العدد 183 -

السنة السادسة عشرة – ربيع الثاني 1423هـ – حزيران 2002م

مع القرآن الكريم: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ)

مع القرآن الكريم: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ)

قال الله سبحانه: (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين * فلما ءاسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين * فجعلناهم سلفا ومثلاً للآخرين)  [الزخرف].

إن الأمة إذا لم تحاسب الحاكم، وإذا لم تأخذ على يديه إن ظلم، ولم تقف في وجهه إن طغى وبغى، فإنَّ ذلك سيجعل الحاكم يتمادى في ظلمه وبغيه وطغيانه، وبخاصة أولئك الطواغيت الذين لا يعرفون لله ولا لرسوله مقاماً، ولا يجعلون للخير في حكمهم مكاناً.

هؤلاء الحكام كلما صفقت الأمة لظلمهم، أو هتفت باسمهم في الوقت الذي يرتكبون فيه الجريمة تلو الجريمة، والفساد تلو الفساد، فإنهم إزاء هذا التصفيق والهتاف يهزأون من الأمة في سرّهم بل في علنهم.

          إن قالوا عن هذا الحاكم إنه الزعيم الأوحد وهو يعرف أنه الأسوأ، أو قالوا إنه الرئيس القائد المناضل وهو يدرك في قرارة نفسه أنه المقود المتخاذل، أو صفقوا لما يعلنه من سلام الشجعان وهو يعلم أنه استسلام الجبان، فإنَّ هذا الحاكم، في هذه الحالة، ستأخذه نشوة الزهو بما يخدع الناس به من أعمال ويضللهم به من أقوال.

          إن من علامات حيوية الأمة أن تحاسب الحاكم بقوة إذا أساء أو ظلم، وأن تقف في وجهه إن طغى وبغى، فإن لم تفعل فقد دخلت درب الأموات حتى وإن كانت تأكل الطعام وتشرب الماء وتتنفس الهواء.

          لقد ضرب الله سبحانه لنا مثلاً، في هذه الآيات البينات، عن الفرعون القديم، وهو مثل حي لكل فراعنة هذا العصر، ففيه بيان وأيُّ بيان عن واقع الطغاة والأمة الساكتة على طغيانهم:

          1 –  إنَّ فرعون كان طاغية عصره، فقد تجاوز الحدود في طغيانه وبغيه، فادعى لنفسه الألوهية (فحشر فنادي @ فقال أنا ربكم الأعلى) [النازعات] وتدخل في تفكير الناس وآرائهم وإيمانهم، لذلك أزبد وأرعد عندما آمن السحرة برب العالمين عندما شاهدوا الحجة البالغة من موسى عليه السلام، فصاح فرعون (ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم) [طه/71].

          ثم أخد يتهم كل من لا يرى رأيه بأنه مخرّب، متآمر، يريد قلب نظامه، وإفساد البلاد، وتشريد العباد (إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا أهلها) [الأعراف/123].

          وجعل من نفسه المالك للبلد وخيراته (ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه  الأنهار تجري من تحتى أفلا تبصرون) [الزخرف].

          ثم هو المالك للرأي السديد والقول الرشيد ولا صواب إلا ما يراه هو: (قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) [غافر].

          وقد جعل السيف مصلتاً على رقاب معارضيه والقائلين بغير قوله (إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى) [طه].

          كل هذه الجرائم يرتكبها فرعون والقوم يصفقون له، ويظهرون له الولاء، ويطيعونه في السراء والضراء. فكانت هذه المظاهر المتزايدة من التأييد لفرعون مدعاة له أن يستخف هؤلاء الناس، فلا يقيم لهم وزناً، ولا يعبأ بهم، بل ويزداد طغياناً وكفراً. فقد كانوا خلفه يسيرون خانعين، لا يردون له قولاً، ولا يقاومون له عملاً. فاستخف بهم لسكوتهم عليه، ولطاعتهم له في كل ما يقدم عليه.

          (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين) فكانوا أهل فسق لخروجهم عن كل ما هو حق.

          2 –  ثم بين الله سبحانه ماذا حلَّ بهم. فقد أغرقهم الله أجمعين: فرعون الطاغية، وزبانيته، وكذلك قومه الذين صفقوا لجرائمه. فكلهم شملهم العذاب. فدائرة العذاب تحيط بالطغاة الظالمين، ويدخل في هذه الدائرة كذلك أقوامهم الساكتون على طغيانهم وظلمهم، المؤيدون لهم المصفقون لجرائمهم.

          (فلما ءاسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ) فكان الغرق نصيب فرعون الطاغية وزمرته وقومه الذين اتبعوه وأيدوه.

          3 –  يبين الله سبحانه في الآية الثالثة أن ما حدث لفرعون وقومه هو مثل لمن يأتون من بعد. فمن أراد من أقوام الظلمة أن ينجو من العذاب الذي يصيب الطغاة، فإن عليه أن يبذل الوسع في الإنكار عليهم، والوقوف في وجههم، والعمل على تغييرهم، وإلاَّ لم ينج من العذاب. يقول سبحانه: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) [الأنفال/25] فهي تصيب الظالمين بظلمهم، والآخرين لسكوتهم على الظلم والرضى به.

          ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة».

          وهكذا فإنّ ما حدث لفرعون الطاغية وقومه درس لكل ظالم طاغية في كل عصر ولكل ساكت على الظلم ومصفق للظالم، ولكل قاعد متقاعس لا يبذل الوسع في الإنكار عليه وتغييره.

          (فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين) .

          والخلاصة أن هذه الآيات البينات التي قصَّت علينا ما حدث لفرعون وقومه، تكاد تنطق بما هو عليه حال طغاة هذا العصر الذين يتحكمون برقاب المسلمين:

          فهم قد جعلوا أنفسهم أرباباً من دون الله، يشرعون للناس، يحللون ويحرمون. يحللون الخيانة، ويحرمون الأمانة، منعوا كلمة الحق أن تقال إلا بترخيص منهم، وضمن مقاييس وضعوها يسهرون على تنفيذها وحمايتها بالترغيب والترهيب. وهم يتصرفون بثروة الأمة، معادنها الثمينة، وبترولها، وبحارها وأنهارها وكل خيراتها، يتصرفون فيها كأنهم أربابها وأصحابها، تماماً كما كان يدعي فرعون مُلكَ مصر، بل ويزيدون على جرائم فرعون بكونهم عملاء لأسيادهم المستعمرين، يحققون مصالح هؤلاء الأسياد قبل مصالحهم، ويجعلون البلاد، أرضها وسماءها، مستباحة للكفار المستعمرين ومناطق لنفوذهم.

          هؤلاء هم فراعنة هذا العصر في بلاد المسلمين:

          أفلا تتحرك الأمة للإنكار عليهم وتغييرهم؟

          أفلا تقف الأمة في وجههم وقفة يحبها الله ورسوله؟

          أفلا تنقذ الأمة نفسها من العذاب الأليم الذي يصيب الطغاة الظالمين لعتوهم واستكبارهم؟

          أفلا تتطلع الأمة لعزٍّ في الدنيا وفوزٍ في الآخرة؟

          إن هؤلاء الحكام قد طغوْا وبغوْا، وحاربوا الله ورسوله، فهل تقف الأمة معهم في حربهم فتهلك مع هلاكهم؟ أو تقف مع الله ورسوله فتفوز وتنجو؟

          (إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين) [الأنبياء]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *