العدد 186 -

السنة السادسة عشرة – رجب 1423هـ – أيلول 2002م

الشركات متعددة الجنسيات (2)

الشركات متعددة الجنسيات  (2)

          لم يرفع المستعمر يده ويسحب جيوشه عن بلدٍ ما إلاّ وقد رسخ آليات متعددة لضمان التبعية. فآلية تطوير مواردها ووضعها في خدمة شعوبها لا يكون إلا بالاستفادة من التكنولوجيا المتطورة، وهذه لا تتوفر إلا عند الشركات العملاقة.

          والتبعية في حد ذاتها هي عبارة عن وضع تكوّن من سلسلة كاملة من المراكز والتوزيع تربط معاً أجزاء النظام الرأسمالي بأكمله؛ من مراكزها الرئيسية إلى أبعد موقع في العالم. وكل من هذه التوابع يعمل كأداة امتصاص لرأس المال أو الفائض الاقتصادي من التوابع إلى المراكز المحيطة بها، ومنها إلى المركز العالمي للنظام الرأسمالي بأكمله. وأي نمو تحققه الدول النامية في أطار هذا النمط من العلاقات إنما هو تابع لا يملك لا الحركة الذاتية ولا صفة الديمومة.

          إن قيمة المساعدات الإنمائية التي تقدمها أميركا مثلاً للأردن تتكبد خدمات تزيد سنوياً ثلاثة أضعاف المنح والمساعدات المقدمة، وكلما تقادم الزمن تضاعفت هذه الأعباء إلى حد يصبح البلد يعاني من متطلبات الجدولة. فتلجأ إلى معالجة ذلك بقروض جديدة وجدولة أكثر نسبة حتى يصبح البلد بأكمله وكافة موارده في قبضة الشركات المانحة.

          ومن الجدير ذكره أن الأردن دفع جدولةً لديونه الخارجية مبلغ (2) مليار و(380) مليون وذلك ما بين الفترة 1990 – 2001 أي ما يساوي 44٪ من مديونيته الخارجية وبقيت هذه المديونية كما كانت عليه عند نشوب الأزمة سنة 1989.

          لقد لجأت كثير من الدول في الآونة الأخيرة إلى تحويل هذه الديون إلى استثمارات ثابتة غير منقولة أي أصبح البلد بما فيه ملكاً لهذه الشركات، وسلبت منه سيادته السياسية وأصبح ممنوعاً عليه أن يتفرد بأي قرار سياسي، وعمل هذه الأنظمة حينئذٍ هو عمل تنظيمي كشرطي المرور فقط، وعمل آخر يتعلق بمصالح السيد المستعمر وحراستها والحفاظ عليها والبطش بمن تسول له نفسه العبث بها أو الإساءة لأصحابها.

          لما كان رأس المال هو الحاكم، كانت الدولة مالكة القوى هي التي توفر له الحماية ليتحرك في أية بقعة من بقاع العالم، فكان التسابق في التسليح وتطوير هذا التسليح إلى حد كبير كما أوجدت هذه الدول لرأس المال قوانين وتشريعاتٍ عالميةً ضمن مؤسسات دولية لتضمن له هيمنةً مشروعةً وتسلطاً مشروعاً.

          ولكنها لم تتمكن من إيجاد ضابط في حياة رأس المال، وهو ضابط التنافسية بطرق وأساليب وقوانين عالمية مشروعة. فلجأت رؤوس المال نفسها إلى أسلوب خبيث ومميت وهو عملية الاندماج، وهذه العملية تأخذ نوعين أو اتجاهين في عملها:

          الأول: وهو التقاء شركتين أو أكثر في مجال واحد ليتكون منهما شركة واحدة تأخذ صفة الجدارة الحقيقية في استيعاب الأسواق، وهذا النوع يتميز بأحقيته في فرض الأسعار التي يريد، أي التحكم في السوق، وهنا تظهر الاحتكارات الضخمة.

          الثاني: هو التسلط على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة للاندماج معها وإخراجها من الأسواق بإنهاء كياناتها وإلغاء علاماتها التجارية. أو ضربها وإسقاطها ودفنها في مقابر التاريخ، وذلك باللجوء إلى تخفيض أسعار المنتجات المتماثلة إلى حد الخسارة الفادحة التي تستطيع تحملها الشركات الكبرى، ولا تستطيع ذلك الشركات المتوسطة والصغيرة فتموت.

          وأعمال كهذه تقوم بها الشركات العملاقة تدخل في إطار الحرية الاقتصادية التي قلنا بأن سقفها لا حد له.

          وتزايد حجم إنتاج الشركات متعددة الجنسية رافقه تزايد في الاندماج فيما بينها مما أدى إلى خلق شركات أخطر وأكثر تغلغلاً مما سهل انتشارها دولياً من جراء إنشاء التحالفات الاستراتيجية مما يوسع قاعدة استثماراتها الخارجية.

          إن واقع صندوق النقد الدولي أن من صلاحياته معالجة ميزانيات مدفوعات الدول الأعضاء. ومن مقترحاته أنه يوصي لتعديل الميزانيات بالعمل على ضرورة التكثير من الصادرات والتقليل من الواردات لتحقيق العملة الصعبة. فالبلدان النامية والفقيرة متأخرة في ذلك كثيراً، ولذلك فإن البلدان الصناعية والغنية هي التي تستطيع ذلك، فتبقى الدول النامية ميداناً فسيحاً للتسويق، فتتعاظم الشركات متعددة الجنسية من جراء هذه التوصيات.

          كما يقوم البنك الدولي بدور مماثل، لأن التنسيق يتم دائماً بين البنك والصندوق عند إعطاء القروض، فالذي يقوم بإنشاء القطاعات: ومرافق البنى التحتية هو هذه الشركات العملاقة، وكل ذلك قائم على القروض التي يقدمها البنك الدولي، فهو بذلك يشترط على البلدان النامية تنفيذ برامج التكيف الهيكلي من تحرير الأسعار والخصخصة، وفتح الأسواق أمام الاستثمارات الأجنبية والسعي لزيادة صادرات تلك البلدان. فيكون ذلك بمثابة حوافز لزيادة الانتشار العالمي لهذه الشركات، وبالتالي زيادة تغلغلها في اقتصاديات البلدان النامية، ومن ثمّ التحكم فيها لتنشئ حلقاتها الإنتاجية فيها.

          أما دور منظمة التجارة الدولية فهي تسعى إلى تحرير التجارة بين دول العالم وإزالة كافة القيود التي من شأنها الحد من هذه الحرية. وهذا يجعل تفوق الدول المتقدمة على البلدان النامية لا نظير له في كافة المجالات.

          وعليه فإن فتح الأسواق لن يقود إلاّ إلى اكتساح الأسواق من قبل هذه الشركات، ولن تتمكن شركات وصناعات الدول النامية أن تجاري تلك الشركات العملاقة، فلا تقوى على الصمود ولا المنافسة، ودولها لا تستطيع توفير الحماية لها، فيكون مآلها التصفية والذوبان… كما يحصل في الأردن الآن.

          يقول فيصل الناطور: هناك (180) شركة في الأردن فشلت لأن البنوك رفضت منحها تسهيلات وقروضاً.

          وتقول جريدة اللواء الأردنية: إن نقابة الخياطين طالبت الحكومة الأردنية بالتدخل من أجل حماية الصناعات المحلية، موضحةً أن قطاع المحيكات عدا المناطق المؤهلة، كان يتألف من أكثر من (1050) مصنعاً، ويعمل به أكثر من ثلاثين ألف عامل. أصبح الآن مقتصراً على (300) مصنع، وعمالة لا يتجاوز عددها (8000) وأن أكثر من 30٪ من المصانع العاملة الحالية شبه مغلقة. [اللواء 20/03/2002].

          وتقول التقارير إن ضربة 11/09 قد أنتجت هزات اقتصادية ومالية في العالم وفي أميركا، حيث إن (75) ألف شركة ومؤسسة ومصنع كبير قد أعلنت إفلاسها منذ مطلع هذا القرن.

          ويواكب هذا الاتجاه اتجاه موازٍ، وهو انصهار الشركات الصغيرة ونشوء شركات كبيرة تتعامل بمئات المليارات. وتشير الإحصاءات الأخيرة إلى أن حجم انصهار الشركات الصغيرة في الكبيرة يتزايد بنسبة 15٪ سنوياً ما بين 1986 – 1996.

          يتبين من ازدياد حجم الإنتاج الدولي أن قيمة مبيعات أكبر مائة شركة قد بلغت (2) ترليون دولار سنة 1995 بزيادة 26٪ عما كانت عليه [كما أشرنا سابقاً]، كما يتبين من الإحصاءات أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان تسيطر على 88٪ من أكبر مائة شركة.

          وهذه الشركات متعددة الجنسية تستخدم آليات متعددة لإدامة تبعية البلدان النامية، وتخلق كل آلية شكلاً من أشكال التبعية.

          إن الذي أدى بهذا النوع من الشركات لتكون على هذا المستوى من الضخامة هو اندماجها شركتين أو أكثر ليتكون منها شركة واحدة برأسمال واحد. فقد شهد أواخر القرن الماضي أكبر اندماجين لأربع شركات بترولية عملاقة.

          الاندماج الأول: حصل بين الشركة البريطانية (برتش بتروليوم) والشركة الأميركية (أموكو) أطلق عليها اسم (برتش بتروليوم أموكو) وأصبح مقرها الرئيس لندن. هذا التحالف بين عملاقين يتمتعان بقوة استراتيجية وجغرافية أدى إلى ظهور قوة صناعية بترولية كبيرة، تملك إمكانيات مالية وأصولاً وخبرات تساعدها على المنافسة بقوة في القرن الحادي والعشرين. ويستهدف الاندماج الكبير الذي أطلق عليه اسم مختصر هو (بي.بي.أموكو) إلى زيادة أرباح الشركات بنحو ملياري دولار سنوياً، وتحقيق معدلات نمو متعاظمة، وتركيز أعمالها في مناطق رئيسية حول العالم، ولتصبح قوة مسيطرة على أسواق التوزيع والمنتجات البترو كيماوية خاصة في الأسواق الجديدة (الدول النامية).

          ويبلغ الإنتاج البترولي لهذا الاندماج ثلاثة ملايين برميل يومياً، متخطياً إنتاج بريطانيا ودول كثيرة في منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك). واحتياطيها يبلغ (14.8) مليار برميل من البترول. ويسعى هذا التحالف ليكون له وجود قوي في دول منتجة للبترول مثل: مصر والجزائر وأنجولا والأرجنتين وأستراليا والكويت وكازاخستان وروسيا والإمارات وفنـزويلا. وكان هذا التحالف القوي بقدرته التنافسية مؤشراً قوياً على ضرورة قيام الاندماج الثاني.

          الاندماج الثاني: بعد أقل من ثلاثة أشهر من قيام التحالف الأول المذكور، أعلنت شركة (إكسون) و(موبيل) عن اندماجهما في صفقة قيمتها ثمانون مليار دولار، وهي أكبر عملية اندماج بترولي في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، كما أنها تعد أكبر شركة بترولية عملاقة في العالم، ويبلغ رأسمالها (241) مليار و(94) مليون دولار.

          وعلى صعيد التنقيب والاندماج يبلغ صافي إنتاج شركة (إكسون) (1.6) مليون برميل بترول وغاز طبيعي يومياً، كما يبلغ إنتاجها من الغاز الطبيعي المسال (6.3) مليار قدم مكعب كما يبلغ إجمالي احتياطياتها النفطية المؤكدة وليست المرجحة أو المحتملة (6.8) مليار برميل إضافة إلى (42.1) ترليون قدم مكعب من احتياطي الغاز الطبيعي، ويشمل نشاطها (30) دولةً حول العالم، ولديها (33) ألف محطة لبيع الوقود في أنحاء العالم، كما أنها تساهم في (41) مصفاة بترول في (17) دولةً، وتبيع (17.3) مليون طن من المنتجات الكيماوية سنوياً، وإجمالي إيجاراتها (14) مليار دولار.

          أما شركة موبيل فيبلغ إجمالي مبيعاتها في مجالي التكرير والتسويق البترولي (3.3) مليون برميل يومياً، ولديها (15500) محطة لبيع الوقود في العالم، وتساهم في رأسمال (19) مصفاةً بتروليةً في (17) دولةً، ولها حصص في (19) مصنعاً بترولياً في عشر دول، وتبلغ عائداتها (95.9) مليار دولار، وإنتاجها البترولي اليومي مليون برميل و(4.6) مليار قدم مكعب من الغاز الطبيعي، كما يبلغ احتياطياتها من الغاز المسال المؤكدة (4.1) مليار برميل، إضافةً إلى (17) ترليون قدم مكعب من احتياطياتها من الغاز الطبيعي، وتشمل أنشطتها في التنقيب والإنتاج (25) دولةً حول العالم، وعلى صعيد التكرير والتسويق يبلغ إجمالي مبيعاتها من المنتجات البترولية (3.3) مليون برميل يومياً.

          من أهم مزايا الاندماج التخلص من منافس قوي في الأسواق ومن ثم احتكار شريحة أكبر وقاعدة نمو أعلى.

          إن نسبة الاندماج والتملك قد ارتفعت كثيراً خلال السنوات الماضية، وإن كانت هذه النسبة تختلف بين الدول، فعلى سبيل المثال هناك حوالي 75٪ من الشركات اليابانية تم تملكها بواسطة شركات أخرى خلال الفترة من 1964 – 1984 في حين أن 38.3٪ من الشركات الأميركية دخلت في اندماج مع شركات مثيلة خلال أعوام 1950 – 1972 وحوالي 42٪ من الشركات البريطانية في الفترة من 1950 – 1977.

          وجدير بالذكر أن هذا الاندماج لا يقتصر على تحقيق تفوق اقتصادي، بل تبدو الأهداف السياسية كغاية وسبيل، وذلك من خلال تكوين شبكة من المصالح في أماكن تختار بعناية لموازنة التأثير السياسي.

          إن المشترع الأول الذي وضع أسس الاقتصاد الرأسمالي حينما رأى أن تزايد بني الإنسان يسير حسب متوالية هندسية، وأن تزايد وسائل الاستهلاك من سلع وخدمات تتزايد حسب متوالية عددية، رأى بأنه لا بد من عوامل تقلل من تزايد بني البشر ليتقارب مع وسائل إشباع حاجاته، فقال بضرورة وجود الحروب باستمرار لتحقيق هذا الغرض، وهذا يقتضي استمرار دوران عجلة مصانع السلاح، وهذه في حد ذاتها تعني الانتعاش لهذا الحقل من الصناعات الضخمة، وهي كذلك تكوّن قطاعاً واسعاً في تركيز الاقتصاد الأميركي.

          إذن فتنشيط القطاع الصناعي العسكري الأميركي هو مطلب ملح، فلا بد أن يوجد في كل بقعة من بقاع الأرض مشاكل ومعارك وحروب جانبية داخلية أو حدودية. كما أن هناك مناطق لا بد أن تكون بؤرة لتخزين السلاح المتطور وإن لم يكن هناك حاجة لهذا السلاح، كما تفعل أميركا مع دول الخليج .

[يتبع]

فتحي سليم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *