العدد 185 -

السنة السادسة عشرة – جمادى الثانية 1423هـ – آب 2002م

كلمة الوعـي: المواقف الحقيقية… هي التي تنقذ المسلمين لا التوجه شطر واشنطن واللقاءات الأمنية مع يهود

          قام شارون بغارة على حي في غزة، مكتظ بالمسلمين، مستعملاً فيها طائرات “إف 16” الأميركية التي ألقت قنبلة أميركية زنة 1000 كلغ، تماماً كما فعلت أميركا في أفغانستان، فدمّر الحي بأكمله على ساكنيه من الأطفال والنساء والشيوخ والرجال، فتظاهر بوش بالانزعاج المزيّف، وصرّح أن هذه العملية تعتبر رداً قاسياً (أي إنها عملية دفاع عن النفس ولكنها جاءت قاسية) وأنها لا تخدم عملية السلام.

          ثم قام فلسطيني مجاهد بتفجير عبوة ناسفة قتلت وجرحت عدداً من اليهود أقل بكثير مما فعلته الغارة الإسرايلية… فقام بوش يزبد ويرغي ويصف العمل بالإرهابي ويستنكر قتل الأبرياء أشد الاستنكار، وبخاصة أن بين القتلى أميركيين، ويواسي ويقدم التعازي الحارة لأهالي قتلى اليهود.

          ويستهجن السياسيون والمفكرون والإعلاميون في بلاد المسلمين، العرب والعجم، على أميركا كيف أنها تكيل بمكيالين، وأن مواقفها غير عادلة ويستهجنون على أميركا كيف تؤيد عدوان شارون الذي يرتكب أفظع المجازر، ويستهجنون عليها كيف تقول عن شارون إنه رجل سلام، ويستهجنون عليها أن تفرض على السلطة إصلاحات محددة لأن هذا يخالف المبدأ القائم على الاختيار الحر، ويستهجنون عليها كيف أدت سياستها إلى قتل مئات الآلاف من الشعب العراقي المسلم وكيف تعاقب شعباً بدل حاكمه، ويستهجنون عليها كيف تقتل المسلمين في أفغانستان بجريرة غيرهم. ويستهجنون عليها كيف تعامل أسرى القاعدة خلافاً لكل قانون، وتطول لائحة الاستهجان على أميركا ولا تكاد تنتهي.

          ويغلب على موقف هؤلاء السياسيين والمفكرين والإعلاميين ردة الفعل، والانهزام الفكري وغياب الأساس الذي تبنى عليه المواقف فيكثر اللوم والشكاية والصراخ والتعبير الحار ولا نرى عندهم التوجه الصحيح ولا العلاج الصحيح… فهم يطلبون من أميركا أن تلعب دوراً إيجابياً في حل قضية فلسطين، وينادون بأهمية إقناع الشعب الأميركي بالحق العربي وإنشاء ما يسمى باللوبي العربي للضغط على الحكومة الأميركية، ويقولون إن خطاب بوش جاء مخيباً للآمال ويقولون إن الأمم المتحدة أو مجلس الأمن جاء قراره منحازاً، ويطلبون من الأوروبيين أن يلعبوا دوراً إيجابياً في الأحداث.

          وينـزل المسلمون إلى الشارع ويطالبون، بإخلاص، بقطع العلاقات وإقفال السفارات، ويحرقون الأعلام ويدوسون الدمى، ويطالبون بمقاطعة البضائع الأميركية، ويكيلون الشتائم…

          والسؤال الذي يفرض نفسه:  هل تحكم أميركا على الأمور كما يحكم المستهجنون عليها؟ وهل تعتبر أميركا نفسها مخطئة أو معتدية فيما تقوم به؟ وهل هذا الاستهجان سيؤدي إلى أن تغيّر أميركا موقفها؟ وهل الموقف من أميركا يشكل موقفاً حقيقياً؟ وفي موقعه الطبيعي؟

          إن زعماء أميركا يفسرون الأمور ويسوسون بلادهم بحسب مبدئهم ووجهة نظرهم في الحياة. وكل عمل يقومون به لا يفسر إلا على ضوء ذلك. ومن أراد أن يغير سياسة أميركا فعليه أن يغير وجهة نظرها، وفيما عدا ذلك لا ينتظرن أحد من أميركا تغيير موقفها. إن أميركا دولة رأسمالية تتحكم فيها نظرتها للمصالح. وهي دولة استعمارية مستعدة أن تحرق العالم كله من أجل تأمين مصالحها، ومصلحتها هي مع اليهود في احتلالهم، وفي عدوانهم وفي اغتصابهم، وهي ضد المسلمين لأنهم أصحاب مبدأ وحضارة ويشكلون خطراً على مصالحها وتهديداً فعلياً لزعامتها. إن أميركا تسلح اليهود بأقوى وأحدث الأسلحة وتدعمه اقتصادياً، وتغطيهم سياسياً لأن مصلحتها تقضي بذلك. لذلك نجد أن موقفها من اليهود ومن كيانهم حقيقي. ولن يؤثر فيه الاستهجان لأنها تدرك أنَّ استهجان الأوساط السياسية الحاكمة في البلاد العربية والسلطة هو استهجان ظاهري لا يصل إلى مواقف عملية حيث إنها ترى رأي العين أن هذه الأوساط لا زالت تروح وتجيء إلى واشنطن. فقد جاءها منذ أيام وزراء مصر والأردن و(السعودية) يلتمسون منها العطف والرعاية! لفلسطين على الرغم من تصريحات رسمية صدرت منهم أنّ مواقف أميركا فيها انحياز لليهود، والآن وبعد وزراء العرب يتحرك حالياً وفد السلطة إلى واشنطن يستجدي الحلول ممَّن وصفوها بأنها تدعم اليهود وتؤيدهم في هجماتهم الوحشية على فلسطين وأهلها، بل إن السلطة في موقف أشد من ذلك وأخطر قررت بعد ذهاب وفدها إلى واشنطن الموافقة على عرض (إسرائيل) مشروعها المرحلي للحل الذي يبدأ بغزة أولاً رغم تصريحاتها المتكررة عن رفض الحلول المرحلية وها هي اللقاءات الأمنية مستمرة مع يهود رغم الهجمات الوحشية التي يشنها كيان يهود في كل فلسطين.

          هكذا نسير الأمور عند الأعداء في جانب، وعند الحكام العرب والسلطة في جانب آخر. فما هو المطلوب من المسلمين تجاه ذلك؟

          إن هذا كله يتطلب من المسلمين مواقف حقيقية تجاه أميركا والغرب كله بعامة، وصنيعتهم (إسرائيل)، ونواطيرهم الحكام، وليس مواقف عاطفية مشاعرية. وقبل اتخاذ أي موقف لا بد من وقفة حقيقية مع الذات.

          أما الوقفة الحقيقية مع الذات فهي أن نحزم أمرنا بأننا أمة إسلامية واحدة، وأن الصراع بين الأمة الإسلامية وغيرها لم ولن يتوقف، وأن ما يصيبنا ليس إلا نتيجة لهذا السبب. إن اعتبار الصراع حضاري يقضي أن يَفهم المسلمون واقع الصراع بشكل صحيح، فلا يستهجنون بعدها تصريحات أميركا واليهود لأنهم بهذا الاعتبار يكونون ثد فهموا حقيقة موقفهما، ويقضي بأن يقف المسلمون المواقف التي يتطلبها منهم مبدؤهم فلا يقفون المواقف المشاعرية التي لا تقدم ولا تؤخر، أو يستجدون الحلول من أميركا او الأمم المتحدة أو يظنون خيراً بالحكام الذين هم نواطير للغرب… إن اعتبار الصراع مبدئي حضاري هو الذي يتحكم بنظرة المسلمين للحل تماماً كما تتحكم نظرة المصالح بأميركا.

          أما الموقف الحقيقي من أميركا ومن اليهود ومن الحكام العملاء، فإن اعتبار أن الصراع مبدئي حضاري يتطلب من المسلمين العمل على إقامة دولة إسلامية. لأن الدولة الإسلامية هي الطريقة الوحيدة التي تظهر بواسطتها حضارة الإسلام وبها يخاض الصراع الحضاري. فالدولة الإسلامية تطبق الإسلام على المسلمين وتحمي ديارهم وذمارهم وتنشر الإسلام في العالم عن طريق الدعوة والجهاد. وهذا ما تعي عليه أميركا واليهود والغرب ويعملون جاهدين على منعه. ويستخدمون الحكام الذين جعلوهم على رقاب المسلمين ليقصوا الإسلام بواسطتهم عن الحكم وليستولوا على خيرات المسلمين بواسطة سياساتهم الفاسدة القائمة على الديون الربوية التي ترهن مقدرات البلاد وتقضي على كل تنمية، وتجعل البلاد والشعوب الإسلامية فقيرة، متخلفة. إن هؤلاء الحكام مثلهم كمثل الأجراء عند الغرب، يعملون له، ويسيرون بحسب سياساته، لذلك فإن الموقف الحقيقي من أميركا ومن اليهود يتطلب من المسلمين أن يقفوا الموقف الحقيقي من الحكام أيضاً. فهؤلاء الحكام على سبيل المثال لا الحصر يطلبون من وزراء داخليتهم الاجتماع في تونس من أجل محاربة الإرهاب بحسب المفهوم الأميركي أي مساعدة أميركا في حربها على الإسلام، ومنهم من يحاكم عشرين شخصاً متهماً بالعمل على تهريب أسلحة إلى داخل فلسطين لمساعدة إخوانهم. ويعقد وزير خارجية الأردن مؤتمراً صحفياً يتحدث فيه عن أضرار مقاطعة البضائع الأميركية بحجة أن ذلك يضر المصالح الوطنية… لذلك فإن موضوع هؤلاء الحكام لا يختلف عن موضوعنا الأساسي، إذ إن الغرب وعلى رأسه أميركا جعلهم خط الدفاع الأول عن مصالحه. ولا يمكن تجاوزهم إذا أرادت الأمة مواجهة أميركا و(إسرائيل).

          إن العالم يعيش في زمان يجب مراجعة كل شيء فيه، وتشكيل النظرة على أساسه، وبناء المواقف الحقيقية عليه. فمن رفض فكرة من أساسها، ومن رفض سياسة من أساسها، فعليه أن لا يلتقي معها، ومن اعتبر أن أميركا أو اليهود أعداء له فعليه ان يكون على مستوى العداء لهم وإلا فسيخسر، وستكون أحواله بعد المواجهة أسوأ منها قبلها. ومن اعتبر أن الحكام عملاء فعليه ان لا ينتظر منهم إلا ما يراه. وأن لا يعمل إلا على التخلص منهم. هذا هو الموقف الحقيقي الذي يجب أن يقفه المسلمون إذا أرادوا أن يعودوا إلى الدور الذي كلفهم الله به، وإذا أرادوا أن يعودوا خير أمة أخرجت للناس يحملون الإسلام ويدعون إليه، وإذا أرادوا أن يكونوا في مقدمة الركب، وإذا أرادوا أن يعيدوا الأرض ويحفظوا العرض ويفتحوا الفتوح وينشروا العدل في ربوع العالم. إنه لا يمكن أن يوجد عند الأمة موقف حقيقي إلا إذا تحكمت في نظرتها للحياة، وفهمها للأوضاع القائمة وحكمها عليها، عقيدتها الإسلامية، وما انبثق عنها من أحكام تعالج بها شؤون الحياة، وإلا إذا كان الجهاد عند الأمة في ذروة سنام دينها كما نطق به الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه.

          إن الأمة الإسلامية إنما كلفت بطاعة الله دون سواه، ومعاداة من عادى الله ودينه، والجهاد في سبيله ونشر الإسلام. وهذا يعيه الغرب وعلى رأسه أميركا تمام الوعي. فهل يعي المسلمون ذلك ويعلمون أن صعيد الصراع الصحيح هو الصراع المبدئي الحضاري الذي يصان فيه العرض وتحفظ الأرض، ولا يُتخذ فيه أعداء الله أولياء، يُلقى إليهم بالمودة، ويتنازل لهم عن الحقوق ذلاًّ واستسلاماً بل الواجب أن يقذفوا بالموت من كل جانب لينتزع منهم الحق انتزاعاً. هذا هو صعيد الصراع الصحيح، صراع مبدئي حضاري يزهق فيه الباطل ويعلو فيه الإسلام لأنه الحق والحق وحده، ولا غالب له بإذن الله، قال تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ @ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (الصف:9) .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *