرفتهم ودرايتهم نظريا وعمليا بما عليه الناس هناك. وكذلك تقصّد من أتى من المسلمين لفترة مؤقتة بقصد الدراسة أو التجارة وربطهم بالكتلة في العالم الإسلامي عند رجوعهم إليها.

  2. إن على أفراد الكتلة اعتبار أن البلد الغربي الذي يعملون فيه غير إسلامي. والكتلة لا تخوض فيه الصراع والكفاح السياسي، وإنما تعرض الإسلام وتبيّن عظمة أفكاره، وصدق أحكامه، ووجوب التمسك به؛ لذلك على أفراد الكتلة التنبه من الانجرار إلى الأعمال التي لا تفيد الدعوة، ويغلب عليها إثارة الضجيج واستفزاز الآخرين وتخويف الناس منها. خاصة وأنها تعلم أنه لا يوجد هدف مباشر من ذلك مرتبط بغايتها، فإن ذلك سيكون له غالبًا ردات فعل عكسية، تمكن سلطات البلد الذي يعيشون فيه من العمل على تشويه صورة الكتلة، والتشكيك بالفكر الذي تؤمن به.

  3. الاستفادة من الرخاء المادي والوقت المتوفر في استخدام كل الوسائل الحديثة لنشر فكرة الكتلة والاتصال بقصد الكسب وتوفير الأبحاث والتحاليل والتقارير التي تفيد الكتلة في سيرها وتغذية المسؤولين بها فيوفرون كثيرًا من الجهد والتعب عليهم. وهذا أمر في غاية الأهمية وخصوصا إن تمّ تنظيمه بالشكل الذي تستغلّ فيه القدرات المتواجدة لتشكيل مركز موحد للمعلومات يستمد الجميع منه ما يلزمهم لفهم ما يجري ويعينهم على إيجاد التصورات الدقيقة لواقع ما يحصل. فتنوع مصادر المعلومات ورؤية الحدث من أكثر من زاوية يعمق وينضج شباب الكتلة ويساعد في ارتقاء فهمهم.

  4. الحذر من انعكاس فكرة وجود شباب الكتلة بشكل مؤقت في بلدان الغرب إلى انعدام جدوى حمل الدعوة فيها كونها ليست مجالا مباشرا لإقامة الدولة الإسلامية وبالتالي الاكتفاء فقط بالاهتمام بترتيب المصالح الشخصية بحجة قصد الرحيل ولو بعد زمن. إذ إن ترابط العالم اليوم بالشكل الهائل الذي نراه جعله بحق قرية صغيرة يستطيع المرء فيها أن يؤثر بالآخرين وبالأحداث حتى في المناطق البعيدة من غير أن يكون فيها. وإن عدم الالتفات إلى هذه الناحية يحوّل هؤلاء الشباب تلقائيا من حملة دعوة إلى طلاب دنيا ويهبطون بالتالي إلى مستوى بقية الناس الذين لا همّ لهم إلا تجميع المال والحصول على الثروة. مما يسبّب سقوطهم وعدم صلاحيتهم لأن يكونوا روادًا وقياديين لهذه الأمة فيكسبون إثما مضاعفا لعلمهم بما يجب عليهم فعله وتقاعسهم عن أدائه.

  5. إنفاذ القوانين الإدارية اللازمة مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات بين واقعي العالم الإسلامي والعالم الغربي وإيجاد الآليات التي من شأنها حشد طاقات الشباب بشكل يؤدي إلى إشعار الجاليات بقوة الكتلة وصدقها وأنها تحمل همّها لتكون كلمتها مسموعة فيها، مما يعني دوام إيجاد الصلة بين حملة الدعوة وعموم الناس وخصوصا من يُتصور إخلاصهم وحرصهم وإن خالفوا الرأي ما دام في إطار الإسلام، والتركيز على القضايا الحيوية التي تعيشها الأمة وعدم الغرق بالنقاش في تفاصيل تفسخ اللحمة وتبعد الشقة وتوجِد جوًا مشحونًا يكون أثره سلبيا على الجميع وخصوصا في المواضيع التي تطرح ولا تسمن أو تغني من جوع.

  6. البحث الدائم والتركيز على إيجاد الأعمال المفيدة والمرتبطة بالغاية لكي يبقى الشباب في أرقى حالات التنبه وبالمستوى اللائق كقادة حقيقيين للأمة فلا ينتابهم الملل والضجر وخاصة في ما يتعلق بربطهم بقضايا الأمة بشكل عام وجعلها هي الأساس في تفكيرهم وتوضيح دورهم وجدواه في خلاص الأمة عموما وأنهم غير معزولين عمّا يحدث لها وحثّهم على الإبداع بإيجاد أعمال من شأنها أن تخفف الوطأة عن إخوانهم في أماكن أخرى أو تعينهم مما يؤدي إلى الشعور باللحمة والتواصل وإدراك أنّ الجميع يعمل في كتلة واحدة من أجل هدف واحد.

          أخيرا؛ إبقاءً لقول اللّه تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون) [الأنفال].

          نبراسا يضيء الطريق وهديًا لا يغفل عنه حملة الدعوة كما قال الإمام الطبري في تفسيره “استجيبوا للّه وللرّسول بالطاعة إذا دعاكم الرّسول لما يحييكم من الحقّ والإجابة إذا دعاكم إلى حكم القرآن وفي الإجابة إلى كلّ ذلك حياة المُجيب واعلموا أيّها المؤمنون أيضًا مع العلم بأنّ اللَّه يحول بين المرء وقلبه أنّ اللَّه الذي يقدر على قلوبكم وهو أملك بها منكم إليه مصيركم ومرجعكم في القيامة فيوفّيكم جزاء أعمالكم المُحسن منكم بإحسانه والمُسيء بإساءته فاتّقوه وراقبوه فيما أمركم ونهاكم هو ورسوله أن تُضيّعوه وأن لا تستجيبوا لرسوله إذا دعاكم لما يحييكم فيوجب ذلك سخطه وتستحقّوا به أليم عذابه حين تُحشرون إليه” .

حسن عبد الحميد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *