العدد 282 - 283 -

العدد 282 – 283 ، السنة الرابعة والعشرون، رجب وشعبان 1431هـ، الموافق تموز وآب 2010م

حزب التحرير حزب عالمي يسعى لتجديد الدين بإقامة الخلافة الراشدة الثانية

حزب التحرير حزب عالمي يسعى لتجديد الدين بإقامة الخلافة الراشدة الثانية

 

بقلم أحمد المحمود

منذ أن أقام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة مرت على الأمة الإسلامية كثير من فترات الصعود والهبوط حتى انتهت بأدهى خطب وهو هدم الخلافة الإسلامية زمن العثمانيين في 28 رجب 1342هـ الموافق 3/3/1924م على يدي الغرب الكافر الأثيمتين، وذلك بعد الحرب العالمية الأولى التي أعلن الجنرال اللنبي أنها كانت خاتمة الحروب الصليبية، وأنها انتهت بانتصارهم فيها، وكان من آثارها تكريس هذا الانتصار بهدم الخلافة الإسلامية وتمزيق الأمة الإسلامية…

ولما كان الغرب الكافر قد خبر قوة الإسلام وخطره، فإنه قد عرف كيف يكيد له ويسقطه، ومن ثم راح يعمل على عدم قيامته وعودته؛ من أجل ذلك احتلّ بلاد المسلمين وقسمها، وأقصى الإسلام عن الحكم وفرض عليهم أنظمة حياة وضعية هجينة بعيدة كل البعد عن أنظمة الإسلام في الحياة وطريقته في الحكم، ونصّب عليهم حكاماً نواطير وجعل لهم أعواناً من قيادات عسكرية وزعامات فكرية وسياسية وحزبية وإعلامية وتعليمية… شكل منهم الوسط السياسي والفكري والاجتماعي الذي تدور عليه قيادة هذا الوضع الجديد لمصلحته، وأسس لمنهج تعليم يضلُّ به المعلمين والمتعلمين والناس أجمعين ويسمّم أفكارهم، ويركز عبره أفكاره ومفاهيمه ومقاييسه عن الحياة، ويمحو به كل أثر لإسلام الحكم في النفوس، ولم يُبقِ إلا بعض الأحكام الفردية من صلاة وصيام وأحكام زواج وطلاق وميراث وما يتفرع عنها، وحصر الإسلام في مثل هذه الشعائر، وخرّج لها علماء لا يخرجون عن هذا الإطار الذي وضعه لهم؛ فصار المسلم التقي هو من يلتزم بها، والعالم الفذ هو من يرشده إليها بأدلتها وذكر أسانيدها… أما الحياة فقد ترك للغربي وحده أن يقود فيها المسلمين بأحكامه وأفكاره ووجهة نظره، فتشكل عبر هذا التقسيم الجديد إسلام جديد، فصلت فيه أحكام الإسلام عن الحياة وعن الدولة كلياً، وصار الدين الإسلامي يعامله أهله وعلماؤه كالدين النصراني، هذا ما أراده الغرب الكافر وكان له ما أراد، بل نجح فيه نجاحاً منقطع النظير.

لقد كان من المفروض في واقع كهذا أن تلتفت الأنظار إلى العلماء، إلى ورثة الأنبياء؛ ليظهر الحق على ألسنتهم، ويقوّم الاعوجاج بأفهامهم، وتسدّ الثغرات من قبلهم، ويقيلوا عثرة المسلمين… ولكن للأسف، فقد أصابهم ما أصاب الأمة، بل يمكن القول إن ما أصاب الدولة الإسلامية، في أواخر أيامها، من ضعف ومن سوء في التطبيق، وما أصاب المسلمين من قصور في فهم الدين؛ إنما كان بسبب أن علماء المسلمين في أواخر أيام الدولة الإسلامية لم تعد تشغلهم اهتمامات الإسلام الكبرى، ولا تحقيق أهدافه العليا، فلم يعودوا يواكبون أعمال الدولة الإسلامية في الحكم والجهاد ونشر الدعوة في البلاد المفتوحة على الوجه المطلوب. ولم يعودوا كما كانوا في السابق على تماس مع مشاكل الشعوب التي فتحت بلادهم حديثاً، ولا مع مسائلهم المشكلة ليحلوها على أساس أفكار وأحكام الإسلام، والذي ساعد على استشراء هذه الحالة أنه كان يتسلم أمر المسلمين (من المماليك إلى العثمانيين) من لم يكن يعرف للغة العربية أهميتها في فهم الدين وأثرها في قوة الدولة، ولا للعلماء من دور مهم في النصيحة وإبداء الرأي والمشورة والمحاسبة واستنباط الأحكام الشرعية المتعلقة بعمل الحكام… فأسفر هذا البعد بين الحاكم والعالم على هذا الشكل إلى إهمال النواحي الفكرية والتشريعية لدى هؤلاء الحكام، ولم يتداركه العلماء، وأدى إلى أن تكون الدولة الإسلامية قوية من الناحيةالمادية تحـمل الدعوة بحـماسة الإســلام في النفوس من غير أن يواكـــبها قدرة فكــرية في الدعوة وتشريعية في التطبيق، وهما أمران لازمان لها لتبقى دولة إسلامية رائدة تقود العالم قيادة فكرية وتكون القوة عندها لخدمة نشر دينها.

بيد أن الذي ساعد على وصول حال العلماء إلى هذا المآل، هو أنه كانت من قبل قد عمت فكرة «إغلاق باب الاجتهاد» لديهم، وأوجبوا على أنفسهم التقليد، فعطلوا بذلك عقولهم بأيديهم، ووجهوا ضربة قاصمة للحركة الفكرية لدى جماعة المسلمين، وجعلوا من ذلك الإغلاق سداً منيعاً يقف في وجه نشر الدين الإسلامي على الوجه الصحيح، ومسايرة الزمن باستنباط الأحكام الشرعية للمسائل المستجدة، ومعلوم أن إغلاق باب الاجتهاد مناقض كلياً لفكرة خاتمية الرسالة الإسلامية وكمال الشريعة، وفيه تخاذل عن حمل أمانة دعوة الإسلام إلى العالم حتى قيام الساعة. ويذكر أنه عندما أغلق باب الاجتهاد وحل محله وجوب التقليد بدأ الجمود الفكري يسيطر على المسلمين شيئاً فشيئاً حتى أسفر عن تأخر الأمة الإسلامية والدولة الإسلامية، صحيح أنها بقيت في مقدمة الدول الأخرى، وعندما تقيس نفسها عليها كانت ترى أنها أحسن حالاً، ولكنها كانت تسير نحو الانحدار… ويذكر كذلك أن العالم الغربي الذي كان يحاول أن ينافس الدولة الإسلامية بوصفها الدولة الأولى في العالم ولم يفلح، كانت له محاولاته العديدة للنهضة، وكانت محاولات متعثرة، ولكنه استطاع في النهاية أن تتفق دوله على فكر مبدئي لتنهض على أساسه، واستطاع أن يوجد له كيانات متماسكة قائمة على هذا الفكر. وهذا الفكر هو (فصل الدين عن الحياة) وبغض النظر عن صحة هذا الفكر أو خطئه استطاع العالم الغربي أن يتقدم به على مسرح السياسة الدولية… وتتحول منافسته للدولة الإسلامية إلى منافسة جدية كأن لها أثرها المأساوي على المسلمين وعلى الدولة الإسلامية فيما بعد.

لقد استفاد الغرب الكافر الذي كان على عداء شديد مع دولة الإسلام من  هذا الضعف الفكري لدى الدولة الإسلامية وعلماء المسلمين، واستغله ليحقق فيهم ما حققه على أرضه من حصر الدين ضمن جدران أماكن العبادة، وجعله من علاقات الأفراد فحسب، ومنعه من أن يتدخل في العلاقات العامة وتنظيم الحياة، وذلك عن طريق اعتماد نفس قاعدته الفكرية القائمة على (فصل الدين عن الحياة)… ولما كان علماء المسلمين يجملتهم قد ابتعدوا، من قبل أن يحتل الغرب الكافر بلاد المسلمين ويسقط الدولة الإسلامية، عن السياسة ومواكبة حركة الحياة وتتبع ما يستجد فيها من أمور الجماعة والدولة؛ فقد كان طبيعياً أن ينهزموا أمامه، خاصة وأن الغرب بات يعلم أن النصر في أرض الفكر أهم من النصر في أرض المعركة ويسبقه؛ لذلك قام بالغزو الفكري للمسلمين من قبل ليوهن الداخل ثم يقضي عليه من الخارج.

بيد أن علماء المسلمين الذين قصروا في إرث النبوة على الشكل الذي ذكرناه لم يستسلموا للجهوم الفكري الغربي، بل وقفوا في وجهه ليصدوه يدفعهم إلى ذلك حماسهم وليس وعيهم، إلا أن ذلك لم يفلح، إذ وقفوا أمام هجومه وتقدمه موقف الحائر المضطرب وكانوا في ذلك فئتين:

– فئة جامدة بحق، وقفت عند ظاهر النصوص، ولم تفرق ما بين الثقافة والعلم، الحضارة والمدنية، لتعلم ما يجوز أخذه من الغرب وما لا يجوز، إذ كانوا يرونهما شيئاً واحداً، ويعطونهما حكماً واحداً، وهؤلاء وقفوا موقف الرفض الكلي لما عند الغرب، وحرموا أخذ جميع ما عنده، فحرموا المطابع، ووقفوا موقفاً سلبياً من العلوم الطبيعية، واتهموا كل مفكر بالزندقة، وهاجموا من يريد أن يفتح باب الاجتهاد، وكانوا في موقفهم هذا شبيهين إلى حد ما برجال الدين النصراني في صراعهم مع الفلاسفة الغربيين، مع أن الإسلام مخالف في نظرته لهذا الموقف… فلم يستطع هؤلاء بفهمهم القاصر أن يوقفوا الهجوم، بل يمكن أن يقال إنهم ساعدوا الغرب بطريقتهم الفشلى في كسبه المعركة ضد المسلمين من حيث لا يشعرون…

– وفئة كانت تحمل فكرة التوفيق بين الإسلام وما عند الغرب، وسادت مع هؤلاء فكرة أن الغرب أخذ حضارته من الإسلام، وأن الإسلام لا يمنع أخذ ما يوافقه من غيره، ولا العمل بما لا يخالفه، وانتشرت مع هؤلاء فكرة أن الإسلام جاء لمصلحة المسلمين والبشرية جمعاء، وكل ما يؤدي إلى مصلحة المسلمين يطلب منا الإسلام أن نأخذه، وما يؤدي إلى ضررهم أن نتركه، وصارت المصلحة المادية عند هؤلاء علة باعثة على التشريع، وصار ما تؤدي إليه حكمه ثابت ويؤول كل ما يتعارض معه ولو كان نصاً قطعياً من كتاب أو سنة، ووضعوا لأنفسهم قواعد وشعارات وعناوين كاذبة أو خاطئة أو محوّرة، ووصفوها بأنها شرعية  يقاس عليها وهي ليست من الشرع في شيء، وبناء عليها نحّوا أفكار الإسلام وأحكامه المتعلقة بالحياة جانباً وأحلوا محلها أحكام الغرب الكافرة، وهذه القواعد والشعارات والعناوين هي من مثل: «حيثما تكون المصلحة فثمَّ شرع الله» و«لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان» و«العادة محكمة» و«العرف محكم» و«الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق الناس بها» و«ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن»… وبمثل هذه الشعارات والعناوين التي سميت قواعد شرعية بُدِّل الدين ونسخ، ولم يعد ذلك الدين الذي نزل على سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) تماماً على الذي أنزل عليه. والجدير بالذكر أن هذه الفئة لم تفرق كالفئة الأولى بين ما هو من الثقافة وما هو بين العلم، بين ما هو من الحضارة وما هو من المدنية، ولكنها كانت على عكسها في التعامل مع عدم التفريق هذا، إذ دعت إلى أخذ كل شيء من الغرب الذي فتح لها إعلامه، وبوأها مناصب الإفتاء ولقب شيخ الإسلام وأضفى عليها صفات الإصلاح والنهضة… لأنها بنجاحها في نشر فهمها نجاح له، وهذا ما صرح به المندوب السامي البريطاني في مصر (بلنت) الذي قال إن تقبل المسلمين لفكر محمد عبده هو تقبل للفكر الغربي.

وهكذا ضاع فهم الدين عند العلماء، عند من يفترض بهم أن يهدوا الناس، وصارت نصوص الإسلام المتعلقة بأنظمة الحياة تفهم على ضوء فهم الغرب للنصوص، وصارت مشاكل المسلمين تحلّ بحسب نظرة الغرب لحل مشاكله، نعم، ضاع الدين عند هؤلاء وتحولت الثقافة الإسلامية من أصول فقه وفقه إلى مقررات دراسية نظرية فقط، وتراثاً يتعامل معه المسلمون كتعاملهم مع العملة النادرة للعرض لا للتداول، وشيئاً فشيئاً استبعدت هذه الثقافة عن الواقع حتى أصبحت أثراً بعد عين.

وبذلك تعرض الإسلام، الدين الحق، لنكسة لم يتعرض لها من قبل، وأصبح معرضاً لخطر الاندثار وللطي كطي السجل للكتب ووضعها على رفوف الإهمال، وسط سيطرة وإرادة غربية كافرة تعي ما تفعل. وباختصار لقد قبض الغرب على زمام فهم المسلمين لدينهم بشكل كامل، وصارت طبقة العلماء، الذين وطأ لهم الغرب الطريق لنشر فهمه للدين على طريقة فصل الدين عن الحياة، حجر عثرة في طريق نهوض المسلمين بدل أن يكونوا أئمة هدى يقيلون العثرة ويهدون السبيل. وبفضل هؤلاء، وقيامهم بالدعوة على طريقة الغرب، صار المسلمون يحيون الإسلام بحسب هذا الفهم الجديد؛ لأن الناس إذا كانوا على دين ملوكهم بالقوة والقهر كما يقال، فهم على دين علمائهم (مذهبهم في الفهم) بالقلب والعقل… وبفضل هؤلاء غدا الفهم الصحيح للدين مستبعداً، مستغرباً، محارباً، وهكذا صار فهم الإسلام الحقيقي ضائعاً حتى بين أهله، وأخطرُ وضعٍ وضع هؤلاء العلماء أنفسهم فيه هو أنهم رضوا بتقسيم الغرب للإسلام بفصله عن الحياة. وليس هذا فحسب بل وضع بعض العلماء فتاواهم بإمرة الحكام عندما ربطوا أنفسهم بمقام الإفتاء التابع للدولة، وراح هؤلاء ينظمون نشاطات ودروس العلماء الآخرين عبر دوائر الأوقاف وربطوهم بهم بواسطة رواتب ليعيشوا منها، فأصبح العالم موظفاً تابعاً، ومؤخراً سمح لمن يطمأن إلى فكره وعلمه منهم لأن يكون نجماً من نجوم الفضائيات، وهكذا رسمت الخطة لتستقر الأمور للغرب ولتستمر على هذا المنوال.

ثم إن هذا الوضع السيئ من كل نواحيه السياسية والفكرية والاجتماعية، والعلمية، والتي لا تعجب مسلماً، دفع بعض العلماء الناشطين لإنشاء حركات وجماعات وأحزاب إسلامية لتغيير الواقع، ولكن مسؤوليها وعلماءها أصيبوا بنفس العدوى، فلم يكونوا مدركين للواقع على حقيقته ولا للشرع وشموليته؛ لذلك تبلبلت نظرتهم وعمي عليهم تحديد الغاية الشرعية التي يجب أن يسعوا لتحقيقها، وبالتالي لم يستطيعوا أن يحددوا الأعمال الشرعية التي تحققها، وعليه سارت بطريقة مرتجلة وملتوية متأثرة بالواقع؛ لذلك جاءت تخبط خبط عشواء وتسير من غير اهتداء، فمن جماعة ترى أن مشكلة الأمة ماثلة في قلة العلم فدعت إليه فقط، إلى جماعة تراها في قلة الأخلاق، إلى جماعة تراها في قلة المال، إلى جماعة تراها في قلة العبادات… وهكذا.

ثم إن هذه الجماعات ظهر عليها بشكل واضح التأثر بطريقة الغرب في فهم الإسلام؛ لذلك لم يستطيعوا أن ينهضوا بهذا الحمل الثقيل بالرغم من كل الجهود والتضحيات التي بذلوها، وكانت كل واحدة منهم كالشعلة تضيء جانباً ثم لا تلبث أن تخبو، ولم يكن فيها شعلة تضيء كل الجنبات وتستمر؛ ذلك أن التأثر بالثقافة الغربية كان أكبر منهم، وعدوهم الذي يكيد لهم أوعى منهم؛ ولذلك سجلت كل من هذه الحركات اسمها في سجل التاريخ ثم مضت من غير أن تنهي المأساة. وهكذا ظهرت دعوات كثيرة طابعها العام الإخلاص وخدمة هذا الدين ولكن من غير وعي على الدين وفهمه بشكل صحيح، فتحولت هذه الحركات إلى عقبة في طريقة التغيير وكان فيها الضرر الخفي، وزادت الطين بلة، إذ أصبحت مع الوقت جزءاً من هذا الواقع الذي يجب تغييره، وذلك عندما راحت تعمل من خلال الأنظمة العميلة، أو تقبل مساعدتها، أو ترفض التعرض لها، وفوق كل هذا تدعي أنها تمثل الفهم الصحيح وتمنعه عن غيرها. واللافت أنه بالرغم من فشل الحركات، والإسلامية منها خاصة، الواحدة تلو الأخرى، فقد بقيت الأمة حية، وبقيت تنجب مثل هذه الحركات من غير أن تيأس، إلا أنه لم يحدث تقدم يذكر على صعيد الوعي لديها.

نعم، لقد وصلت حال المسلمين إلى درجة غير مسبوقة في التاريخ، وأخطر ما في هذه الحال هو عدم وجود علماء استطاعوا فهم الواقع على حقيقته، وفهم الشرع بعيداً عن التأثر بالفكر الغربي، وبالتالي استطاعوا أن يقدموا مشروع عمل فيه خلاص هذه الأمة، إذ راح الجميع، بتأثير من الغرب القابض على زمام الأمور يتصورون الحلول بمعزل عن وجود الدولة الإسلامية، لقد ذهب الحكم بالإسلام عند هؤلاء مع الريح، وذهب معه الجزء الأكبر من أحكام الإسلام، وذهب معه الحكم بما أنزل الله في كل أمور الحياة، ومع هذا لم يتفطن هؤلاء إلى ما يعنيه وجود الدولة الإسلامية في الإسلام، ولا المساحة الواسعة التي تغطيها فيه، وهذا يعطي صورة عن مدى تدني الفهم للإسلام عند العلماء والحركات الإسلامية. نعم، لم يتفطن هؤلاء إلى أن قسماً كبيراً جداً من الأحكام الشرعية منوط تطبيقه بالدولة الإسلامية، بل العمل لإيجادها ووجودها هما حكمان شرعيان بحد ذاتهما ومن أهم الأحكام الشرعية.

فالدولة الإسلامية، والخليفة هو رأسها، ويمكن أن يقال إنه هو الدولة الإسلامية لكثرة الصلاحيات المنوطة به ولتركزها فيه، تقوم بتطبيق الإسلام في الداخل وحمله ونشره في الخارج.

فمن حيث الداخل:

في نظام الحكم: أمر الإسلام المسلمين أن يقيموا نظام الحكم الإسلامي الذي يقوم على قواعد لا يكون الحكم إسلامياً إلا بها، وهي وجوب أن تكون السيادة فيها للشرع والسلطان للأمة، ووجوب أن يكون للمسلمين جميعهم خليفة واحد وعلى المسلمين واجب طاعته فيما يتبناه لهم من أمور حياتهم العامة على أساس الإسلام… وحدد الإسلام أن على المسلمين أن يقيموا أجهزة الدولة الإسلامية لتقوم بكل شؤون الحكم ومتعلقاته من خليفة ومعاونيه وأمير جهاد وولاة وقضاة ومجلس أمة وجهاز إداري… بحيث يقوم كل منها على الوجه الشرعي ويقوم بالأعمال المنوطة به شرعاً، وجعل كل ذلك متركزاً بيد الخليفة، وبحيث يكون نظام الحكم نظام وحدة يجمع المسلمين كلهم وبلادهم كلها تحت حكم الخليفة الواحد. وهنا لابد من وقفة قصيرة تبين أن الشرع طلب من المسلمين بمجموعهم أن يحكموا بالإسلام وأن يتحاكموا إليه، وأمرهم أن يختاروا خليفة لينوب عنهم في تنفيذ الحكم، فوجود الخليفة وتطبيقه للإسلام يكون نيابة عن الأمة وهو الذي يعبر عنه بأن السلطان للأمة، فإذا وجد الخليفة وحكم بالإسلام فمعناه أن الأمة تطبق الإسلام ولها أجر تطبيقه ويسقط عنها إثم عدم تطبيقه. وإن قصر الخليفة فعليها واجب محاسبته ولها أجر محاسبته ويسقط عنها إثم عدم محاسبته. وإن خلا منصب الخلافة من خليفة أمهلها الله سبحانه فقط ثلاثة أيام لتقيم الخليفة وإلا أثمت لعدم إقامته، وأثمت بعدها لكل حكم يجب أن يحكم به عن طريق الخليفة ومن ثم تعطل بسبب غيابه. وعليه تصبح الأمة بمجموعها آثمة لعدم إقامة الحكم بما أنزل الله في كل أمور الحياة، فالأمة هي المسؤولة عن إقامة الخليفة وهي المسؤولة عن غيابه. ومن الأحكام المتعلقة بالخليفة.

في النظام الاقتصادي: أمر الله الدولة الإسلامية برعاية الأحكام الشرعية المتعلقة بجمع الأموال ومن ثم صرفها على وجوهها، ومنع ما يخالفها بالعقوبة. فهي ترعى تمكين أفراد الرعية من حيازة ما يتعلق بالملكية الفردية بالطرق الشرعية وتمنع التعدي عليها أو مخالفتها عن طريق إيقاع العقوبات الشرعية المناسبة، وتقوم بتأمين موارد ملكية الدولة من جزية وخراج وفيء لتصرفها على ما يتعلق بها من أعمال رعاية الشؤون الموكولة إليها كرواتب الموظفين وشق الطرقات وبناء المستشفيات، وتقوم بالإشراف على الملكية العامة من نفط ومعادن مستخرجة من المناجم وتأمين وارداتها ومن ثم توزيعها على أفراد الرعية بالسواء، وتمنع التعدي عليها بالعقوبات… وكذلك ترعى الدولة الإسلامية قيام عملتها على أساس الذهب والفضة، وترعى عملية الصرف بين عملتها والعملات الأخرى بحسب أحكام الشرع ومنع ربا التفاضل والنسيئة فيهما، ومنع إنشاء المؤسسات الربوية وإيقاع العقوبات على مخالفتها… وترعى أحكام الشركات وإنشاءها على وجهها الشرعي ومنع تصرفها بخلاف الشرع وإيقاع العقوبات على المخالفة… وترعى أحكام الشرع المتعلقة بتحريم كنز المال بإيقاع العقوبات على الكانز… وترعى إجراء أحكام البيوع والإيجارات والحوالات والضمان من قبل الأفراد على الوجه الشرعي وإيقاع العقوبات على المخالفة… وترعى أحكام الأراضي العشرية والخراجية والأراضي الموات بإقطاعها لمن يحييها… وتقوم الدولة بالإشراف على أحكام الزكاة لجهة جمعها وصرفها على وجوهها الثمانية بحسب رأي الخليفة واجتهاده… وتقوم الدولة وجوباً بتمكين الأفراد من حيازة أفراد الرعية ما يتعلق بحاجاتهم الأساسية من مأكل وملبس ومسكن، وتكفل رعاية من لا مال عنده إذا خلا ممن تجب عليه نفقته..

هذه الأحكام وأمثالها الكثير الكثير، عطلها الغرب، وأحل محلها قوانينه الوضعية وتعامل معها العلماء وكأنها ليست موجودة، فوقعوا وأوقعوا الأمة معهم في إثم عدم تطبيقها، وفي إثم قبول تطبيق غيرها عليها مما يعتبره الشرع طاغوتاً أمر بالكفر به واجتنابه. ويذكر أنه بقي للأفراد كأفراد أن يقوموا بتطبيق بعضها كالزكاة وأحكام الصرف والبيوع وذلك بحسب التزامهم كأفراد بالإسلام، ولكن من غير رعاية لها من الدولة التي هي الأصل في قيامها على وجهها الشرعي على كل المسلمين وإيقاع العقوبات على مخالفتها…

وفي النظام الاجتماعي: صحيح أن المسلمين يقومون كأفراد بأحكام الزواج والطلاق وما ينشأ عنهما من أحكام المهر والنفقة والكفالة والنسب والرضاع، وكذلك يمتنعون كأفراد عن الاختلاط إلا لسبب يبيحه الشرع، وعن الخلوة، وعن القيام بأي عمل فيه خطر على الأخلاق… ولكن الدولة هي التي ترعى ذلك كله بتأمين القضاء الذي يحكم في كل المشاكل المتعلقة بهذا الجانب وتمكن من جعل أحكامه نافذة، وتجري العقوبات على أي مخالفة للأحكام الشرعية المتعلقة بها.

هذه الأحكام وإن أبقى الغرب بعضها، وسمح بإجراء أحكام القضاء الشرعي عليها والعقوبات الشرعية عليها، ولكن هناك أحكاماً عطلت العقوبات الشرعية عليها، فأين حكم القضاء الذي سموه شرعياً، والمحمي من الدول ذات الأنظمة الوضعية التي فرضها الغرب على بلاد المسلمين، على عدم لباس المرأة للحجاب، أو على وقوع الخلوة أو الاختلاط أو القيام بأعمال فيها خطر على الأخلاق، أو التبرج… لقد صارت مثل هذه الأحكام من غير رعاية لها من هذه الدول، وقام العلماء بتذكير المسلمين والمسلمات بها من غير الانتباه إلى أن طريقة إقامتها عملياً هي الدولة الإسلامية والقضاء الإسلامي وليس الاقتصار على الدعوة لها أو التحذير من مخالفتها. فقام العلماء بواجب الدعوة لها ولكنهم نسوا الدعوة إلى إقامة الدولة الإسلامية التي ترعى وجود النظام الاجتماعي كله في حياة الرعية في الدولة.

كذلك هناك جانب مهم تقوم الدولة الإسلامية برعايته من هذا الجانب الاجتماعي، وهي أنها ترعى أفراد الرعية من غير المسلمين من حيث مطعوماتهم وملبوساتهم وزواجهم وطلاقهم بتمكينهم من القيام بها بحسب أديانهم ضمن النظام العام. كذلك فإن هذا الجانب قد أهمله العلماء بالكلية وأصبح نسياً منسياً عندهم لا يذكر وكأنه غير موجود بالأصل…

وفي نظام العقوبات: أمر الشرع بإقامة الحدود الشرعية على مستحقيها، وأناط تنفيذها بالحاكم المسلم بحيث توجد بوجوده وتتعطل بغيابه، وكذلك إقامة أحكام الجنايات وما يتعلق بها من أحكام الديات، وكذلك أناطها بالحاكم المسلم، وكذلك إقامة العقوبات على تارك الصلاة والصوم والزكاة… وأناط ذلك بالحاكم المسلم… فهذه كلها وأمثالها تعطلت وتعطل معها عند العلماء حتى الدعوة لها وكأنها لم تكن يوماً من الإسلام، فأصبح العالم يدعو تارك الصلاة مثلاً إلى الصلاة ترغيباً بالجنة وترهيباً بالنار من غير أن يلتفت إلى أن الشرع جعل لترك الصلاة والزكاة والصوم… عقوبات، وإجراء هذه العقوبة هو الذي يجعلها منفذة في الحياة، وأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن…

وفي سيا سة التعليم: أمر الإسلام الدولة الإسلامية برعاية سياسة تعليم تحفظ الأمة في دينها، وتؤمن للدولة قوتها، فتقوم الدولة بناء على ذلك بإنشاء جهاز يشرف على سياسة التعليم هذه، وتؤمن المدارس والكادر التعليمي اللازم، وتنشئ المختبرات للأبحاث العلمية والمكتبات الضخمة، وتشجع وجود مراكز الأبحاث، وتفتح الباب أمام المتفوقين وتؤمن العلوم الطبيعية والرياضية على اختلافها… وتسعى من وراء كل ذلك إلى إيجاد العقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية لدى أفراد الأمة، وامتلاك أسباب القوة لتسخيرها في الجهاد، ومن أجل الوصول إلى مخترعات تسهل حياة المسلمين.

وهذا للأسف ضرب العلماء عنه صفحاً كلياً، والسبب في ذلك كله هو غياب الدولة الإسلامية عن أذهانهم، فكيف يتنبه هؤلاء العلماء إلى مثل هذه الأحكام؟ وكيف يربطونها بشيء غير موجود في أذهانهم؟…

أما في الخارج:

فإن الشرع قد أمر الدولة الإسلامية برعاية علاقة هذه الدولة بغيرها من الدول، وجعل أساس هذه العلاقة قائماً على الجهاد، ونشر الإسلام؛ لذلك تعلق بهذا الجانب كثير من الأحكام الشرعية التي ترعاها الدولة الإسلامية وتقوم بها، وهو الجانب الذي يجعل الدولة معروفة بين الدول أنها دولة إسلامية مبدئية تعيش بالمبدأ وتعيش له. وهو الجانب الذي تبنى علاقات الدولة الإسلامية بغيرها على أساسه، كأحكام الهدن والصلح والمعاهدات على أنواعها، وأحكام أهل الذمة والمستأمنين والمعاهدين، وتقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب، والدول إلى دول محاربة فعلاً ودول محاربة حكماً، وأحكام السفراء والرسل… هذه الأحكام وغيرها مما هو تابع لها من أحكام السياسة الخارجية تنوسيت وسلمت إلى الدول الحالية لتحكم بغير ما أنزل الله فيها، وفي هذا الجانب تظهر أهمية ما ترعى الدولة الإسلامية وجوده من جيش إسلامي مجهز ومدرب كجيش لدولة كبرى، بل للدولة الأولى في العالم، وتظهر أهمية ما ترعى الدولة الإسلامية وجوده من امتلاك هذا الجيش لأقوى الإمكانات في التسلح، وأفضل القدرات في تطوير برامج التسلح، وامتلاك التكنولوجيا والمصانع الثقيلة… ما يجعل الجيش الإسلامي في الدولة الإسلامية هو الجيش الأول في العالم من حيث عقيدته القتالية وقدراته العسكرية….

كل هذه الأحكام التي ذكرناها بالإجمال من غير استقصاء لها، ومن غير التطرق لتفصيلات مسائلها لأن البحث هنا لا يحتمل ذلك… كل هذ الأحكام تعطلت بسبب غياب الدولة الإسلامية، وتعطيلها فيه إثم كبير، وهو بمقدار ما تعطل منها، ويوقع الأمة جميعها بالإثم إلا من اشتغل جاداً منهم لإقامتها، وذلك حتى تقام… وكل هذه الأحكام الواجب إيجادها وتنفيذها توجد بالعمل لإقامة حكم الله في الأرض أي الدولة الإسلامية أي الخلافة الإسلامية… وكل هذه الأحكام أحل الكافر أحكامه محلها، وفرضها وعاقب من خالفها، وأطاعه المسلمون في ذلك كالنعاج، ولم يحرك العلماء والحركات الإسلامية والمسلمون بالتبع ساكناً في ذلك، ولم يأتوا على ذكر وجوب إقامة الدولة الإسلامية لحل هذه الأوضاع الشاذة المفروضة على المسلمين… بل ساروا على طريقة الغرب في فهمها، وأقنعوا الناس بطاعتها لأن عدم طاعتها فيه فتنة وفوضى للمسلمين، وأصبح عند بعضهم كل حاكم مهما كان هو ولي أمر للمسلمين… ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. نعم هذه الطائفة الكبيرة والكبيرة جداً من الأحكام، والتي ملأت أدلتها الكتاب والسنة، أهيل عليها تراب الجهل بها والإهمال والنسيان، وتخلى عنها العلماء فوقعوا في الإثم الكبير وأوقعوا الأمة معهم فيما وقعوا به (ضلوا وأضلوا وأفتوا الناس بغير علم).

إن الدولة الإسلامية هي حكم شرعي معلوم من الدين بالضرورة، ولا يعذر عالم بجهله بها، وجهل العلماء بها يدل على مدى تدني مستوى علمهم والتزامهم. وهذا الوضع الشاذ لم تمر الأمة الإسلامية به من قبل حتى في أشد عصور الضعف والهبوط الفكري، فمع غزو الصليبيين والتتار لبلاد المسلمين… كان هناك دولة إسلامية وولايات إسلامية وقضاء إسلامي وعلماء مسلمين وجيوش إسلامية، وفيها الحكم بالإسلام من قبل الحكام والقضاة، وفيها التحاكم إليه في شؤون الحياة، ولكن الفهم والتطبيق كانا ضعيفين فكان هذا الحصاد المر، أما اليوم فإنه لا دولة إسلامية بل دول يحكم كلاًّ منها عميل خائن للأمة بغير ما أنزل الله، ويسخر كل القوى الفكرية والمادية في دولته للحفاظ على كرسيه ومصالح الدول الغربية الكافرة التي جاءت به، ولمحاربة كل عمل مخلص يريد تقويم الأمور على ما يرضي الله، والعلماء الرسميون تابعون له في كل ذلك يقولون ما يقول لهم الحاكم كما تقول الببغاء، أما سائر العلماء فإنهم يسيرون على ما رسم لهم…

هذا ما جعلنا نقول: إن الأمة قد وصلت إلى وضع لم تمر به من قبل. فمنذ أن أقام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الدولة الإسلامية لم يعش المسلمون خارجها إلا في هذه الفترة. ولم يقتصر الأمر على ذلك بل تم إقصاء الدولة الإسلامية وكل ما يتعلق بها عن الواقع، وعن أفهام العلماء وعن أذهانهم بحيث لم تعد متصورة… لقد نشأ من كل ذلك أن أصبح فهم الإسلام الصحيح غريباً بين أهله، لا يعلم الحق فيه كاملاً، ولا يقام به كمشروع حضاري ولا يقال به. فقد عمي على الجميع.

ولكن بالرغم من كل هذا، بقي لدى جميع علماء المسلمين، ولدى المسلمين بالتبع، لازمة يرددونها عن قناعة وثقة بها، وهي قناعة وثقة إجمالية، غير مبلورة، أن دين الله هو الدين الحق، وأن لا حل للمسلمين من هذه الأوضاع الشاذة إلا بالإسلام، ولكن من غير فهم شرعي صحيح له ولا لكيفية تطبيقه؛ لذلك نشأ لدى علماء المسلمين خاصة، ولدى الأمة عامة توجه نحو الإسلام للخلاص… ولكن هذا التوجه يحتاج إلى أهل إيمان عميق مستنير، وعلم شرعي منضبط، وفهم للواقع دقيق، وقدرة على إبعاد التأثر عنهم من كل ما ليس من الإسلام… يحتاج إلى علماء يستطيعون أن يترجموا بأمانة كمال الدين وتمام الشريعة، يستطيعون أن ينقلوا الأمة إلى الواقع الشرعي المرجو، والمتمثل بتطبيق الإسلام كله، وبظهوره على الدين كله… بل هو يحتاج إلى أكثر من علماء، يحتاج إلى جماعة، وتحديداً إلى حزب يقوده علماء ربانيون، يقولون بالعلم الشرعي على وجهه الصحيح ويقومون به، ويكونون في مقدمة صفوف العمل، ويقودونه إلى تغيير الأوضاع بما يرضي الله سبحانه، ويحتاج إلى أن يكون مع هؤلاء أفراد يقوم هؤلاء العلماء على تنشئتهم النشأة الصحيحة على أفكار الإسلام الصحيحة المتعلقة بالتغيير… يحتاج إلى حزب يجمع المسلمين معه على أفكاره وغايته، ويتلمس طريق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطوات التغيير. نعم، إن الأمة الإسلامية الآن في وضع هي في أمس الحاجة فيه إلى تجديد الدين فيها، إنها باختصار تحتاج إلى حزب يقوم بعملية التجديد الشرعية، فمسألة التجديد في هذه الفترة من الزمن أكبر من أن يقوم بها عالم أو بعض العلماء دون وجود عمل يطال الأمة جميعها، بحيث يقوم هذا العمل على علم صحيح، ويقوم به أشخاص يتجسد بهم هذا العلم عملاً مخلصاً… نعم إن واقع المسلمين اليوم يستدعي وجود مثل هذا الحزب الذي سيكون حِمْلُه عظيماً وهمُّه كبيراً وثقل العمل فيه لا يتحمله إلا من كتب الله سبحانه له أن يكون من أهل التجديد… فالقيام بعملية التجديد ليس سهلاً بل دونه الصعوبات والمشقات، إذ كل شيء سيكون بمواجهته: عدو شرس ماكر يتربص به وهو الغرب الرأسمالي الكافر، وحكام مجرمون باعوا دينهم واشتروا به عرشاً خاوياً، وعلماء رسميون تابعون للحكام باعوا دينهم بدنيا الحكام، ومسلمون سيتبعون هؤلاء الحكام بالقهر وهـؤلاء العلماء بالجـهل… ولكن بالرغم من أن عملية التجديد شاقة، فهي لاذّة، إذ فيها صبر الأنبياء واستشهاد سيد الشــهداء، فيها الأجـر الكـبير، فالله ســبحانه إذا كان قد ختم شرف النبوة بسيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد فتحها لنا، رحمةً منه وتفضلاً بالتجديد، وإنها لرتبة دونها الرتب وشرف لا يدانيه شرف.

إن عملية التجديد بالعموم تقوم على تخليص الدين من كل ما علق به مما ليس منه، تقوم على إعادة الدين نقياً صافياً كما كان زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء الراشدين، إعادته تماماً على الذي أنزل، تماماً كما بدأ من غير زيادة ولا نقصان ولا تبديل ولا تحويل فيه، وإعادة نفس المعاني والمضامين فيه ونفس الألفاظ إن أمكن…

إن عملية التجديد تكون بالعلم فقط إذا اقتضى التجديد علماً، وتكون بالعلم والعمل للتغيير إذا اقتضى الواقع ذلك، وتكون إصلاحاً إذا اقتضى الواقع إصلاحاً، وتكون تغييراً إذا اقتضى الواقع تغييراً… واليوم اقتضت عملية التجديد العمل على إيجاد العلم بالإسلام الصحيح بشكل يبعد عن المسلمين أي تأثير للفكر الغربي فيه، وإيجاد حزب يعمل على إقامة الإسلام في الحياة بإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، ويسير لتحقيق ذلك على طريقة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في العمل لإقامة الدولة الإسلامية الأولى في المدينة، إن العمل لإقامة الخلافة الراشدة الثانية التي بشر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بقيامها في آخر الزمان هي أحسن العمل للتجديد. وهي مطلوبة شرعاً كفرض أخرج الترمذي، وقال حديث حسن صحيح، عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) يَوْمًا بَعْدَ صَلاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلالَةٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ». ترى هل كان الأمر من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لمن بعده باتباع سنة الخلفاء الراشدين على سبيل الحكاية أم على سبيل الوجوب؟

إن الله سبحانه اقتضت حكمته أن يكون الدين الإسلامي هو خاتم الرسالات، واقتضت رحمته أن يحفظ نصوص هذا الدين من أن تمتد إليها يد التغيير والتبديل، فالدين محفوظ بنصوصه على مر الزمن حتى قيام الساعة… ولكن فهم الدين والقيام به بقي مجاله مجال الابتلاء من الله سبحانه لهذه الأمة، لعلمائها قبل عامتها، وعليه فإذا حدث من حيث الواقع أن غاب الفهم الصحيح وغاب التطبيق فإن الأصل لا يضيع، وما على الذي يريد إرضاء الله بإعادة الدين إلى مضائه وصفائه ونقائه إلا بالعودة الصحيحة تماماً لما كان عليه الأوائل. وإذا أرادت الأمة، علماؤها وحركاتها والمسلمون جميعاً الخلاص والنهوض والتغيير والتجديد فما عليها إلا أن تسلك مسلك الأوائل نفسه، فإنه لا خلاص لها إلا بما قامت عليه أول أمرها. هذا وقد جاءت الأدلة الشرعية من كتاب وسنة لترشد إلى ذلك. والأمة بانتظار من يقدم لها هذا الحل ويدعوها إليه. والمسألة كلها تقوم على حسن الاتباع والابتعاد كلياً عن الابتداع.

ثم إن هؤلا ءالعلماء الذين كانوا من أسباب ضياع الفهم الصحيح للإسلام، بل من أهم أسبابه، فعليهم أن يكونوا هم أنفسهم من أهم أسباب إعادته على الطريقة الصحيحة التي يرضى عنها ساكن السماء وساكن الأرض…

على مثل هذا الواقع قام حزب التحرير، وهمه أن ينال رضى الله سبحانه وتعالى، وينال شرف القيام بعملية التجديد، التي لا يمكن أن يوفق إليه إلا من رضي الله عنه وسدد كل خطوة من خطواته، قام من منطلق أن هذا الدين هو الدين الخاتم الكامل، وأن شريعته تامة، وأن الحاكم فيه هو الله سبحانه وحده، وأن حكمه لا معقب له، وأن شريعته شريعة حياة لها قوانينها المستنبطة من أدلتها الشرعية وفق طريقة الإسلام الوحيدة في الإسلام التي كان عليها المسلمون منذ حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والتي تستند على النصوص الشرعية فحسب، وتبعد كل تأثير عنها من المصلحة والظروف والعقل، ومناسبة الواقع… قام حزب التحرير يعيد دراسة الشرع من جديد، يعيد دراسة حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويقرأ واقع المسلمين ليأخذ من السيرة ما يغير به هذا الواقع، يقرأ التاريخ الإسلامي ليعلم مواضع الضعف التي مرت على الأمة وأسبابها الواقعية ليتجنب الوقوع فيها، ومواطن القوة فيها وأسبابها الواقعية ليستفيد منها في عمله… درس العقيدة الإسلامية كيف كانت زمن الرعيل الأول، درس ما دخل عليها من عوامل التغشية فيما بعد ليعيدها إلى نقائها وصفائها مبعداً عنها كل غشاوة ألمت بها من غشاوات الفلسفات الأخرى من يونانية وهندية وفارسية وغربية، درس أصول الشريعة وقواعد فهمها معيداً إليها الوضوح مبعداً عنها ما لا يجب أن يكون فيها، درس الواقع وجعله موضع التفكير وتبنى له كل الأحكام الشرعية اللازمة لتغييره بطريقة الاجتهاد المنضبطة… وعمل على تأسيس شبابه على كل ما تبناه بحيث يخرج منهم المجتهد والمفكر والعالم والسياسي…. لقد أرادها الحزب فعلاً حركةً تجديديةً ترضي الله سبحانه وتعالى، وتحقق وعد رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بإقامة الخلافة الإسلامية، وليست أية خلافة بل خلافة راشدة على منهاج النبوة، سائلاً الله السداد والثبات والتوفيق…

على مثل هذا الفهم قام الحزب يدعو، وواجَهَتْهُ كل ما واجه الدعوة الأولى من صد ورد وتكذيب وإشاعة وتغريب وتعذيب وقتل وملاحقة… حتى وجد في سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أكبر مواسٍ له في الصبر والاعتبار.

ثم إنه بفضل الله وحده وتوفيقه بعثت مع الحزب فكرة الخلافة الراشدة عند المسلمين من جديد وبوجوب العمل لها، وبما تبناه أصبح المسلمون يسمعون أنه لا بد لكل عمل من دليل، وأنه لابد من تأسي طريق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في التغيير، وأن العقيدة يجب أن تكون أساس العمل، وأن تكون سياسية تسير أعمال المسلمين في الحياة لا روحية فقط، وبعثت ألفاظ دار الإسلام ودار الكفر، وبعثت فكرة الدولة الإسلامية التي كانت غائبة بل ضائعة، وبعثت معه وجوب قيام المسلمين بالعمل السياسي للتغيير، وافتضح الغرب ومكائده والحكام وعمالتهم للغرب وعداؤهم للإسلام والمسلمين… وبدعوته علت الفكرة الإسلامية على ما عداها من أفكار الوطنية والقومية والطائفية والمذهبية، وصرعت أفكار الشيوعية والرأسمالية، وبوجوده أصبحت الأمة تتوق لقيام عمل تغييري على أساس الإسلام، وتتشوق لمجيء الخليفة الراشدي المخلِّص… نعم بفضل الله وحده أصبح الرأي العام عند المسلمين وجوب قيام دولة الخلافة، وصار أعداد المسلمين من أمثال بوش وبلير وبوتين وساركوزي يحسون بخطر هذه الدعوة ونجاحها، وهم مرتاعون جداً من قرب قيامها. وكل ذلك كان بتوفيق الله وتأييده وتسديد خطاه… وبالرغم من كل عملية الاستضعاف التي مورست عليه، والتعتيم الذي فرض عليه والملاحقة والتعذيب والتشريد والإشاعة والتكذيب، وبالرغم مما استعملوه من علماء وحركات إسلامية لمحاصرته ومحاصرة فكره؛ إلا أن كل ذلك لم يفلح معه بل مضى يشق الطريق وأسوته في ذلك دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وما لاقاه مع صحابته الكرام، وعدته ما حصل للأنبياء والصالحين مما ذكره القرآن الكريم… فكان في كل ذلك والفضل لله وحده مجلياً محلقاً، يزيد مع الشدة مضاءً ومع الصد إصراراً، والمنة والفضل في كل ذلك لله وحده لله وحده.

نعم لقد استطاع الحزب أن يحدد الغاية الشرعية، وأن يحدد كل خطوة من خطوات الطريق بشكل شرعي منضبط حتى يغير الأوضاع إلى ما يحب الله سبحانه وتعالى ويرضاه؛ ولذلك لم يكن عنده هدف ويريد تحقيقه كيفما اتفق، بل أراد أن تكون عملية سوية يقوم بها على طريقة الأنبياء، حتى ينال شرف القيام بعملية التجديد حقيقة لا ادعاء.

نعم، إن الحزب عندما انطلق في عمله انطلق من زاوية أن التجديد مطلوب من المسلمين على سبيل الوجوب، وأن الأمة يجب أن تسعى إليه جميعها، وأنه الاتباع الأحسن الذي تستقيم عليه أمور الدين كله. ونحن كما رأينا مما بسطناه أن الأمة لا يمكن أن يعود لها ماضيها وسيرتها الأولى ما لم تمتلك العلم الصحيح ثم العمل الصحيح بموجب هذا العلم، وأن مشكلة الأمة كبيرة لا تستطيع فئة صغيرة أو مجموعة علماء أن يحلوها بل لابد لها من حزب كبير، يطال عمله كل المسلمين، فالحزب الذي يريد أن يعمل للتغيير ويقوم بعملية التجديد يجب أن يكون طرحه مبدئياً، ومجال عمله عالمياً؛ لذلك سعى الحزب إلى امتلاك هذين الأمرين.

وإنه من باب عرض ما قام عليه الحزب، نذكر باختصار مفيد أن عملية التجديد حتى تتم على وجهها الشرعي الصحيح يتطلب البحث فيها بثلاثة أمور: الواقع ثم العلم الشرعي الذي يعالج هذا الواقع، ثم العمل بمقتضى هذا العلم الشرعي.

أما الواقع، فإن الحزب، وسيراً منه على طريقة الإسلام الثابتة والوحيدة في الاجتهاد، نظر إلى الواقع على أنه موضع التفكير والتغيير، فتعمق في فهمه كما هو، محدداً المشاكل التي يجب معالجتها فيه، مميزاً بين المشاكل الأساسية وظواهرها، فخلص إلى أن المشكلة الأساسية التي أصابت المسلمين هي عدم التحاكم إلى شرع الله عن طريق دولة إسلامية، وهذا هو الذي أدى فيما أدى إلى تعطيل الكثرة الكاثرة من أحكام الشرع، وأن المسلمين مقسمون في دول، يعيشون أدنى حياة يتحكم بهم الكفار الغربيون أسوأ التحكم. وهذا التمييز بين ما هو مشاكل أساسية ومشاكل فرعية ناتجة عنها رأى أن مشكلة الأمة الأساسية ليست تعليمية ولا أخلاقية ولا اقتصادية… فكلها آثار ونتائج لعدم الحاكمية لله، وهذه الآثار تتم معالجتها من خلال إقامة الخلافة الإسلامية. وهذا تماماً ما فعله الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في مكة حيث ركز على إيجاد عقيدة سياسية لدى المؤمنين معه جعلتهم يربطون أنفسهم بخالقهم ربط الإيمان بالله الخالق المعبود المدبر، ويعمل وإياهم على إقامة المجتمع الإسلامي في المدينة. وقد قام بأعمال مقصودة لذلك، بل كانت أعماله كلها تسير بهذا الاتجاه وتصب في هذا المصب. وكذلك فإن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرغم من فشو المنكرات والعلاقات الظالمة في المجتمع، ووجود الأصنام التي كانت تلف الكعبة لفاً، فإنه تعرّض لها وتعرض لبعض هذه العلاقات من غير أن يجعل تغييرها المباشر هو مقصوده، بل تبين للمسلمين جميعاً كيف أن مقصوده (صلى الله عليه وآله وسلم) المباشر كان إقامة دولة إسلامية تقيم الحياة الإسلامية كلها فيها على أساس الإسلام في المدينة، ثم أقام في الدولة الجهاد وفتح به البلاد، وطبق في البلاد المفتوحة الإسلام ففتح بذلك القلوب ودخل الناس في دين الله أفواجاً. هكذا كان عمل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في إيجاد الإسلام بإيجاد دولته الأولى في المدينة، وهكذا سيكون عمل الحزب في إيجاد الإسلام من جديد تماماً كما بدأ، وعلى صورته الأولى بحيث تكون الخلافة الإسلامية الراشدة الثانية على منهاج النبوة. هكذا نظر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الواقع من أجل التغيير، وهكذا ينظر إليه حزب التحرير في عمله للتغيير.

أما العلم الشرعي الذي يعالج هذا الواقع فإنه قبل الخوض فيه لابد من التطرق إلى الموضوع من زاويتين:

الزاوية الأولى هناك أفكار تعتبر إطاراً للعلم الشرعي. والثانية هناك أفكار تعتبر تفصيلات تخضع لهذا الإطار ولا تخرج عنه.

– أما الأفكار التي تعتبر إطاراً للعلم الشرعي فهي تتناول الخطوط العريضة التي يجب أن لا تخرج تفصيلات العلم الشرعي عنها أدنى خروج، والجدير ذكره أن هذا الإطار موجود عند المسلمين جميعاً، وهذا بحد ذاته يساعد على نجاح عملية التجديد، وهذا الإطار العام للعلم الشرعي لا يختلف عليه مسلمان والحمد لله، وهو أن العلاج والدواء والشفاء موجود في القرآن الكريم والسنة المشرفة، لذلك توجهت الأنظار أنظار الجميع من قبل واليوم إلى الكتاب والسنة للخلاص.

وبما أن هذا الإطار لا خلاف عليه، ولا مشكلة في إيجاده، فإن المشكلة الحقيقية تبقى في الزاوية الثانية المتمثلة بتحديد العلم الشرعي التفصيلي لمشروع التجديد الذي يقوم به حزب التحرير.

والأدلة الشرعية التي يقوم عليها هذا الإطار هي من القرآن الكريم من مثل قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب 21].

– وقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الحجرات 1].

– وقوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) [آل عمران 19].

وقوله تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران 85].

– وقوله تعالى: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى(123)وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) [طه 123-124].

– وقوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام 153].

– وقوله تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الزخرف 43].

– وقوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء 65].

– وقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [آل عمران 31].

– وقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) [النساء 60].

وهي من الأحاديث الشريفة من مثل:

– روى مسلم عن عائشة (رضي الله عنها) : «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ».

– روى أحمد والحاكم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: «خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) خَطًّا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ مُسْتَقِيمًا، قَالَ: ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ السُّبُلُ وَلَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلا عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ )».

– أخرج الترمذي، وقال حديث حسن صحيح، عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) يَوْمًا بَعْدَ صَلاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلالَةٌ…».

– روى مسلم من حديث جابر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال في خطبة الوداع: «تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابُ اللَّهِ».

– وروى ابن أبي عاصم في كتاب السنة بإسناد حسن عن العرباض بن سارية (رضي الله عنه) أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى مِثْلِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لاَ يَزِيغُ عَنْهَا إِلاَّ كُلُّ هَالِكٍ».

– روى الطبراني في الكبير بإسناد جيد عن أبي شريح الخزاعي قال: خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أَبْشِرُوا، أَلَيْسَ تَشْهَدُونَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ؟ قالوا: بَلَى، قال: إِنَّ هَذَا القُرْآنَ سَبَبٌ طَرَفُهُ بِيَدِِ اللهِِ وَطَرَفُهُ بِأَيْدِيكُمْ، فَتَمَسَّكُوا بِهِ فَإِنَّكُمْ لَنْ تَضِلُّوا وَلَنْ تَهْلَكُوا بَعْدَهُ أَبَداً.

– روى الترمذي وحسنه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «… وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلا مِلَّةً وَاحِدَةً قَالُوا وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي».

– روى مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيباً وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيباً، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ». وفي رواية لأحمد: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ». وفي لفظ آخر: «الذين يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ سُنَّتِي». وفي لفظ آخر: «هم النُزَّاعُ في القبائِلِ» [النزاع جمع نازع، وهو الذي يخرج من بين قومه ويتفرد كما كان المهاجرون نزاعاً من هذه القبيلة واحد واثنين وثلاثة، ومن هذا البلد كذلك كانوا يتفلتون من ديارهم وأقوامهم ومن عشائرهم ويهاجرون إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نزاعاً]. وفي لفظ آخر: «هُمْ أُنَاسٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ في أُنَاسِ سُوءٍ كَثِيرٌ».

هذه الآيات والأحاديث تشكل إطاراً لا خلاف عليه بين علماء المسلمين ولا توجد حاجة في الدعوة إليه لإيجاده، وبالتالي لا يشكل مشكلة، ولكن المشكلة الحقيقية تتجلى في الزاوية الثانية والمتمثلة بتحديد العلم الشرعي التفصيلي اللازم الذي يترجم ترجمة صادقة ما ذكر من آيات وأحاديث حول أن الخلاص بالقرآن والسنة فحسب. وفي هذا الجانب طرح حزب التحرير ثقافته الشرعية التي يريد تجديد الدين بها، والذي كان أميناً على أن تكون أفكاراً تجديدية نقية صافية تأخذ من النبع مباشرة، ليس فيها ابتداع، تعمل الشرع فقط حيث يجب، وتعمل العقل فقط حيث يجب من غير أي خلط بينهما. ومن ذلك تبنيه:

أ) عقيدة سيا سية روحية تكون هي الدافع للتغيير، ولما كان العمل لإقامة حكم الله هو الهدف فقد وجب أن تؤخذ هذه الثقافة بالشكل الذي يجعلها مربوطة بالعقيدة ربطاً محكماً لا ينفصم، فالحكم بالإسلام ليس مطلوباً لذاته، وإنما لأن الله وحده هو الحاكم، لأنه هو وحده الذي خلق، وهو وحده الذي يدبر، وهو وحده الذي يأمر وينهى، وهو وحده الذي يعبد بطاعته في كل شؤون الحياة من غير استثناء.

وعندما تربط العقيدة بتغيير الواقع وتسييره فهذا من شأنه أن يوجد لدى العاملين العلم الذي يجعلهم متبصرين بحقيقة هذا الإيمان، وأن العمل به إنما يقوم ابتغاء مرضاة الله وطلب جنته والخوف من عذابه لا من أجل رفع الظلم أو التخلص من الجهل أو تحسين الأوضاع المادية، فإن كل هذا سيتحقق ولكن لا كغاية بل الغاية الواحدة هي عبادة الله وحده دون سواه وطلب رضاه. ثم إن هذا العلم بالإيمان كعقيدة سياسية يوجد لدى العاملين الشعور بالمسؤولية والجدية، ويوجد التلهب والحماس، ويوجد الصبر على الصعوبات والتهديدات حتى يظهر أمر الله سبحانه وتعالى.

وهذه العقيدة يجب أن يحرص على تنقيتها من كل شوائب التأثر بالفلسفات الأخرى من يونانية وما أنتجته من علم كلام، وهندية وما أنتجته من تصوف، وغربية وما أنتجته من فصل للدين عن الحياة الذي هو مرض العصر الذي ابتلي به المسلمون. إن العقيدة الإسلامية هي بمثابة الرأس من الجسد، والقلب من الأعضاء، ويجب أن تؤدي إلى إفراد الله وحده بالعبودية والتشريع إذ لا سواه يملك هذا الحق، وإفراد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالطاعة والاتباع، إذ لا غيره مرسل من بعده، ويجب أن تعطي بالشكل الذي يؤدي إلى إحياء الأمة وبعثها من جديد، وأن تكون الأساس في حلبة الصراع الفكري مع غيرها من الأفكار…

ب) مصادر الشرع يجب أن تكون قطعية، وتدل حصراً على النبع الذي يُستقى منه الشرع. فمصادر التشريع يجب تجديدها بتنقيتها من كل ما ليس بمصدر ويظن أنه مصدر، وباختصار فإنه بعد البحث القطعي يتبين أنها أربعة لا غير: الكتاب والسنة وإجماع الصحابة (كونه يكشف عن دليل) والقياس. ولله در هذا الكلام ما أحسنه! وكيف أنه يرجع بنا تماماً إلى ما كان عليه الصحابة حيث لم يكن عندهم (شرع ما قبلنا شرع لنا) ولم يكن عندهم (إجماع الأمة) أو (إجماع العلماء) أو (إجماع أهل المدينة) ولم يكن عندهم (الاستحسان) ولا (مذهب الصحابي)…

ج) قواعد فهم الشرع كذلك يجب تنقيتها مما علق بها من طريقة تفكير اليونان حين البحث في مسائلها، بل الاقتصار على فهم اللغة وحدها إلى جانب المصطلحات الشرعية التي جاء الشرع بمعانٍ خاصة لها، أو العرفية المتعلقة بفهم الواقع واتفاق الناس على تسمية له. ويجب أن تكون أصول الفقه منضبطة بحيث تكون مصادر الشرع وقواعد فهمه تتمحور كلها حول فكرة واحدة وهي أن تكون الحاكمية لله وحده. وبحيث تؤدي عملية الاستنباط فيه إلى حكم الله وحده، من غير تأثر بالمصلحة أو بالواقع أو بالظروف أو بالعقل. فالمصلحة لا يعلمها إلا الله وحده، والواقع هو مناط التغيير فهو لا يحرم ولا يحلل، وهو موضع التفكير بحيث يطبق عليه الشرع فيتغير تبعاً له، وأما الظروف فإن مناسبتها وعدم مناسبتها لا يليق القول به بحق الله تعالى، والله سبحانه يريد أن يطبق شرعه وأن تطوع الظروف للشرع لا العكس، وأما العقل فهو أداة التفكير وهو يعمل بحسب أفكار سابقة يؤمن بها، فهو بناء عليه يجب أن يكون عقلاً إسلامياً بأن يجعل معلوماته السابقة قائمة على أفكار العقيدة. والتزام ما انبثق عنها من أحكام.

د) الالتزام بطريقة الاجتهاد الشرعية في استنباط الأحكام. وهذه الطريقة تقوم على فهم الواقع كما هو من غير زيادة ولا نقصان، ثم قيام المجتهد باستحضار الأدلة الشرعية من المصادر الشرعية التي جرى تبنيها بعد تنقيتها، تم تتم عملية الاستنباط للحكم الشرعي المتعلق بها وفق أصول  وقواعد الفهم التي جرى كذلك تبنيها بعد تنقيتها…

ثم إن الحكم الشرعي الذي يجري استنباطه يعامل كحكم شرعي ظني يغلب عليه الصواب ويحتمل الخطأ، وذلك كما كان يتعامل العلماء الأوائل من السلف الصالح مع الحكم الشرعي الظني، ويكون مأجوراً صاحبه أجرين إن أصاب، وأجراً واحداً إن أخطأ… وهكذا…

هـ) ثقافة الحزب الشرعية: بناء على كل ما تقدم قام حزب التحرير وهو يبتغي القيام بعملية تغيير تطال الأمة كلها. وبعد عملية التنقية التي يبتغي بها إعادة فهم الإسلام والعمل به تماماً كما كان زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قام بتبني طائفة كبيرة من الأحكام شكلت ثقافته للتغيير والتجديد: وهي إن وفقه الله تعالى في تحقيقها يرجو من الله سبحانه وتعالى أن يكون فيها نعم الأمير أميره، (بل أمراؤه على التعاقب) وأن يكون حزبَ الله الذي يتولى الله ورسوله والمؤمنين فقط، وأن يتقبل من أفراده أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة…

وثقافة الحزب في التغيير تقوم على الشكل التالي، وهي من باب التمثيل لا الحصر:

– إنه لما كان واقع العمل للتغيير يتطلب وجود تكتل للتغيير، اقتضى سير العمل دراسة واقع التكتل الحزبي الصحيح حتى يستطيع تحقيق أهدافه، ويبقى متماسكاً من غير أن يتعرض لأي انشطار، وذلك عن طريق وجوب تبني أفكاره كلها من جميع أعضائه، ووجوب طاعة الأمير في كل ما اجتمعوا على تبنيه، وتنفيذ كل ما يصدر عنه من قرارات.

– وإنه لما كان المسلمون يعيشون في مجتمع فيه خليط من الأفكار والمشاعر والأنظمة اقتضى سير العمل لإقامة دولة إسلامية معرفة واقع المجتمع ومكوناته وما يؤثر فيه وكيفية تغييره؛ حتى يوجد المجتمع الإسلامي المتجانس في أفكاره ومشاعره وأنظمته، وهنا يلفت النظر أن ما قام به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من إنشاء المجتمع الإسلامي في المدينة يلتقي تماماً مع الفهم العقلي للمجتمع فيجعلنا نفهم جيداً فعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في تغيير المجتمع. وبناء على هذا الإدراك تبنى الحزب كل ما يتعلق بتغيير المجتمع من إيجاد لأفكار الإسلام الجماعية والمشاعر الجماعية، وتوجيهها لمصلحة إقامة الدولة الإسلامية بواسطة ما يعرف لدى الحزب بالثقافة الجماعية التي تؤدي إلى إيجاد الرأي العام المنبثق عن الوعي العام.

– وإنه لما كان واقع الفرد يختلف عن واقع المجتمع، وبالتالي فإن مقومات الفرد تختلف عن مقومات المجتمع، وبناء على هذا الاختلاف أدرك الحزب حين توجهه بالدعوة إلى الأفراد الأحكام الشرعية التي تلزمهم لبناء الشباب عليها. وهذا الإدراك لمقومات الفرد تمّت ملاحظته في كثير من آيات القرآن الكريم التي تتوجه إلى الأفراد وتركز على العقيدة والأخلاق والمعاملات والعبادات فيها بما يشكل موضوعاً واحداً لها كتلك الآيات المتعلقة بعباد الرحمن وغيرها. والتمييز بين مقومات الفرد ومقومات المجتمع أدى إلى بيان خطأ الجماعات الإسلامية الأخرى التي اختلط عليها هذا الأمر فراحت تطالب بتغيير مواصفات الأفراد لتغيير المجتمع؛ وبناء على هذا الاختلاط قامت الجماعات تدعو إلى الأخلاق، أو إلى العقيدة، أو إلى العبادات… وتركت الدعوة إلى إقامة المجتمع القائم على العقيدة السياسية والتشريع وإيجاد الأفكار والمشاعر الإسلامية الجماعية المتجانسة لدى أفراد الأمة.

– وإنه لما كان العمل هو لإقامة الحكم بما أنزل الله وإقامة دار الإسلام اقتضى ذلك معرفة طريقة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة، وما قام به من أعمال أدت إلى إقامة الدولة الإسلامية في المدينة، ومن ثم السير بحسبها لتغيير الواقع دون الحيد قيد شعرة عن كلياتها وجزئياتها. ومن ثم اقتضى السير بحسب طريقة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في التغيير التمييز بين ما هو من أحكام الطريقة يجب الالتزام بها، وبين ما هو من أحكام الأسلوب والوسيلة لأنها على الأصل مباحة، وهذا يرشد إلى دقة التأسي.

– وإنه لما كان العمل هو إيجاد كيان سياسي تنفيذي للحكم بما أنزل الله، وتغيير الأنظمة القائمة اقتضى سير العمل المتابعة السياسية لأعمال الحكام ومعرفة واقعهم وواقع ارتباطهم بالخارج، وهذا اقتضى متابعة الأعمال السياسية المحلية والدولية والقيام بأعمال الكفاح السياسي وكشف خطط الاستعمار وتبني مصالح الأمة من خلال هذا الواقع، واقتضى كل ذلك أن يكون العمل سياسياً.

– وإنه لما كانت بلاد المسلمين تخضع لأنظمة الكفر، وخاصة الحضارة الغربية وأنظمتها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسيايسة اقتضى سير العمل لإقامة الدولة الإسلامية التعرض للمبدأ الرأسمالي بعقيدته وبأفكاره وبأحكامه المتعلقة بهذه العقيدة، وهذا اقتضى القيام بأعمال الصراع الفكري بين الإسلام كحضارة والفكر الغربي كحضارة، واقتضى جعل العقيدة هي أساس هذا الصراع.

– ولما كانت الغاية الشرعية هي تطبيق الإسلام وحمله رسالة إلى العالم، اقتضى ذلك لدى الحزب التعرض لنظام الحكم في الدولة الإسلامية، شكلها وأجهزتها واقتضى كذلك التعرض لأشكال الحكم الأخرى للتمايز عنها وإبعاد التأثر بها، واقتضى كذلك وضع دستور للدولة الإسلامية وانبثاق أحكام هذا الدستور عن العقيدة في كل مواده.

وهكذا يسير الحزب في تبني ثقافته الشرعية بتبني كل الأفكار والأحكام الشرعية اللازمة له في عملية التغيير، مما ذكرنا وما لم نذكره، وتكون أفكاره مستندة إلى مطابقة الواقع، وأحكامه منبثقة من العقيدة الإسلامية، ومنضبطة بطريقة الاجتهاد الشرعية وبهذا تكون أفكاره وأحكامه التي يريد تغيير المجتمع على أساسها كلها إسلامية، وليس فيها أي شيء غير إسلامي، وغير متأثرة بأي شيء غير إسلامي.

أما العمل بمقتضى العلم فإن واقع الأمة الإسلامية بقي واحداً رغم تجزئته وفرض دساتير وأنظمة مختلفة فيه، وفرض حكام متنافرين، وبعث أفكار تفرق الأمة وتعود بها إلى جذورها غير الإسلامية… رغم كل ذلك بقيت الأمة الإسلامية أمة واحدة، أفكارها العامة واحدة، ومشاعرها العامة واحدة، ويجمعها الإسلام بعقيدته وأحكامه وخاصة تلك التي تبرز فيها الناحية الجماعية كالصوم في شهر واحد، والحج معاً في وقت واحد، والاحتفال بأعيادهم في وقت واحد، وكذلك فإن المسلمين وقعوا بالحالة المرضية معاً، وصاروا يحسون بنفس الألم، ألم الحكام الظلام، وألم الذل والفقر، وألم الإفساد والإضلال، وألم استباحة الكفار لدماء المسلمين جميعهم… فإنه لما كان هذا هو الواقع، كانت دعوة الحزب واحدة في بلاد المسلمين جميعها وهذا ما ساعده على الانتشار وتقبل دعوته فيها، وما جعله حزباً إسلامياً عالمياً، وخاصة وأنه في إدراكه الواعي لواقع العقيدة وعالميتها والأنظمة وإنسانيتها استطاع أن يوجد للدعوة سبيلاً حتى إلى غير المسلمين، وبهذا كله استطاع الحزب أن يفرض نفسه على ساحة العالم الإسلامي الواسعة، واستطاع بمبدئيته وحسن تبنيه للأمور الإدارية فيه أن يدير حزباً كبيراً على طريقة واحدة، وأمير واحد، وبثقافة واحدة، وبأعمال واحدة، من غير انشقاقات تذكر أو إيجاد شلل فيه.

ولأهمية المبدئية لدى الحزب استطاع أن يوجد عملاً متماسكاً وشباباً مستمسكين بما تبناه، واستطاع بما ركزه من ثقافة في شبابه، وبالأجواء الإيمانية التي يعيشها هؤلاء الشباب، المحافظة على سلوك طريق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) دون الحيد عنها رغم كل الصعوبات التي واجهته، وربط الأفكار والأحكام بالعقيدة ربطاً محكماً، وبعث معاني الصبر والتضحية وقوة الالتزام وربطها بما كان عليه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحابته الكرام ومن قبلهم ممن ذكرهم الله سبحان من الأنبياء، وهذا جعل الجو العام لدى الحزب يمتاز بما امتاز به هؤلاء، وجعل الحزب يعيش مع شبابه نفس أجواء الرعيل الأول… وهذا بحد ذاته شكل أكبر دافع لديه أنه فعلاً يعيش نفس أجواء الدعوة الأولى، وأطمعه بنوال تحقيق الهدف ونوال الرضى والأجر من الله.

على هذا المنوال سار الحزب في تحديد ثقافته والدعوة إليها والعمل بها.

ومما يذكر في مجال توافق العمل مع العلم، والسير بهما معاً على درجة واحدة من الالتزام، بحيث لا يختلفان، وبحيث يأتي العمل تماماً على ما تبناه من أفكار، وحتى لا يكون عمله مختلفاً عن قوله، فإن حزب التحرير نجح في تحقيق ذلك أيما نجاح، واستطاع أن يوجد التجانس التام ما بين الناحية النظرية والناحية العملية، بحيث يشهد له بذلك العدو قبل الصديق. وذلك بفضل ما امتاز به من مبدئية جعلها تاج رأس عمله. فالموضوع هو تحقيق العبودية لله كما يريد الله وطلب نوال رضوانه، وهو قد تبنى أنه لا يتم ذلك إلا بحسن الالتزام، ثم إن الحزب قد سطر في كتبه أنه دائماً مع الدليل الأقوى ليبقى الالتزام عنده بمرتبة عليا أي أحسن الالتزام، وكان شبابه ومسؤولوه يعيشون أجواء العمل الصعبة معاً، فليس المسؤول ينام والعضو يحرسه على الباب، ولا المسؤول يركب السيارة والعضو يسوقها… بل يمكن القول إن المسؤول يعيش في حالة معيشية هي أدنى من غيره وخاصة إذا كان متفرغاً في العمل، وكم تخلى شبابه المتفرغين عن رواتب عالية لرواتب أدنى منها بكثير كرمى للعمل فقط، ثم إن الحزب قد وضع نظاماً إدارياً لانتظام أمور العمل والمحاسبة على التقصير يطال الجميع. حتى إنه وضع ديوان المظالم في جهازه الإداري لمحاسبة المسؤولين، إن قصروا أو تجاوزوا…

كذلك فإن الحزب عندما سار انطلاقاً من مبدئيته والتزامه الصارم بأحكام الطريقة، ضغطت عليه الظروف لتغيير طريقه من مثل الضغط عليه لحرق المراحل والاكتفاء بالنصرة فرفض لأن ذلك يخالف طريقة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حمل الدعوة، ومن مثل الضغط عليه لاستعمال القوة المادية في التغيير بحمل السلاح فرفض لأن ذلك يخالف طريقة الرسول في حمل الدعوة، ومن مثل ضغط الحكام عليه بالملاحقة والاعتقال والإشاعة عليه والتكذيب والتشريد ومن ثم عرضهم عليه للتعاون معهم، ولكنه رفض ذلك رفضاً مطلقاً لأن كل ذلك يفقده أهم ما عنده وهو مبدئيته وبالتالي مصداقيته… ومثل الضغط من حيث ضعف الإمكانات المالية ومع هذا رفض أن يمد يده خارج شباب الحزب لأنه يعلم أن مد الأيدي إلى الخارج ولو من مخلصين يزيل عنه إخلاص العمل شيئاً فشيئاً ويصبح أسير من يدفع، وبالرغم مما بدا عليه من أنه يسير ببطء شديد في عملية التغيير كون أفكار وأعمال التغيير الجذرية الواعية هذا واقعها، فإنه لم يأخذه طول الطريق، ولا وعورته، ولا تأخير النصر، ولا شدة الواقع ولا تمكن الكفار الغربيين وسيطرة الحكام الفسقة على هذا الواقع، ومع ذلك بقي على ما بقي عليه…

من جراء كل ذلك ومن مثله لمس الحزب (مسؤولون وأعضاء) ولمس من هم خارج الحزب ممن هم منصفون، أن الحزب يشكل ظاهرة فريدة في العمل للتغيير لا غبار عليها، وبقيت فئة كبيرة من العلماء والمفكرين بدفع من الحكام يهاجمون الحزب ويشوهون سمعته ويظهرونه على غير حقيقته للصد عن سبيل العمل معه، وليمنعوا تأثيره على الناس، ومع ذلك والفضل في ذلك لله وحده، وهذا الفضل لله لا يشعر به إلا من يعيشه، استطاع الحزب أن يفرض نفسه بأعماله المخلصة والواعية لأن يظهر ظهوراً بيّناً، وهو مع الوقت يزداد ظهوراً، ليس في ساحة المسلمين فحسب بل في الساحة الدولية، بل يمكن القول وذلك بإرجاع الفضل لله وحده، أن لله إرادة في ذلك، وكلنا قد ملأ سمعه وبصره تصريحات حكام الغرب، ومفكريهم ومراكز أبحاثهم وتحذيرهم من الخلافة ومن الحزب، ومن الأعمال الجهادية التي ترفض الغرب وتريد الخلافة. ولعل الله يريد بهذه الأمة خيراً، فبالفعل فإن الأمة تحتاج لنهضتها وقيام الأمر على استقامة إلى حكم بالإسلام وإلى جهاد، فالحكم بالإسلام أولاً ثم الجهاد جهاد الطلب. أما جهاد اليوم وهو جهاد الدفع فإنه في محله وهو يبلي بلاءه، في كل مكان وخاصة في أفغانستان الذي قدر له الله سبحانه أن يكون على صخرته تحطم الإمبراطوريات، الاتحاد السوفياتي والآن الحضارة الغربية، على أنه يجب على المجاهدين أن ينضبطوا بأحكام الإسلام حصراً في جهاد الدفع هذا.

هذا هو حزب التحرير فإنه عندما أراد التغـيير الجـذري الذي يرفـع المجـتمع الإسلامي على قواعد سليمة دفعه هذا إلى إعادة درس الإسلام وتنقيته والسير به على طـريقة فهم الإسـلام الصـحيحـة، وعلى طـريقة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في العمل والتغيير، فكان بذلك نواة حركة تجديدية، وإذا قدر الله سبحانه أن تبلغ مداها فإنها ستكتمل بإقامة الخلافة الراشـدة على منهـاج النبوة، ويا له من شرف لا يدانيه شرف أن يحصل على سـبق الفوز به. ويكفيه في ذلك رضى الله سبحانه وتعالى عنه.

وإننا نرسلها صرخة صادقة لكل المسلمين أن يعوا ما عليه الحزب، وأن يكونوا معه في عمله، عسى الله أن يعجل لنا بفرجه، فيقوم أمره وتعلو كلمته وينتشر دينه حتى يعم الأرض مشارقها ومغاربها، ويدخل الناس في الدولة الإسلامية أولاً ثم يدخلون في الدين بحسن الدعوة وبحسن التطبيق. إنه وعد من الله سبحانه وتعالى بأن ذلك كائن في آخر الزمان، وإن ما نراه من تفرد الحزب في الدعوة لإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، وما نراه من هذا الفهم المشرق والمنضبط للإسلام، وهذا البعث للعقيدة والأفكار نقية صافية، وهذا الإحكام في انبثاق الأحكام الشرعية عن العقيدة الإسلامية بطريقة اجتهاد منضبطة هي طريقة الأوائل من السلف الصالح، وما نرى عنده من تفرد بأن طريقة عمله هي نفس طريقة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن بعث فكرة أنه لا يجوز الكلام من غير دليل شرعي في أي مسألة تكلم بها الشرع… كل ذلك وغيره من مثله عندما نراه ونسمعه يجعلنا نطمع بنوال رضى الله في تجديد الدين بإقامة الخلافة الراشدة الثانية، وإننا لنرجو أن نكون عند الله ممن يهتمون بمعالي الأمور لا بسفاسفها، قال تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [محمد17] صدق الله العظيم وأن يقبلنا عنده من الصادقين، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة 119] وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *