العدد 185 -

السنة السادسة عشرة – جمادى الثانية 1423هـ – آب 2002م

(بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)

(بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)

          قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال)

===========================================

          لقد أوجب الإسلام على المسلم أن يكون ولاؤه خالصاً لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وأن لا يتقدم عليه أو يخالطه ولاء آخر. إن الشهادتين اللتين هما ركن الإسلام الأول تحتمان ذلك وتنفيان سواه، فالله سبحانه هو المعبود وحده، ومحمد صلى الله عليه وسلم رسوله وخاتم أنبيائه، أنزل الله عليه الكتاب مهيمناً على ما سبقه من كتب وناسخاً لها، ومقرراً أن الولاء لله وللرسول، وأنه الفيصل بين الحق والباطل والعز والذل والغلبة والهزيمة (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة/56].

          إن صدق الولاء إذا استقر في الأمة جعلها خير أمة، وإذا ساد في الدولة جعلها السباقة إلى الرفعة والقوة. فإذا تخلخل الولاء أو تعدَّد تمزق شمل الأمة وهدم صرح الدولة، حتى إذا انقلبت الصورة وصار الولاء للكفار بدل أن يكون للإسلام وأهله، اضطربت الأمة وذابت وضعفت الدولة وزالت وأصبحت أثراً بعد عين.

          والمتتبع لحال المسلمين يرى الصورة واضحة جلية تنطق بذلك. لقد صدق المسلمون الولاء لله ولرسوله فعزّوا وسادوا ونشروا العدل والخير في ربوع العالم، وكانوا قوة يرهبها العدو ويُكبرها الصديق، واستمروا على ذلك قروناً وقروناً. فلما تخلخل الولاء، وظهر في بلاد المسلمين خونة من العرب والترك أعطوا الولاء للكفار وبخاصة بريطانيا آنذاك، عندها هزمت الدولة في داخلها قبل أن تهزم من الأعداء في الحرب العالمية الأولى. بعد ذلك أصبح الولاء للكفار ديدن الحكام الذين نصبهم الكفار في بلاد المسلمين بعد القضاء على الخـلافة العثمانية، فأقصي الإسلام عن الحياة، وسادت أنظمة الكفر في بلاد المسلمين، ومزّقت بلادهم شر ممزق، إلى أن وصل الحال أن يحتل يهود أرضَ الإسراء والمعراج.

          كل ذلك لأن المسلمين لم يدركوا أن الولاء يجب أن يكون لله ولرسوله، وأن المسلمين أمة واحدة، بعضهم أولياء بعض، ولم يدركوا كذلك أن الكفر ملة واحدة وأن الكفار أولياء بعض، وأن هذه الصورة إذا انقلبت، انتقل المسلمون من أعلى الدرجات بولائهم للإسلام إلى أدنى الدركات بولائهم للكفار.

          وهذه الآية الكريمة تنطق بذلك بقوة ووضوح:

          1 –  (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) أي أن الكفار يوالون بعضهم، ومفهومها أنه يحرم أن يوالي المسلم الكافر، وكذلك فإنَّ المؤمنين أولياء بعض. وهذا المفهوم قد بُيِّن منطوقاً في الآيتين التاليتين  (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال 74-75]. فالمؤمنون أمة واحدة وهم أولياء بعض، كما أن الكافرين ملة واحدة وهم أولياء بعض.

          2 –  (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال] بعد أن ذكر الله سبحانه أن الكافرين أولياء بعض، عقب سبحانه على ذلك بأن هذا هو الموقف الواجب اتخاذه من الكفار، وإن لم يتخذ على وجهه كانت الفتنة والفساد الكبير.

          والمشاهد لواقع المسلمين اليوم بعد أن اختل هذا الولاء فاتخذ الحكام في بلاد المسلمين الكفارَ أولياء يلقون إليهم بالمودة، ويحاربون الإسلام وأهله، ثم وجد لهم أعوان مردوا على النفاق يوالون الكفار معهم، كما أن الأمة لم تقف في وجههم الوقفة الصادقة الصلبة فتغيرهم. بعد أن حدث ذلك كانت الفتنة والفساد الكبير.

          وأية فتنة أعظم من إقصاء الإسلام عن الحياة؟ وأية فتنة أعظم من تمزيق بلاد المسلمين وزوال دولتهم دولة الخـلافة؟ وأية فتنة أعظم من تكالب الكفار على بلاد المسلمين يحتلون أجزاءها ويستبيحون سماءها وبرها وبحرها، حتى إن اليهود من ضربت عليهم الذلة والمسكنة احتلوا مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين؟ وأية فتنة أعظم من حملات البطش التي يشنها الحكام العملاء في بلاد المسلمين على حملة الإسلام، يلاحقونهم ويعتقلونهم ويسجنونهم المدد الطوال، ثم التعذيب الشديد المفضي إلى الاستشهاد؟ ثم غير ذلك وغيره كثير، كل واحدة منها فتنة قائمة بذاتها فكيف وهي نازلة بهم مجتمعة عليهم؟

          ثم أي فساد أكبر من أكل الحكام وأعوانهم أموال الناس بالباطل؟ من نهب للمال العام إلى السقوط في المتع الحرام، حتى غرقت بلاد المسلمين في مليارات الديون لا ملايينها التي يتحملها عامة الناس فيتضورون جوعاً من وطأة الأزمات الاقتصادية في حين يتخم الحكام وأعوانهم في الإنفاق الحرام والتبذير الآثم من مال الملكية العامة وملكية الدولة دون حياء من الناس أو رب الناس.

          ثروات الأمة سلّموها لأعدائها، وأراضيها جعلوها قواعد للكفار ينطلقون منها لضرب الإسلام والمسلمين. فسدوا وأفسدوا واستمروا في غيهم يعمهون. وصدق الله (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال].

          3 –  مما سبق يتبين أن الفتنة والفساد الكبير هما نتاج عدم اتخاذ الموقف الصحيح من الولاء، وبالتالي فإن إزالة هذه الفتن والفساد يتطلب أن يتخذ المسلمون الله ورسوله والمؤمنين أولياء، وأن ينظروا فكرياً وعملياً إلى الكفار على أنهم ملة واحدة، بعضهم أولياء بعض. بهذا تعود العزَّة للمسلمين، وتعود أمتهم خير أمة أخرجت للناس، وتعود دولتهم واحدةً تقيم الحق وتنشر العدل، وينصرهم الله القوي العزيز (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ @ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)  [الروم] .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *