العدد الثالث -

العدد الثالث، السنة الأولى، ذو الحجة 1407 هـ، الموافق آب 1987م

فريضة الحج عامل من عوامل وحدة الأمة الإسلامية وأدائها مظهر لهذه الوحدة

في هذه الأيام المباركة يتوجه مئات الآلاف من أبناء المسلمين إلى بيت الله الحرام لتأدية فريضة الحج والعمرة. وإذا تجاوزنا في حديثنا هذا عن فريضة الحج كونها عبادة من عبادات الإسلام، إلى ما تحدثه هذه الفريضة من أثر في سير أمّة الإسلام نحو هدفها المنشود وهو جمع العالمين على قصد واحد وهو توحيد الله الخالق الباري في ربوبيته وأُلوهيته.

من هنا كان الحج منوطاً بمكان واحد وزمن واحد، يتجه فيه المؤمنون إلى ربّ واحد جلَّ شأنه. فالحج مناسك وشعائر تعبدية لا تخضع إلى مبدأ التعليل المصلحي ولا المنفعة الدنيوية، وإنما هي توقيفية يقام بها لذاتها، بينما في مجموعها تؤدي فيما تؤدي إلى إبراز وحدة الأمة في وحدة الشعائر والمناسك داخل حيِّذ واحد زمني مكاني، فتتجلى هذه الوحدة التكتلية في أسطع شكل بالرغم من الجهل الذي يكتنف رؤية بعض المسلمين لهذه المناسك والشعائر، فقد جردت عند بعضهم من معانيها وصارت عند جمهور كبير من المسلمين قياساً بأشكال من الأفعال، وتكراراً لطقوس وحركات مقطوعة الصلة بالنفس مبتورة عن إدراك الأبعاد التاريخية لحركة النبوة والرسالة. تتجلى هذه الوحدة في إطار من الشعور المستمر بعظمة الرسالة – رسالة هذه الأمة – وعظمة الرسول الذي بلّغها، ومن ثم لعظمة هذه الأمة، وبادراك أبعاد وحدة هذه الأمة. فكان الحج بحق أحد الركائز أو الركيزة الأساسية الباقية لضمان هذا الشعور المستمر بترابط المسلمين في كل أقطار الدنيا، وهو الوسيلة المفروضة الباقية والدائمة دوام الدهر إلغاء الحدود وتجاوز الأقطار والسدود والكيانات السياسية المصطنعة، والتي لا تعدو كونها بلاءاً عظيماً في وجه تحقق وحدة الأمة مادياً ونهوضها.

ففي الحج ربط سنوي لقنوات التواصل والتماذج الثقافي والشعوري بين شعوب الأمة الإسلامية وأجناسها ومذاهبها ولغاتها ولهجاتها رغم ما نعانيه وتعانيه أمة الإسلام في كل أقطارها وبقاعها من ظلم شديد على يدي حكامها وطواغيت حرصت كل الحرص على إبقاء التمزق والفرقة والعداء بين المسلمين.

وفوق كل ذلك، فالحج يبقى كما أسلفنا صورة تكتلية رائعة ناصعة. وكما أن الحج رحلة في اتجاه الماضي على مستوى النفس – المؤمنة – فهو من جهة أخرى رحلة تجاه قراءة السيرة النبوية العطرة وتاريخ الأمة الإسلامية.

إذ تحصل عند المسلم القاصد للحج عملية اختزال وطيّ للزمن، فيتم الاتصال بمواضع النبع الأصلي، ومشاهدة أرض النبوة، والعيش مع الحوادث التاريخية التي جرت عليها ؟؟؟‍‍‍!!! فتقفز تلك الصور الرائعة التي يلمسها المسلم الحاج في التحقق بالآيات البيِّنات في حركة الإسلام الأولى في الدعوة والهجرة، وفي الصبر على المحن والمعاناة التي عاشها أو عاشتها أول طائفة من المؤمنين. فيذوب الزمن وأنت تشعر وترى، هنا كانت دار الندوة، هنا كان الصراع دائراً بين رجال الحق وجبابرة الكفر. وهنا كانت دار بني الأرقم موضع صنع الإسلام في الرجال، أو قل صنع الرجال في الإسلام. فهي كانت البوتقة التي صُهرت فيها الثُلّة الأولى. وفي تلك الربوع، وبين تلك الثنايا، عاش الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأصحابه الحصار والمقاطعة، والتجويع في شعاب مكة وأوديتها.

في زيارتك لتلك الربوع تستنطق الأثر، فترى أحداث الهجرة الأولى إلى بلاد الحبشة، وأحداث الهجرة الثانية الفاصلة وما سبقها من محاولات طلب النصرة عند القبائل ومن ثم البيعة التي كانت فاتحة باب الزمن على عهد جديد تغيّر به وجه الدنيا.

تنقلك الرؤا إلى ربوع طيبة سيدة المدن وموطن الخير، إلى يثرب مدينة النخيل وهي تستقبل المهاجرين مصحوبين بنبي الله القادم، ومعه خير دين، تستقبله وهي تعاني من ظلم الديانات، وصراع القبليات والعشائر، الذي ما برحت اليهود توقده كلما خبى وهمد. فجاء قدوم رسول الإسلام مخرجاً ومنقذاً من تراهات الوثنية وضلالات اليهود وكيدهم ودسائسهم وتبدو لك وأنت تجوب تلك الموضع صبور الجهاد، والإعداد له وصور النصر في الملاحم، وصور المواجهة مع الأحزاب – أحزاب الكفر – قريش والقبائل واليهود فيلتحم الخيال بالحقيقة والماضي بالحاضر، وها هم اليهود اليوم بأحزابهم وقريشهم يعيدون التخريب والهدم في جسم الأمة من جديد بإيقاد نار الفتن والقلاقل في آنٍ واحد تبدو صور الحصار وما فيه من ابتلاء للمؤمنين وامتحان. ويجيء النصر بعد ذلك، في وقت تنعدم فيه أسبابه الموضوعية. وتملك عليك هذه الصور ذهنك وعقلك وأنت واقف أمام قبر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم مع سيل هائل من المشاعر الفياضة والشعور بالخجل من التقصير الذي استهلكت حياتك فيه حينما وجدت نفسك – رغماً عنك – تقدم حساباً دقيقاً لقائدك الذي تقف أمامه. نعم صار لزاماً عليك أن تقدم كشفاً كاملاً عن الوديعة التي تركها لديك، حيث قال لك ولكل أمة الإسلام من بعده حتى قيام الساعة: «تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي» فكيف كان احتضانك لتلك الوديعة؟ وكيف كان تمسكك بها؟ انه موقف لا تفيد معه المواربة ولا التعمية، ولا أنصاف الإجابات. انه موقف لا يفيد فيه إلا الصدق مع النفس والالتزام بالعهد فيما بقي من فسحة الأمل.

كل هذه الصور تتزاحم عليك وتزاحمها صور الانطلاق في الفتح والمواجهة مع المحيط الواسع في جزيرة العرب والعودة إلى مكة ثم صلح الحديبية الذي أبرمه الرسول القائد مع قريش، ومواجهة شعائر المسلمين وسخطهم على الصلح ونتائجه الغريبة.

وينطوي الزمن وتبدأ حجة الوداع، وهي وحدها بأحداثها كتاب عظيم للناس. ولا بد أن تسأل أرتال الحجيج نفسها ماذا فعلت في وصايا رسولها الكريم في تلك الحجة عندما قال مخاطباً أمة الإسلام إلى يوم القيامة: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا»، «أيها الناس لا ترجعوا من بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض»، «ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، ألا هل بلغت، اللهم فأشهد».

وخلاصة القول إن رحلة الحج هي تلك الخطوات اللجوجة التي يخطوها الإنسان في هروبه إلى الله عزّ وجلّ من ذنوبه تائباً وعلى أخطائه نادماً. هي رحلة الإنسان الذي يستشفع إلى الله قائلاً: “إلى من يذهب العبد؟ إلاَّ إلى مولاه إلى من يلتجئ المخلوق؟ إلا إلى خالقه” هذا هو الحج! انه اغتسال من كل الذنوب والآثام. انه ذوبان في سُلّم التعلق بالله. فمشاهدة ذلك العالم الهائل الزاحف إلى مكة أمُّ القرى، وإلى بيت الله الحرام أقدس بيت وأسمى بقعة خلقها الله.

مشاهدة ذلك كله تبعث في النفس أعظم الأثر في الترغيب والترهيب. فأهازيج التلبية التي تنبعث من حناجر تلك الكتل البشرية، والأرتال السائرة على مهل إلى بيت الله الحرام، ودوي التكبير الذي ينبعث في الكلمات: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. الله أكبر ولا إله إلا الله والحمد الله.. لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» كلمات هي التعبير الواضح عن كل ما يشتمل عليه الحج من مفاهيم الوجدانية لله والخضوع لعبوديته والتوكل عليه، والثقة بنصره لعبادة الصالحين.

ثم إن الحج عهد يقطعه المؤمن لله تعالى في أن يعيد بدء سيره في دورة حياته من النقطة التي بدأ انحرافه فيها عن دين الله ومنهج النبوة، وذلك كما يعيد ترتيب دورانه حول البيت في حالة حصول خلل في دوران طوفه مبتدئاً ذلك من آخر خطوة في طوافة السليم. فالزلل في الدنيا كالزلل الحاصل في عملية الطواف حول البيت لا يصح إلا بإصلاحه من جديد وكما أن للاطلالة على البيت وقع في النفس والقلب، فكذلك مغادرة البيت الحرام عند تمام الحج لا يقوى عليها من آمن وتعلق قلبه بمهبط الوحي إلا وهو سائر بخطاه إلى خالقه، متجهاً بوجهه وفؤاده إلى البيت الحرام، وبكاؤه ودموعه مخلوطة بشقهات وداع من عزّ وداعه وفراقه ممنياً نفسه بمرّةٍ قادمة. وهو في كل لفتة يجدد عهداً في الولاء، ويؤكد وعداً مسبقاً في وحدانية العبودية وخلوص الطاعة، وهكذا نظراته حكاية عن قلوب عاشت سعادة الروح في القرب وها هي تسير نحو مرارة الشوق في البعد.

أسرة الوعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *