العدد 189 -

السنة السابعة عشرة – شوال 1423هـ – كانون الأول 2002م

كلمة الوعي: صلف أميركا وغرورها في العلاقات الدولية مدعاة لانقلاب العالم عليها ثم عزلتها وسقوطها

تتصرف أميركا في علاقاتها الدولية مع الدول غيرها تصرف السيد الإقطاعي مع عبيده في أرضه، فهي تملي سياساتها على الآخرين إملاء المتحكم بمصيرهم، ناظرةً إليهم من فوق كأنها جنس فريد من البشر، ليس هذا التصرف فقط تجاه عملائها بل هو أيضاً تجاه دول أخرى كان لها في ما مضى شأن أو بعض شأن. فمنذ مقولة بوش المليئة بالغرور والصلف بأنَّ من ليس معه هو مع الإرهاب عدو له، منذ تلك المقولة والولايات المتحدة تتصرف تصرف الطاغية الأوحد.

         فهي تتهدد وتتوعد العراق بالويل والثبور وعظائم الأمور، والعواقب الوخيمة من غير أن يثنيها عن ذلك شيء، فلا خضوع صدام لقرارات الأمم المتحدة ولا التفتيش على أسلحته، له وزن عندها أو قيمة، ولا آراء بعض الدول الأخرى ذات المصالح مع العراق.

         وهي ترسل لأكثر من خمسين دولةً حول العراق، وبعيداً عنه، تطلب من هذه الدول أن يجيبوها كتابةً عن مدى مساهمتهم في حالة عدوانها على العراق.

         وقبل هذا وذاك تصوغ قراراً مليئاً بالاستفزازات والإهانات للعراق في شروط التفتيش وظروفه بل وإعطاء صلاحيات للمفتشين في مناطق تفتيشهم تتقدم على سيادة الدولة وسلطانها، وتجيز لهم استدعاء من يشاؤون من الخبراء وعائلاتهم لاستجوابهم في الداخل والخارج، وتأمر وتنهى وتضغط، فتوافق على القرار الدول الكبيرة والصغيرة في مجلس الأمن، الأوروبية بل والعربية.

         وقد ظهرت بوضوح هيمنة أميركا واستعمالها للضغط والإرهاب والعُنجهانية في فرض (أجندتها) على الدول الأخرى من خلال ما أسفر عنه مؤتمر القمة الأطلسية الذي عقد في براغ 22/11/2002 حيث تمكنت الولايات المتحدة بأساليبها الفظة الضاغطة من فرض آرائها على القمة، فصدرت قرارات القمة التي تخدم مصالحها ومهددةً مصالح الدول الأخرى ذات العلاقة.

         لقد استطاعت صرف أوروبا عن فكرة إنشاء قوة أوروبية خاصة بها للخروج من هيمنة أميركا العسكرية، وهي القوة التي كانت أوروبا مهتمة بإنشائها وبخاصة فرنسا وألمانيا. لكن الولايات المتحدة في قمة الأطلسي استطاعت وأد هذه الفكرة بأن فرضت على الحلف إنشاء قوة تحرك سريع للعمليات العسكرية الطارئة مصبوغةً بصبغة الحلف الأطلسي وليس الدول الأوروبية. وبهذا أصبحت الولايات المتحدة متحكمةً في عمليات الحلف، وتوجيهاته، وإبعاد طموح أوروبا للاستقلال العسكري في تنظيم خاص بها.

         كذلك استطاعت مد قوة الحلف في أوروبا الشرقية، بانضمام معظم دولها، فأصبح ذراع الحلف الأطلسي ممتداً من المحيط الأطلسي إلى بحر البلطيق فالبحر الأسود، ثم في ما بعد إلى بحر قزوين، مهدداً مصالح روسيا والصين.

         ثم استطاعت إصدار بيان خاص متعلق بالعراق ملأته بالتهديد والوعيد وبذلت من الإملاءات والضغوط ما جعل كلاًّ من فرنسا وألمانيا توقع عليه، وقد كانت هاتان الدولتان قبل القمة تنأيان بنفسيهما عن هذه العدوانية الصريحة ضد العراق.

         وهي في هذا اليوم 26/11/2002 أصرّت على إضافة سلع إلى قائمة السلع المحظور على العراق استيرادها مظنة استعمالها لأغراض غير مرغوبة للولايات المتحدة. وعلى الرغم من معارضة دول أخرى في مجلس الأمن، بعضها دائم العضوية، وأخرى غير دائمة، ورغبة هذه الدول في تمديد اتفاق النفط مقابل الغذاء مع العراق ستة أشهر أخرى، إلا أن الولايات المتحدة استطاعت أن ترغم المجلس أن لا يمدد هذه المدة بل فرضت عليه التمديد لمدة تسعة أيام يضيف خلالها قائمة السلع التي تريد أميركا إلحاقها بالسلع الممنوعة على العراق.

         إن المتتبع للسياسة الأميركية الحالية يرى أن الولايات المتحدة تنظر للدول الأخرى نظرةً فوقيةً، وتتصرف معها بصلف وغرور. وقد يظن البعض أنَّ هذا الصلف هو نقطة قوة تحسب لصالح أميركا. لكنّ المدقق في الموضوع يرى أن الأمر على النقيض من ذلك، فإنَّ النظرة باستعلاء للآخرين تثير الحقد وتوجد العداء الكامن عند الدول الأخرى. إن طرق أبواب روسيا والصين بأذرع حلف الأطلسي وإن بدا خفيفاً لكنّه سيكون عنيفاً في الأحداث المتلاحقة، وهو لا بد من أن يثير ردود فعل تناسبه في العنف في روسيا والصين كلما سخنت الأحداث وارتفعت حرارتها. كما أنّ إخماد إنشاء أوروبا لقوتها العسكرية المستقلة لن يستمر طويلاً لتصادمه مع مصالح أوروبا بل سينفجر هذا البركان في وجه أميركا كلما تطاولت عنجهية أميركا وصلفها.

         إن تضارب مصالح هذه الدول، وتعاظم صلف وغرور الولايات المتحدة في علاقاتها لدولية، ونظرتها الفوقية للآخرين، كل ذلك مؤشرات على أن العالم سينفض عن الولايات المتحدة، ومن ثمَّ عُزلتها واضمحلالها وسقوطها.

         ولرب سائل يسأل: أين نحن في هذه المعمعة؟ أين الأمة الإسلامية من هذا الصلف الأميركي، وبخاصة وأن البلاد الإسلامية في مخططات أميركا مسرح ساخن للأعمال السياسية والعسكرية للولايات المتحدة، وساحة لتدريب جندها وتجريب أسلحتها؟

         إنها أسئلة تدور على الأسنة، وتتفاعل في القلوب، وفي الوقت نفسه فإنَّ الأجوبة عليها لم تعد طلاسم تحار فيها العقول بل هي واضحة لصاحب البصر والبصيرة.

         إنَّ بلاد المسلمين الممزقة المتفرقة لن يكون لها شأن أو بعض شأن إلا إذا عادت سيرتها الأولى، فأزالت المتسلطين على رقابها، عملاء الغرب الكافر، وحراس مصالحه، وأدوات تنفيذه، وبخاصة الولايات المتحدة. إن الأمة لن يكون لها شأن إلا إذا عادت بلاداً واحدةً، تظلها راية واحدة ويحكمها خليفة واحد بشرع الله، ويقودها لقتال أعداء الله. عندها تصبح منارة الدنيا، والدولة الأولى في العالم، تفتح الفتوح وتنشر العدل حيث تحل. ومن ثمَّ، تفقد أميركا وغير أميركا قدرتها على النفاذ إلى بلاد المسلمين، وستظهر هذه الدول على حقيقتها هشَّة النظام، فاسدة الأحكام.

         أما إن صمتت الأمة عما يدور حولها بل في الركن الركين منها، وبقي نواطير الغرب حكاماً عليها، وهي واجمة ساكنة، فإنَّ أميركا ستزداد صلفاً وطغياناً في بلاد المسلمين، وستزداد امتصاصاً لدماء البلاد والعباد.

         فهل تتحرك الأمة الإسلامية، وبخاصة أهل القوة فيها، لاستعادة دورها القيادي للعالم الذي صاحب مسيرتها عدة قرون؟ هل ستسري في دمائها حرارة الإيمان الخالص بالله سبحانه، وصدق الاقتداء برسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه، والتطلّع الحيّ لأولئك القادة العظام الذين أضاؤوا جنبات الدنيا ببطولاتهم، واجتازوا بتضحياتهم ظروفاً مفصلية في حياة الأمة؛ من شدة الصراع مع قريش إلى عنف القتال مع الصليبيين ثم الهزيمة الماحقة للتتار؟ هل تكمل الأمة مسيرتها كما بدأتها أمةً عظيمةً خير أمة أخرجت للناس فتُري الغرب الكافر وبخاصة أميركا وربيبتها يهود، تُريهم أنّ بلاد المسلمين عَصِيَّةً عليهم، وأن بيوت الكفار أوهى من بيت العنكبوت؟

         هل تعي الأمة الأمانة التي تحملها؟ وهل تعي الدور الذي كلفها الله به؟ هل تعي جرائم الحكام العملاء الذين يتربعون على رقابها؟ هل تدرك الخطر والضرر المتحقق من الغرب الكافر وبخاصة أميركا؟ هل تدرك كل ذلك، وتتخذ تجاهه الموقف الذي يحبه الله ورسوله؟

         (إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين) [الأنبياء] .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *