العدد 183 -

السنة السادسة عشرة – ربيع الثاني 1423هـ – حزيران 2002م

غرور القوة الأميركية

غرور القوة الأميركية

بدأ التململ من سياسات كلينتون في فترة رئاسته الثانية يستشري في أوساط كبار الساسة والمفكرين الأميركيين خاصة بعد أن أظهر الكثير من الفشل والتردد والضعف في معالجة الكثير من القضايا الدولية، وبدأ الإحساس بتعاظم القوة الأميركية يتحول إلى شعور بالاختيال والتفوق والغطرسة يدب في أوصال عناصر القوة في المجتمع الأميركي، وزاد من هذا الشعور مجيء الحزب الجمهوري إلى السلطة، وعبر كيسنجر أدق تعبير عما يدور في خلد الوسط السياسي الأميركي العريق حيث قال في كتابه «نحو دبلوماسية للقرن الحادي والعشرين»: “تتمتع الولايات المتحدة في فجر الألفية الجديدة بتفوق لم تضاهه حتى أعظم الإمبراطوريات في فجر التاريخ…، فهي تمارس سيطرة لا نظير لها في كل أنحاء العالم“، وقال: “وتنتشر القوات الأميركية حول العالم من سهول أوروبا الشمالية إلى خطوط المواجهة في شرقي آسيا، وتكاد تتحول هذه المحطات للتدخل الأميركي باسم حفظ السلام إلى التزامات عسكرية دائمة…، وقال: “وتعتبر الولايات المتحدة نفسها مصدر المؤسسات الديموقراطية في العالم والضامن لها، وقال: “وتسيطر على النظام المالي العالمي بتوفير أكبر مجمع لرأس المال الاستثماري، والملاذ الأكثر جاذبية للمستثمرين، وأوسع سوق للصادرات الأجنبية، وتحدد الثقافة الشعبية الأميركية معايير للذوق في كل أنحاء العالم” وما أن بدأت إدارة بوش الابن تعيد تقييم سياسات أميركا في قضايا العالم وتضع أسساً جديدة وقعت تفجيرات الحادي عشر من أيلول فأعطت الإدارة الأميركية الجديدة زخماً جديداً في العمل فاستغلت هذه الحوادث التفجيرية وبدأت بصياغة قواعد سياسية جديدة تقوم على أسس جديدة وعلى منعطفات جديدة.

          وتجمع حول بوش الكثير من الصقور الذين ازدادت صقريتهم بسبب الأحداث وتغلبوا على من تبقى من حمائم في إدارة بوش بسهولة بالغة، فبرز إلى الواجهة رجال جدد من المحافظين كوولفوفيتز مساعد رامسفيلد ولويس لوثرليبي الذراع الأيمن لنائب الرئيس ديك تشيني وبدأ هؤلاء وغيرهم يشكلون عنصراً ضاغطاً على الرئيس وبدأوا يدعون بصراحة إلى سياسة خارجية أحادية الجانب تقوم على أسس أمنية وتتشدد حيال كوريا الشمالية وإيران والعراق والفلسطينيين وروسيا والصين والحركات الإسلامية في جميع أنحاء العالم.

          ولقد كان لانهيار طالبان السريع وسيطرة أميركا المفاجئة على وسط آسيا وإقامة قواعد أرضية جديدة لها في قرغيزستان وطاجيكستان وأفغانستان وسيطرتها المطلقة على باكستان، كان لذلك كله تأثير أشبه ما يكون بالمفعول السحري على رجال الإدارة الأميركية جعلهم يشعرون بالمزيد من الغطرسة والعجرفة في التعامل مع الآخرين فعمَّت نشوة الانتصار الكاذب لأميركا في أفغانستان جميع الأطراف في الوسط السياسي الأميركي وغلبهم الغرور وسيطرت عليهم سكرة سياسية جعلتهم لا يأبهون حتى لأقرب حلفائهم.

          فوزير الدفاع الأميركي رامسفيلد ملأ الأجواء بتصريحاته المغرورة، ومن هذه التصريحات قوله: “في الحرب يجب أن تهاجم العدو قبل أن يهاجمك“، وزعيم الأغلبية الجمهورية في الكونغرس تيري ماك أولين يخاطب الكونغرس قائلاً: “عندما تكلم الرئيس عن عدالة مهمتنا وشجاعة جيشنا وقفنا جميعاً“.

          وفي ظل استمرار خنوع واستسلام حكام البلاد العربية والإسلامية وتبنيهم لسياسة التوسل التي عبَّر عنها وزير خارجية قطر نيابة عنهم جميعاً داست أميركا جميع التقاليد والمجاملات الدبلوماسية السابقة التي كانت تقوم على أساس مسايرتهم أمام وسائل الإعلام وحفظ ماء وجوههم، وأخذت عوضاً عنها بسياسة الاستعباد والاحتقار العلني غير آبهة بردات فعل الشعوب التي لم تكن في مستوى الأحداث.

          لقد تبلورت سياسة أميركية جديدة أحادية الجانب تتسم بالغطرسة ولا تقيم وزناً لحلفائها فضلاً عن عملائها الذين فضحتهم على رؤوس الأشهاد كما فعلت مع السعودية وإيران ومصر والباكستان، حيث هاجمت السعودية واتهمت مدارسها السلفية بأنها مصدر تخريج الإرهابيين خاصة وأن خمسة عشر شخصاً من التسعة عشر الذين اتهموا بتفجير الطائرات فوق واشنطن ونيويورك سعوديون، وهاجمت إيران واتهمتها بإيواء الفارين من رجال القاعدة والطالبان، واتهمتها كذلك بتزويد حزب الله والفلسطينيين بالسلاح، وسلطت الهند على الباكستان واتهمتها بإيواء المتطرفين، وأفقرت مصر وكبلتها بالمزيد من القيود المالية والاقتصادية والتجارية.

          إن منطق الغطرسة والاستخفاف بالعملاء والحلفاء الذي أفرزته أحداث 11 أيلول وما أعقبها من الانتصار السهل الذي سجلته أميركا في أفغانستان برّر للإدارة الأميركية استبعاد مشاركة الحلفاء والعملاء، وعدم الالتفات إلى ضرورة مشاركتهم، وإنه وبالرغم من أن توني بلير حاول أن يلتصق بأميركا وإلصاق أوروبا بها إلا أنها لم تعبأ به ولم تتقاسم مع أوروبا هذه المرة المنافع والمغانم. لقد صرح البريطاني جورج روبرتسون وهو أمين عام حلف الأطلسي “بأن على أوروبا أن ترفع من مستوى قوتها العسكرية لتبلغ المستوى العسكري الأميركي وأن على أميركا أن تساعد أوروبا في مستوى قوتها” وقال في تصريح آخر: “إن دعم الحلفاء لواشنطن له حدود” وطالب بدلائل مقنعة عن وجود محور الشر.

          ورد عليه الصحافي الأميركي المشهور توماس فريدمان في صحيفة «النيويورك تايمز» بمقال بعنوان «نهاية الناتو»: “إنه لا وجود لحلف الأطلسي خارج أميركا لأن دول الحلف الأخرى ترسل ببضع مئات من الجنود إلى الساحات الخلفية في القتال ثم تطالب بتقاسم الغنائم مع أميركا التي تقدم كل التضحيات“.

          ونقل الدكتور غسان العزي عن الصحافة الأميركية في جريدة القدس قولها: “إن الأوروبيين يلعبون دور خادمة المنـزل، فهم يجمعون النفايات والأنقاض بعد الهجمات الأميركية، أميركا تشن الحرب والأوروبيون يسعون للسلام بعدها، إن أميركا بإدارة بوش تريد قيادة العالم بمفردها، إنه كلام واضح“.

          لا شك بأن أميركا غيرت من وجهة نظرها في علاقتها مع حلفائها وعملائها بعد أن سجلت انتصاراً سهلاً ومنافع عظيمة في وسط آسيا بسرعة خاطفة، حتى إنها لم تعد تلجأ لا إلى الأمم المتحدة ولا حتى إلى حلفها الذي أقامته بنفسها وهو حلف الناتو، فقد كانت في حرب الخليج ترجع إلى مجلس الأمن وتستصدر القرارات باسمه، وكانت في حرب كوسوفا تتشاور وتتعاون مع دول حلف الناتو أما في حرب أفغانستان وما سيتلوها فهي لم تستشر أحداً ولم تلجأ إلى أحد، وقال بوش متبجحاً: “سوف نحارب العراق سواء مع الحلفاء أم وحدنا“.

          إن إدارة بوش الابن التي تسير على خطى إدارة ريغان بدأت تؤسس لقواعد سياسية خارجية جديدة تتناسب مع تعاظم القوة الأميركية، فكما أن ريغان أسس لسياسة إسقاط الحرب الباردة التي دشنها هاري ترومان عام 47 وإخراج الاتحاد السوفياتي من الصورة الدولية بإطلاقه مقولة التخلص من «إمبراطورية الشر» فكذلك بوش فإنه بدأ يؤسس لإسقاط سياسة ما وصفه هو «بالتردد والخجل» التي تلت مرحلة الحرب الباردة، فكأن بوش يعتبر أن مرحلة التردد والخجل والتي استمرت عقداً من الزمان قد آن الأوان لإلغائها والدخول في مرحلة التفرد والبعد عن المشاركة، وهذه السياسة هي التي دعت أوروبا تتململ وتتحرك وتظهر سخطها من هذه السياسة الأميركية الدولية الجديدة.

          وكانت الشرارة التي صدعت التحالف الأوروبي الأميركي تصريحات وزير الخارجية هوبير فيدرين فيلسوف السياسة الأوروبية الذي هاجم السياسة الأميركية بجرأة وصراحة واتهمها بأنها سياسة ساذجة وتبسيطية ومنحازة لإسرائيل التي تقمع الفلسطينيين، ودعا أوروبا إلى الدفاع عن آرائها ووجودها المستقل سياسياً عن أميركا.

          وتبعه الكثير من السياسيين الأوروبيين ومنهم يوشكا فيشر وزير خارجية ألمانيا الذي قال: “إن أعظم قوة في العالم لن تقود وحدها العالم مع سكانه الستة مليارات نسمة نحو مستقبل سلمي، وإن حلفاء الولايات المتحدة الأميركية ليسوا توابع“، ومنهم كريس باتن البريطاني مقرر العلاقات الخارجية في المفوضية الأوروبية الذي كرر كلام فيدرين واتهم السياسة الأميركية بأنها تبسيطية.

          ومنهم وزير خارجية بريطانيا جاك سترو الذي اعتبر خطاب بوش عن حالة الاتحاد والذي ذكر فيه محور الشر بأنه خطاب استهلاكي للإعلام الداخلي، وهو مجرد كلام خطابي، مما أثار غضب الإدارة الأميركية التي نفت كلام سترو وأكدت على أنه حقيقي.

          لقد أحست أوروبا بالخطر من تصرفات أميركا الأخيرة في السياسة الخارجية وأدركت حقيقة أن أميركا بدأت بتهميشها وأن محاولات بلير لم تفلح في تقاسم المصالح والنفوذ مع أميركا، فاتخذت هي الأخرى سياسات دفاعية، ومن هذه السياسات تشبث سياساتها تجاه أفريقيا ومقاومة المد الأميركي فيها ودل على ذلك الزيارة المشتركة لوزيري خارجية بريطانيا وفرنسا إلى عدة دول إفريقية، وكذلك زيارة بلير لدول غرب أفريقيا ومناشدته لفرنسا كي تنسق مع بريطانيا الخطى معاً لتثبيت النفوذ الأوروبي فيها تحت ستار مساعدة القارة السوداء.

          لقد أدركت أوروبا وروسيا والصين سياسة هيمنة القوة التي بدأت أميركا في فرضها على العالم، وبدأت تقاومها، فبوتين رئيس روسيا قال: “إن كل نموذج علاقات دولية يقوم على هيمنة قوة واحدة لا مستقبل له“. فهذا التصريح يدل على رفض روسيا لسياسة الهيمنة الأميركية، ولكنه رفض أقرب إلى كلام الفلاسفة والحكماء منه إلى كلام السياسيين، فهو يجعل الرفض منسوباً للمستقبل ولمنطق التاريخ، أي أنه كلام لا يدل على أن روسيا ستفعل شيئاً لوقف هذه السياسة الأحادية الجانب.

          من الواضح إذاً أن أميركا قد أدخلت العالم في منعطف دولي جديد، وبدت ملامح هذا المنعطف تتبلور بشكل سريع خاصة بعد الإنجاز الذي تممته في أفغانستان وخنوع العالم لها وعدم وجود أية مقاومة تذكر لما قامت به، ما جعل أميركا تتمادى على العالم وتستثمر قوة الدفع التي أفرزتها أحداث الحادي عشر من أيلول وذلك بتوتير الأجواء العالمية وتعقيد المشاكل الدولية وإدارة الأزمات الإقليمية بكيفيات تؤدي إلى تفجيرها وإلقاء ظلال من الشعور الجماعي بعدم الأمن وانعدام الاستقرار في العالم كله موحية للرأي العام الدولي بأنها هي المنقذ وهي القائد لهذا العالم، وما على دول العالم وشعوبه إلا الانقياد لها، وقد قالها بوش بصراحة بأن العالم لن يعرف الاستقرار إلا في ظل القيادة الأميركية.

          فأميركا بعد أحداث أفغانستان تريد أن تنعتق من قيود الحلفاء الأوروبيين وتتخلى عن مشاركتهم لها في تصريف الشؤون الدولية، وتتولى المسؤولية الدولية وحدها، لذلك نراها تفسد ما تصنعه أوروبا من تقارب مع إيران وتفاهم مع الصين وكوريا ووجود في الشرق الأوسط.

          لذلك فهي تقطع الطريق على كل تقارب غربي مع القيادة الإيرانية المسماة بالمعتدلة، وتحشر الصين في الزاوية وتشغلها بتايوان وبالشؤون التجارية وتلقي لروسيا ببعض الفتات وبعض الوعود وتغرق دول ما يسمى بالعالم الثالث بالديون والفساد، وهي بذلك تظن بأن الجو العالمي قد خلا لها واستفردت بالمجتمع الدولي وتولت زمام قيادته.

          إلا أن هذه السياسة الأحادية الاستعلائية تستجلب العداء الكامن وتكتله ضدها، وتحول المتعاونين معها من حلفاء وعملاء إلى أعداء يحقدون عليها وينتظرون سقوطها وتخبطها بشغف شديد.

          إن منطق قوة العضلات ومنطق البلطجة يثير في الآخرين الإحساس بالانتقام والشعور الحقيقي بالكراهية والعداء، وإذا ما سنحت الفرصة لترجمة هذا الإحساس وذلك الشعور إلى فكر ثم إلى عمل فإن النتائج ستكون مدمرة وستسقط أميركا من عليائها ولا تجد من يترحم عليها أو حتى من يقول بمقولة “ارحموا عزيز قوم ذل“.

          إن إحساس الشعوب بظلم أميركا لها وإحساس الشعوب الإسلامية بهذا الظلم بشكل خاص إذا ما توفرت له الأجواء الفكرية والسياسية المناسبة فسوف يفجر طاقات المسلمين لإقامة دولة العز والكرامة دولة الخـلافة الإسلامية التي ستطيح بعرش أميركا وتقهرها، ولسوف تفرح باقي الشعوب المسحوقة وينقلب الغرور على صاحبه ويهوي به في مستنقع أعماله وما صنعته يداه.

          (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [يوسف] .

أ.ح – بيت المقدس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *