العدد 189 -

السنة السابعة عشرة – شوال 1423هـ – كانون الأول 2002م

مفهومٌ مضلِّل «أخذُ القروضِ لشراءِ المساكنِ في الغربِ»

مفهومٌ مضلِّل «أخذُ القروضِ لشراءِ المساكنِ في الغربِ»

 

أفتى أكثر من رأس على القنوات الفضائية بجواز أخذ القروض من البنوك برباً لشراء المساكن في الغرب، وزعم أحدهم أن الدليل على الإباحة رأي الأحناف وقاعدة الحاجة تنزل منزلة الضرورة. ونكتفي هنا ببيان التضليل في إباحة دفع الربا لشراء المساكن:

ــــــــــــ

         فالقول بأن الأحناف أباحوه، أي أباحوا دفع الربا فخطأ، فإن أبا حنيفة ومحمداً رحمهما الله قد أباحا أن يأكل المسلم الربا في دار الحرب لا أن يدفعه، وخالفهما أبو يوسف، وكلام أبي حنيفة في هذه المسألة نقله أبو يوسف في الرد على سير الأوزاعي ونقله الشافعي في الأم، ولم يختلفا إلا في لفظ الدرهمين فنكرها أبو يوسف وعرفها الشافعي بالألف واللام وهذا نص كلام أبي حنيفة كما رواه تلميذه أبو يوسف: “قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لو أن مسلماً دخل أرض الحرب بأمان فباعهم الدرهم بدرهمين لم يكن بذلك بأس لأن أحكام المسلمين لا تجري عليهم، فبأيِّ وجه أخذ أموالهم برضاً منهم فهو جائز”. ورأي أبي حنيفة واضح في موقعين أنه إنما أراد أخذ المال لا إعطاءه، أولهما قوله: “فباعهم الدرهم بدرهمين” فالمبيع هو الدرهم والثمن هو الدرهمين، وأصرح منه قوله: “فبأيِّ وجه أخذ أموالهم” وهذا صريح في أن الربا الجائز عنده هو أخذ أموالهم لا إعطاءهم ماله. وهذا واضح عند فقهاء الأحناف وغيرهم ممن حكوا كلام أبي حنيفة ومحمد. هذا نص كلام أبي حنيفة أما كلام محمد كما ورد في السير الكبير فهذا نصه: “وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فلا بأس بأن يأخذ منهم أموالهم بطيب أنفسهم بأيِّ وجه كان… قد بيَّنا أن للمستأمن في دار الحرب أن يأخذ مالهم بأيِّ وجه يقدر عليه بعد أن يتحرز عن الغدر… ولو أن المستأمن فيهم باعهم درهماً بدرهمين إلى سنة ثم خرج إلى دارنا ثم رجع إليهم أو خرج من عامه ثم رجع إليهم فأخذ الدراهم بعد حلول الأجل لم يكن به بأس”. وقد بين شمس الأئمة السرخسي في مبسوطه الأساس الذي بنى عليه أبو حنيفة ومحمد رأيهما فقال: “لأن مال الحربي مباح ولكن المسلم بالاستئمان ضمن لهم أن لا يخونهم وأن لا يأخذ منهم شيئاً إلا بطيبة أنفسهم فهو يتحرز عن الغدر بهذه الأسباب ثم يتملك عليهم بالأخذ… والعراقيون يعبرون عن هذا الكلام ويقولون: حِلّ لنا دماؤهم طِلْق لنا أموالهم فما عدا عذر الأمان يضرب سبعاً في ثمان”. وفي الأم للشافعي: “وقال أبو يوسف: وإنما أحل أبو حنيفة هذا لأن بعض المشيخة حدثنا عن مكحول عن رسول الله r أنه قال: لا ربا بين أهل الحرب، أظنه قال وأهل الإسلام” ثم قال الشافعي: “وما احتج به أبو يوسف لأبي حنيفة ليس بثابت فلا حجة فيه” وقال ابن مفلح أنه خبرُ مجهولٍ، والذي قاله ابن مفلح صحيح فالرواية عن بعض المشيخة رواية عن مجهول. ونحن لا نريد مناقشة رأي أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، ومن قلدهما في هذه المسألة أجزأه، ولكن تقليدهم في إباحة دفع الربا تقليد في غير محله، لأنهما إنما أباحا أخذ الربا، أي أن يأكل المسلم مالهم بالربا برضاهم لأن الأصل إباحة أموالهم. فليس لهم حجة في تقليد أبي حنيفة ومحمد.

         وأما احتجاجهم بقاعدة الحاجة تنزل منزلة الضرورة، فإنهم أيضاً ينزلونها على غير الواقع الذي تنطبق عليه، وحسب فهمهم لها فإنها لا تبقي حراماً إلا أحلته، وهي تؤدي إلى التحلل من أحكام الشرع إذا قلنا “عامة أو خاصة”، والمتقدمين من الفقهاء القائلين بهذه القاعدة يختلف فهمهم لها عن المتأخرين والمعاصرين، ونحن لا نريد مناقشة القاعدة، لأنه لا ينكر الاحتجاج بها إذا وضعت موضعها وأنزلت على الواقع الذي تنطبق عليه، ولكن المقصود هنا إثبات خطأ من أنزلها على واقع شراء المساكن في الغرب عن طريق أخذ قروض بالربا من البنوك، فالذين وصفوها لا يحتجون بها على مثل هذه المسألة. ومن تتبع آراء العلماء القائلين بها وجد أن أقدم ما تقع عليه اليد رأي الجويني المتوفى عام 478 هجرية.

         يقول الجويني في البرهان: “الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق آحاد الأشخاص”. وهو يشرح رأيه هذا في كتابه الغياثي فيقول: “… إن الحرام إذا طبق الزمان وأهله ولم  يجدوا  إلى  طلب  الحلال  سبيلاً فلهم أن يأخذوا منه قدر الحاجة، ولا تشترط الضرورة التي نرعاها في إحلال الميتة في حقوق آحاد الناس، بل الحاجة في حق الناس كافة، تنزل منزلة الضرورة في حق الواحد المضطر، فإن الواحد المضطر لو صابر ضرورته ولم يتعاط الميتة لهلك، ولو صابر الناس حاجاتهم وتعدوها إلى الضرورة لهلك الناس قاطبة، ففي تعدي الكافة الحاجة من خوف الهلاك ما في تعدي الضرورة في حق الآحاد” ثم يقول: “لسنا نعني بالحاجة تشوف الناس إلى الطعام، وتشوقها إليه، فرب مشتهٍ لشيء لا يضره الانكفاف عنه، فلا  معتبر  بالتشهي  والتشوف،  فالمرعي  إذاً  دفع  الضرار، واستمرار الناس على ما يقيم قواهم” ثم يقول: “فقد ذكرنا الحاجة وهي مبهمة فاقتطعنا من الإبهام التشوف والتشهي المحضى من غير فرض ضرار من الانكفاف” ثم يقول: “فإنا إن أقمنا الحاجة العامة في حق الناس كافة مقام الضرورة في حق الواحد في استباحة ما هو محرم عند فرض الاختيار فمن  المحال  أن  يسوغ  الازدياد  من  الحرام  انتفاعاً  وترفهاً  وتنعماً”. وبعد أن يبين الجويني فهمه لقاعدة الحاجة العامة ونزولها منزلة الضرورة، ينتقل إلى تطبيقها في الأقوات والأدوية والملابس والمساكن. فيكاد يجيب على مسألتنا في المساكن حيث يقول: “سبب ذلك أنه في غالب الأمر يجد كِنّاً بأجرة نزرة فليكتف بذلك” والكن بكسر الكاف هو ما يستر كالبيت، فاعتبر الكن كافياً للمفلس بالأجرة، وسمح بأخذ بيته الذي يملكه منه لسداد ديونه، فمن وجد كِنّاً في الغرب يأوي إليه بالأجرة فلا حاجة للترفه والتنعم بامتلاك بيت، لأنه على رأي الجويني يجد إلى الحلال سبيلاً هو استئجار مسكن. والجويني يوجب الانتقال إلى موضع يستطيع الناس فيه الحصول على الحلال إن لم يستطيعوا الاستئجار، يقول: “ومما يتعلق بتتمة البيان في ذلك أن جميع ما ذكرناه فيه إذا عمت  المحرمات  وانحسمت  الطرق  إلى  الحلال، فأما إذا تمكن الناس من تحصيل ما يحل فيتعين عليهم ترك الحرام واحتمال الكل في كسب ما يحل” ثم يقول: “إذا تمكن أهلها من الانتقال إلى مواضع يقتدرون فيها على تحصيل الحلال تعين ذلك”، فعلى رأيه رحمه الله من تمكن من الاستئجار تعين عليه ترك الشراء واحتمال الكل أي المشقة في كسب ما يحل، والذي تمكن من الانتقال من الغرب إلى بلده أو إلى موضع يقتدر فيه على تحصيل الحلال تعين ذلك أي وجب. أما ما يقوله البعض من أن أجرة المسكن يمكن أن يدفعها قسطاً من ثمنه للبنك، وفي المحصلة ينتهي به الأمر إلى امتلاك البيت فهو تفكير رأسمالي مقياسه المنفعة لا الحلال والحرام.

         وبهذا يتبين أنه لا حجة للقائلين بأخذ القروض بربا من بنوك الغرب لشراء المساكن، لا تقليداً لأبي حنيفة ومحمد ولا احتجاجاً بالقاعدة القائلة إن الحاجة تنزل منزلة الضرورة إذا كانت عامة. أما القول بأن الحاجة الخاصة تنزل منزلة الضرورة فهو كلام بعض المتأخرين ولا دليل عليه، والجويني وهو أقدم من وصل رأيه إلينا أنزل الحاجة العامة منزلة الضرورة الخاصة، ولم ينزل الحاجة الخاصة منزلة الضرورة الخاصة .

ع.ع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *