العدد 178 -

السنة السادسة عشرة ذو القعدة 1422هـ – شباط وآذار 2002م

حـقُّ الأَمـير

الأمر هو طلب الفعل على وجه الاستعلاء، ويكون من الله سبحانه (ألا له الخلق والأمر) (الأعراف/7) ويكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم  وحياً كما في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «… فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ويكون من الزوج لزوجته: إذا أمرها أطاعته، ومن الوالد لولده، أخرج أحمد بإسناد رجاله ثقات عن معاذ قال أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم     بعشر كلمات قال: «… ولا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك…» ويكون من الأمير وهو ذو الأمر، أي الرجل الذي يلي أمر جماعة بينهم أمر مشترك، أي الرجل الذي له صلاحية طلب الفعل على وجه الاستعلاء من جماعة بينها أمر مشترك. ويشمل أمير المؤمنين والمشترك بينه وبين الأمة هو تطبيق الشرع، ويشمل أمير الحزب والمشترك هو الغاية التي اجتمعوا عليها، ويشمل أمير الرفقة أي السفر والمشترك بينهم هو كل ما له علاقة بالسفر، وهذا النوع من الأمر هو ما يعنينا هنا، لبيان حق الأمير سواء أكان أميراً للمؤمنين أو من يعطيه صلاحية إصدار الأمر كأمير الجيش أو السرية أو الوالي أو العامل أو وزير التفويض، أو كان أمير حزب أو أمير رفقة. وذلك لأن نصوص طاعة الأمير وحقه على من تولى أمرهم تشمل الأمير العام، والأمير الخاص، ولكن فقط في الأمر المشترك، فهي للأمير العام ـ أمير المؤمنين ـ عامة في كل أمر من أمور الحكم والرعاية لأن المشترك بينه وبين الأمة هو تطبيق الشرع كله، وأما الأمير الخاص فهي في حدود ما أمر لأجله ولا تتجاوزه إلى سواه.

وغرضنا هنا أن نبين حق الأمير على من هم تحت إمرته، ولما كان هذا الأمر من المسائل السهلة الميسورة، التي لا تعتاص على من يفهم العربية، فلن نكثر من الشرح إلا نادراً حيث يلزم، ونكتفي بالأحاديث والآثار، فمن حقوقه:

أولاً: الثقة وإحسان الظن به

والثقة هي الائتمان، أي أن يأتمن المأمورون أميرهم على تحقيق الأمر المشترك الذي أمّروه من أجله. فالأصل فيهم أن لا يختاروا إلا أميناً مؤتمناً، ولا تنخرم هذه الأمانة إلا بالخيانة، كأن يعمل الأمير على تغيير الأمر المشترك، أو يعمل على إبعاده وعدم تحقيقه وإفشاله، والخطأ ليس من الخيانة ولا ينافي الأمانة، وبالتالي فهو ليس مبرراً لنـزع الثقة. إلا إذا كثر وكان فاحشاً، فينبغي للمأمورين أن يحسنوا الظن بأميرهم، هكذا كان الصحابة y فقد أخرج أبو يعلى والطبراني عن أسيد بن حضير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم         : «إنكم ستلقون بعدي أثرة» قال فلما كان زمن عمر بن الخطاب قسم حللاً بين الناس فبعث إلي بحلة فاستصغرتها، فأعطيتها ابني، فلما كنت أصلي إذ مر بي شاب من قريش عليه حلة من تلك الحلل يجرها، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم         : «إنكم ستلقون بعدي أثرة» فقلت صدق الله ورسوله، فانطلق رجل إلى عمر فأخبره، فجاء وأنا أصلي فقال: صل يا أسيد، فلما قضيت صلاتي قال: كيف قلت؟ فأخبرته، فقال: تلك حلة بعثتها إلى فلان بن فلان، وهو بدري، أحد بني عدي، فأتاه هذا الفتى فابتاعها منه ولبسها، فظننتَ أن هذا يكون في زماني؟ فقلت: لقد ظننت والله أن لا يكون في زمانك.

فإذا افترض المأمورون في أميرهم أنه بشر يصيب ويخطئ، ونفوا عنه العصمة، كان خيراً له ولهم، قال الشافعي: [ما من أحد من المسلمين يطيع الله ولا يعصيه، ولا أحد يعصي الله ولا يطيعه، فمن كانت طاعته أغلب من معاصيه فهو عدل].

ولا يخلع الأمير إلا بمسوغ شرعي، وهذه المسوغات مبسوطة في كتب الأحكام السلطانية فليرجع إليها.

ثانياً: النصح له

أخرج مسلم عن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم        قال: «الدين النصيحة قلنا لمن قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم». وأخرج مالك في الموطأ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم      قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويسخط لكم ثلاثاً: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، ويسخط لكم قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال، وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجة عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «نضر الله عبداً سمع مقالتي هذه فحملها فرب حامل الفقه غير فقيه، ورب حامل الفقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهن صدر مسلم: إخلاص العمل لله عز وجل ومناصحة أولي الأمر ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من ورائهم» اللفظ لأحمد.

وينبغي أن تكون النصيحة في السر، أخرج الشيخان كلاهما عن الأعمش عن شقيق (أبي وائل) واللفظ للبخاري قال: قيل لأسامة لو أتيت فلاناً فكلمته، قال: إنكم لترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم، إني أكلمه في السر، دون أن أفتح باباً لا أكون أول من فتحه، ولا أقول لرجل أن كان عليّ أميراً إنه خير الناس بعد حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم         ، قالوا وما سمعته يقول؟ قال سمعته يقول: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون أي فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه» وفي رواية مسلم: ألا تدخل على عثمان فتكلمه…

وأخرج البيهقي وابن الأثير والطبراني بإسناد متصل رجاله ثقات عن جبير بن نفير قال: [جلد عياض بن غنم صاحب دار حتى فتحت، فأغلظ له هشام بن حكيم القول حتى غضب عياض، فمكث ليال، ثم جاء هشام فاعتذر إليه وقال له هشام: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم       يقول: «إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة أشدهم للناس عذاباً في الدنيا» فقال له عياض: قد سمعنا ما سمعت ورأينا ما رأيت أو لم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم   يقول: «من أراد أن ينصح لذي سلطان عامة فلا يبد له علانية ولكن ليخل به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه» وإنك يا هشام لأنت الجريء إذ تجترئ على سلطان الله، فهلا خشيت أن يقتلك السلطان فتكون قتيل سلطان الله].

وأخرج الذهبي عن الشعبي قال: حج سليمان فرأى الناس بالموسم فقال لعمر بن عبد العزيز: أما ترى هذا الخلق الذي لا يحصي عددهم إلا الله ولا يسع رزقهم غيره؟ قال يا أمير المؤمنين هؤلاء اليوم رعيتك وهم غداً خصماؤك. فبكى سليمان بكاءً شديداً ثم قال: بالله أستعين.

ثالثاً: طاعته في غير معصية

قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم) (النساء/59) وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني». وأخرج البخاري عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة». وعن أبي ذر عند مسلم قال: «أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم       أن أسمع وأطيع ولو لعبد مجدع الأطراف» وعنده أيضاً من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم     قال: «عليك بالطاعة في منشطك ومكرهك وعسرك ويسرك وأثرة عليك» وعنده أيضاً من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم     أنه قال: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية…» وعنده أيضاً من حديث عبد الله بن عمر قال: سمعته يقول: «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية». وأخرج ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه واللفظ له: عن أبي أمامة الباهلي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم      يقول يوم حجة الوداع: «اعبدوا ربكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة أموالكم وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم». وأخرج أحمد عن العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم       قال: «… وعليكم بالطاعة وإن عبداً حبشياً عضوا عليها بالنواجذ فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد» وأخرج أبو بكر الخلال في السنة عن يحي بن الحصين بإسناد صحيح عن جدته قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفة وهو يقول: «إن أمر عليكم عبد حبشي فاسمعوا له وأطيعوا ما قادكم من كتاب الله». وأخرج ابن أبي عاصم في السنة بإسناد صحيح عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم      : «إسمع وأطع لمن كان عليك». وأخرج الطبراني وأحمد وابن أبي عاصم بإسناد جيد رجاله رجال الصحيح عن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم    قال: «إن السامع المطيع لا حجة عليه وإن السامع العاصي لا حجة له». وأخرج أحمد في المسند عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم  أنه قال: «إنا مدلجون ولا يدلجنّ مصعِب ولا مضعِف، فأدلج رجل على ناقة له صعبة، فسقط فاندقت فخذه فمات، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم       بالصلاة عليه، ثم أمر منادياً ينادي في الناس: إن الجنة لا تحل لعاصٍ ثلاث مرات».

ولا طاعة في المعصية التي لا خلاف في أنها معصية، أخرج الشيخان من حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم   قال: «السمع والطاعة على المرء المسلم في ما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة». وأخرج أحمد بإسناد صحيح عن علي أن الرسول صلى الله عليه وسلم        قال: «لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف». وأخرج أبو بكر الخلال في السنة بإسناد صحيح عن سويد بن غفلة قال: [قال لي عمر: يا أبا أمية إني لا أدري لعلي لا ألقاك بعد عامي هذا فإن أمر عليك عبد حبشي مجدع فاسمع له وأطع، وإن ضربك فاصبر وإن حرمك فاصبر وإن أراد أمراً ينتقص دينك فقل سمعاً وطاعة دمي دون ديني ولا تفارق الجماعة]. وأخرج أحمد عن عبادة بإسناد لا بأس به قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم        أبا القاسم محمداً يقول: «إنه سيلي أموركم من بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون وينكرون عليكم ما تعرفون فلا طاعة لمن عصى الله فلا تعتلّوا بربكم».

ومن صور طاعة الصحابة ومن تبعهم ما أخرجه أبو داود والنسائي عن سهل بن الحنظلية [أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم   فجاء رجل فارس فقال: يا رسول الله إني انطلقت من أيديكم حتى اطلعت على جبل كذا وكذا فإذا أنا بهوازن على بكرة آبائهم بظعنهم ونعمهم وشائهم، قال فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم     وقال: تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله ثم قال: من يحرسنا الليلة؟ فقال أنس بن أبي مرتد الغنوي: أنا يا رسول الله، قال فاركب، فركب فرساً له فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم    فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم      : استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا نُغرنّ من قبلك الليلة، فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم    إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال: هل أحسستم فارسكم؟ فقال رجل: يا رسول الله ما أحسسناه، فثوّب بالصلاة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم      يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته وسلم قال: ابشروا فقد جاء فارسكم، فقال: إني انطلقت حتى إذا كنت في أعلى الشعب حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم   فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحداً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم      : أنزلت الليلة؟ قال لا إلا مصلياً أو قاضي حاجة، فقال له وجبت لك الجنة فلا عليك أن لا تعمل بعدها]. وأخرج أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: فأفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم     من عرفة وأمرهم بالسكينة وأردف أسامة بن زيد وقال: يا أيها الناس عليكم بالسكينة والوقار فإن البر ليس بإيجاف الإبل والخيل، فما رأيت ناقة رافعة يدها حتى بلغت جُمعاً. ثم أردف الفضل بن العباس من جُمع إلى منىً وهو يقول: يا أيها الناس عليكم بالسكينة والوقار، فإن البر ليس بإيجاف الإبل والخيل، فما رأيت ناقة رافعة يدها عادية حتى بلغت منىً. وأخرج أبو يعلى عن سعيد المسيب قال: [اجتمع علي وعثمان وكان عثمان ينهى عن المتعة أو عن العمرة، فقال علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه! فقال عثمان دعنا منك، قال إني لا أستطيع أن أدعك، قال فلما رأى علي ذلك أهل بهما جميعاً]. وأخرج أبو يوسف في الآثار عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم [أن عثمان رضي الله عنه صلى بمنى أربعاً فبلغ ذلك ابن مسعود رضي الله عنه فاسترجع ثم تهيأ للصلاة مع عثمان فقال له بعض أصحابه: أتصلي معه وقد استرجعت! قال: الخلاف شر]. وأخرج الطبراني بإسناد رجاله رجال الصحيح عن نوفل بن مساحق قال: [بينا عثمان بن حنيف يكلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان عاملاً له فأغضبه، فأخذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبضة من البطحاء فرجمه بها، فأصاب حجر منها جبينه فشجه، فسال الدم على لحيته، فكأنه ندم فقال: امسح الدم عن لحيتك، فقال: لا يهولنك هذا يا أمير المؤمنين، فوالله لما انتهكت ممن وليتني أمره أشد مما انتهكت مني، قال فكأنه أعجب عمر ذلك منه وزاده خيراً]. وأخرج الطبراني وأبو داود عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم       : «لو تركنا هذا الباب للنساء» قال فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات.

ومن طاعته تنفيذ قراراته وأوامره وعزماته. قال الجويني في الغياثي: [يجب اتباع الإمام قطعاً فيما يراه من المجتهدات فيرتب القتال على أمر مقطوع به، وهو تحريم مخالفة الإمام في الأمر الذي دعا إليه وإن كان أصله مظنوناً]، والقاعدة معروفة: [أمر الإمام نافذ ظاهراً وباطناً]. ومن أمثلة تنفيذ العزمات ما أخرجه البخاري في المناقب عن عبد الله بن عمر قال: [ما سمعت عمر لشيء قط يقول إني لأظنه كذا إلا كان كما يظن: بينما عمر جالس إذ مر به رجل جميل، فقال عمر: لقد أخطأ ظني أو إن هذا على دينه في الجاهلية أو لقد كان كاهنهم، علي الرجل، فدعي له فقال له ذلك، فقال ما رأيت كاليوم أستقبل به رجل مسلم. قال فإني عزمت عليك إلا ما أخبرتني، قال: كنت كاهنهم في الجاهلية]. وما أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب قال: [وهو الذي قال لعمر حين وجد في مجلسه رائحة من بعض جلسائه فقال عمر: عزمت على صاحب هذه الرائحة إلا قام فتوضأ، فقال جرير بن عبد الله: علينا كلنا يا أمير المؤمنين فاعزم، قال عليكم كلكم عزمت، ثم قال يا جرير ما زلت سيداً في الجاهلية والإسلام]. وأخرج البخاري تحت باب عزم الإمام على الناس فيما يطيقون: عن أبي وائل قال قال عبد الله رضي الله عنه: لقد أتاني اليوم رجل فسألني عن أمر ما دريت ما أرد عليه فقال: أرأيت رجلاً مؤدياً نشيطاً يخرج مع أمرائنا في المغازي فيعزم علينا في أشياء لا نحصيها؟ فقلت له والله ما أدري ما أقول لك إلا أنا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم      فعسى أن لا يعزم علينا في أمر إلا مرة حتى نفعله. وأخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: «سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم    إلى مكة ونحن صيام قال فنـزلنا منـزلاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم          : إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا وكانت عزمة فأفطرنا…»، وأخرج أحمد عن الزبير رضي الله عنه أنه لما كان يوم أحد أقبلت امرأة تسعى حتى إذا كادت أن تشرف على القتلى قال فكره النبي صلى الله عليه وسلم         أن تراهم فقال: المرأةَ المرأةَ، قال الزبير رضي الله عنه فتوسمت أنها أمي صفية قال فخرجت أسعى إليها فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى، قال فلَدَمَتْ في صدري وكانت امرأة جلدة قال: إليك لا أرض لك، قال فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم      عزم عليك قال فوقفت…». وأخرج أحمد عن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب أخي عبد الله قال: [كان للعباس ميزاب على طريق عمر بن الخطاب فلبس عمر ثيابه يوم الجمعة وقد كان ذبح للعباس فرخان فلما وافى الميزاب صب ماء بدم الفرخين فأصاب عمر وفيه دم الفرخين، فأمر عمر بقلعه، ثم رجع عمر فطرح ثيابه ولبس ثياباً غير ثيابه، ثم جاء فصلى بالناس، فأتاه العباس فقال: والله إنه للموضع الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم       فقال عمر للعباس: وأنا أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم   ففعل ذلك العباس رضي الله تعالى عنه].

والعزمة في النصوص السابقة تعني الأمر الجد الحتم، قال ابن منظور في اللسان: [عزمت عليك أي أمرتك أمراً جداً وهي العزمة] وقال النووي: [عزمت عليك أي أمرتك أمراً جازماً عزيمة محتمة، وأمر ولاة الأمور تجب طاعته في غير معصية]، أما عزمة غير الأمير فإنها تعني القسم، قال في اللسان: [عزم عليه ليفعلن أقسم]، والأمير ليس بحاجة لأن يقسم لأن أمره في غير المعصية تجب طاعته.

رابعاً: إنفاذ رغبته ولو لم تكن عزمة

قد لا يعزم الأمير ولكن يفصح عن رغبته في ترجيح أمر على آخر، فإنه وإن كان هناك مجال لاختيار الأمر الذي لم يرجحه الأمير، وأنه لا جناح على من خالف رغبته، إلا أن الأولى أن يأتي ما فيه هوى الأمير ورغبته، أي أن يرجح هوى الأمير على هوى نفسه، لا لينال عنده حظوة بل طمعاً فيما عند الله من حسن الثواب، أخرج بن عساكر عن سيف بن عمر قال: [فكتب أبو بكر عند اهتياجه للشام إلى عمرو: إني قد رددتك إلى العمل الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم        قد ولاكه مرة وسمَّاه لك أخرى، مبعثك إلى عمان، إنجازاً لمواعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم        ، قد وليته ثم وليته، وقد أحببت أبا عبد الله أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك، إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك، فكتب إليه عمرو: إني سهم من سهام الإسلام، وإنك بعد الله الرامي بها، والجامع لها، فانظر أشدها وأفضلها فارم به شيئاً إن جاءك من ناحية من النواحي].

خامساً: التأدب معه في الخطاب وعدم الاجتراء عليه

أخرج ابن عساكر عن إبراهيم بن أبي عبلة قال: [بعث إلي هشام بن عبد الملك فقال: يا إبراهيم إنا قد عرفناك صغيراً، واختبرناك كبيراً، ورضينا بسيرتك وبحالك، وقد رأيت أن أخلطك بنفسي وخاصتي، وأشركك في عملي، وقد وليتك خراج مصر، قال فقلت: أما الذي عليه رأيك يا أمير المؤمنين فالله يجزيك ويثيبك، وكفى به جازياً ومثيباً، وأما الذي أنا عليه فما لي بالخراج بمصر، وما لي عليه قوة، قال فغضب حتى اختلج وجهه، وكان في عينيه الحول، قال: فنظر إلي نظراً منكراً ثم قال: لتلينَّ طائعاً أو لتلينَّ كارهاً، قال: فأمسكت عن الكلام حتى رأيت غضبه قد انكسر، وسورته قد طفيت، فقلت: يا أمير المؤمنين أتكلم، قال: نعم، قلت: إن الله سبحانه وبحمده قال في كتابه: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها) (الأحزاب/72) الآية، فوالله يا أمير المؤمنين ما غضب عليهن إذ أبَين، ولا أكرههن إذ كرهن، وما أنا بحقيق أن تغضب علي إذ أبيت، ولا تكرهني إذ كرهت، قال فضحك حتى بدت نواجذه ثم قال: يا إبراهيم قد أبيت إلا فقهاً، قد رضينا عنك وأعفيناك].

سادساً: الوفاء له وعدم الغدر

أخرج الشيخان من حديث ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم     يقول: «لكل غادر لواء ينصب بغدرته يوم القيامة». وأخرج مسلم من حديث أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم      : «لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره. ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة».

سابعاً: الصبر على ما يكره منه

أخرج الشيخان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم     قال: «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة قيد شبر فيموت إلا مات ميتة جاهلية». وأخرج البيهقي عن سهل بن معاذ عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من أي الحور شاء». وأخرج البيهقي والخلال بسند صحيح عن سويد بن غفلة قال قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [يا أبا أمية لعلك إن تخلف بعدي فأطع الإمام وإن كان عبداً حبشياً، إن ضربك فاصبر، وإن أمرك بأمر فاصبر، وإن حرمك فاصبر، وإن ظلمك فاصبر، وإن أمر بأمر ينقص دينك فقل سمع وطاعة دمي دون ديني].

ثامناً: إكرامه والدفع عنه بظهر الغيب وبحضرته

أخرج أحمد في مسنده بإسناد حسن عن أبي بكرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أكرم سلطان الله تبارك وتعالى في الدنيا أكرمه الله يوم القيامة، ومن أهان سلطان الله تبارك وتعالى في الدنيا أهانه الله يوم القيامة». وأخرج البيهقي هذا الحديث في السنن ولفظه: كان عبد الله بن عامر يخطب الناس عليه ثياب رقاق مرجل شعره، قال فصلى يوماً ثم دخل، قال وأبو بكرة جالس إلى جنب المنبر، فقال مرداس أبو بلال: ألا ترون إلى أمير الناس وسيدهم يلبس الرقاق ويتشبه بالفساق، فسمعه أبو بكرة فقال لابنه الأصيلع: ادع لي أبا بلال، فدعاه له، فقال أبو بكرة: أما إني سمعت مقالتك للأمير آنفاً، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم     يقول: «من أكرم سلطان الله أكرمه الله، ومن أهان سلطان الله أهانه الله». وأخرج البيهقي من حديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم   : «إن من إجلال الله عز وجل إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا المجافي عنه وإكرام ذي السلطان المقسط». ذكر ابن الجوزي في المنتظم عن أبي رجاء العطاردي قال: دخلت المدينة فرأيت الناس مجتمعين، ورأيت رجلاً يقبل رأس رجل وهو يقول: أنا فداؤك لولا أنت هلكنا. فقلت من المقبل ومن المقبل؟ قالوا: ذاك عمر يقبل رأس أبي بكر رضي الله عنهما في قتاله أهل الردة إذ منعوا الزكاة حتى أتوا بها صاغرين. وأخرج الطبراني بإسناد قال عنه في المجمع رجاله رجال الصحيح عن المغيرة بن شعبة قال: كنت عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه فعرض علي فرس، فقال رجل: احملني على هذا، فقال: لأَنْ أحمل غلاماً قد ركب الخيل على عزلته أحب إلي من أن أحملك عليه، فغضب الرجل فقال: أنا والله خير منك ومن أبيك فارساً، فغضبت حين قال ذلك لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم  ، فقمت إليه فأخذت برأسه، وسحبته على أنفه، فكأنما كان أنفه عزلاء مزادة، فأراد الأنصار أن يستقيدوا مني، فبلغ ذلك أبا بكر فقال: بلغني أن أناساً يزعمون أني مقيدهم من المغيرة بن شعبة، ولأن أخرجهم من ديارهم أقرب من أن أقيدهم من وزعة الله الذين يزعون عباده. وأخرج البيهقي وأبو داود والطبراني بإسناد حسن عن جابر قال: «ما من امرئ يخذل مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من أمرئ ينصر مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته». وأخرج البيهقي عن أبي الدرداء قال: نال رجل من رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم          ، فرد عليه الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم   : «من رد عن عرض أخيه كان له حجاباً من النار». وأخرج ابن عساكر والذهبي عن عبد الله بن دينار وغيره قال: لم يلق عمر أسامة قط إلا قال: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، أمير أمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم   ومات وأنت علي أمير.

تاسعاً: حفظ سرّه

أخرج الطبراني في الكبير بإسناد رجاله ثقات وفي بعضهم كلام لا يضر عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم    : «من أسرق السراق من يسرق لسان الأمير». وأخرج أحمد بإسناد صحيح عن عبد الله بن جعفر قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم         ذات يوم خلفه فأسر إلي حديثاً لا أخبر به أحداً ابداً. وأخرج الطبراني من طريق عامر الشعبي عن ابن عباس قال قال العباس أي بني إن أمير المؤمنين يدعوك ويقربك ويستشيرك مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم    فاحفظ عني ثلاث خصال: اتق الله لا يجربنّ عليك كذبة، ولا تفشين له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً. قال عامر فقلت لابن عباس كل واحدة خير من عشرة آلاف.

عاشراً: لا يذكر أحداً عنده بسوء

أخرج أحمد في مسنده بإسناد حسن عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  لأصحابه: «لا يبلغني أحد عن أحد شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر». وأخرج الطبراني بإسناد رجاله رجال الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم    إذ جاءه حرملة بن زيد فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقال يا رسول الله الإيمان ههنا وأشار بيده إلى لسانه والنفاق ههنا وأشار بيده إلى صدره، ولا يذكر الله إلا قليلاً، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم    ، فردد ذلك عليه، وسكت حرملة، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم       بطرف لسان حرملة فقال: «اللهم اجعل له لساناً صادقاً وقلباً شاكراً وارزقه حبي وحب من يحبني وصير أمره إلى الخير» فقال حرملة: يا رسول الله إن لي إخواناً منافقين كنت فيهم رأساً أفلا أدلك عليهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم     : «لا من جاءنا كما جئتنا استغفرنا له كما استغفرنا لك، ومن أصر على ذنبه فالله أولى به ولا تخرق على أحد ستراً».

حادي عشر: التسرية عنه عند الضيق

أخرج أحمد عن جابر قال: أقبل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم        والناس ببابه جلوس فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لأبي بكر وعمر، فدخلا والنبي صلى الله عليه وسلم        جالس وحوله نساؤه وهو ساكت، فقال عمر رضي الله عنه: لأكلمن النبي صلى الله عليه وسلم         حتى يضحك، فقال عمر: يا رسول الله لو رأيت بنت زيد ـ امراة عمر ـ فسألتني النفقة آنفاً فوجأت عنقها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم   حتى بدا نواجذه قال: هن حولي كما ترى يسألنني النفقة».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *