العدد 176 -

السنة السادسة عشرة رمضان 1422هـ – كانون الأول 2001م

مفهوم النمو الاقتصادي ومقوّماته

          إن مادة النون والميم والياء أصبحت اليوم جذراً لأهم المصطلحات الاقتصادية التي يتناولها الباحثون الاقتصاديون والسياسيون في شتى المجتمعات.

          فمن هذه المادة نرى مصطلحات: النمو، والتنمية، والدول النامية، والدول الأقل نموّاً، إلى آخر تلك المصطلحات.

          ويعتبر النمو الاقتصادي من أهم الأهداف السياسية للحكومات في مختلف بلدان العالم، سواء المتقدمة منها أو المتأخرة. وتعتبر برامج التنمية الاقتصادية من أهم أطروحات الأحزاب المتطلعة إلى الحكم، وعلى أساسها يقاس نجاح الحكومات أو إخفاقها، كما تجري على أساسها محاسبة الحكام من قبل شعوبهم.

          ولم تعد التنمية الاقتصادية مجرد قيمة يدعى الناس إليها ويُشَجّعون عليها فحسب، بل أصبحت الشغل الشاغل للهيئات التشريعية والمجالس التنظيمية في البلاد. ومن ثَمَّ أصبحت مناقشة الميزانية، وأسعار العملات، ومعدلات النمو، والتضخم، والبطالة من أهم أعمال مجالس الشعوب وكافة الدوائر الحاكمة.

          وعلى أساس هذا المصطلح جرى تصنيف دول العالم إلى دول العالم الأول، والثاني، والثالث كما جرى تصنيفه إلى دول متقدمة، ودول نامية، ودول أقل نموّاً. وعلى أساسه أيضاً تقوم إحصاءات لحساب ما يعرف بالدخل القومي للبلاد المختلفة، وبه يتم تحديد متوسط دخل الفرد سنويّاً.

          ولأهمية مفهوم النمو الاقتصادي وأثره في قوة الدول وتقدمها في معترك الحياة الدولية كان لابد من وضع تعريف دقيق له؛ كي يجري بناء الأبحاث الاقتصادية عليه.

          وعند إرادتنا وضع تعريف للنمو الاقتصادي علينا أن ندرك أن ثمة فارقاً بين مفهوم النمو في الاقتصاد الرأسمالي، ومفهومه في الاقتصاد الإسلامي نظراً لاختلاف القاعدة الفكرية التي يبنى عليها كلا المفهومين.

          ففي الاقتصاد الرأسمالي ينظر إلى التنمية والنمو على أنها هي حل المشكلة الاقتصادية الرئيسة، وهي مشكلة الندرة النسبية للسلع والخدمات بإزاء حاجات الإنسان المتجددة.

          ومن ثَمَّ يكون تعريف النمو الاقتصادي عند الرأسماليين هو: الزيادة في إنتاج السلع والخدمات لتكفي الحاجات الكلية في المجتمع وتفيض عنها؛ كي تحقق مستوى أعلى من الرفاهية. والاقتصاد الرأسمالي ينظر إلى النمو على مستوى المجتمع، لا على مستوى الأفراد ويعالج الزيادة في الإنتاج الكلي وفي الدخل القومي، لا في إنتاج كل فرد ومقدار دخله.

          وبناءً على ذلك يجري حساب معدلات النمو بناءً على: حساب الإنتاج الكلي الذي ينتجه المجتمع كلّه والدخل الناتج عن هذا الإنتاج، وبناءً على حساب الميزان التجاري وما يحققه من عجز أو فائض في الدخل الكلي، ثم بناءً على هذه الحسابات الكلية يجري تقدير افتراضي لدخل الفرد ومقدار كفايته أو رفاهيته، وهو تقدير يبعد كثيراً عن الواقع نظراً لسوء التوزيع. فيقدر مثلاً أن هذا المجتمع متوسط دخل الفرد فيه خمسة آلاف دولار سنويّاً، وهذا المجتمع ألف دولار وهكذا. وبناءً على هذه المحددات وضعت المنظمات الرأسمالية الدولية تعريفات للدول النامية والدول الأقل نموّاً؛ فقالت مثلا عن الدول “الأقل نموّاً” والتي تُمْنَح مزايا خاصة في اتفاقات التجارة الدولية: هي الدول التي لا يزيد متوسط دخل الفرد فيها عن 1000 دولار سنويّاً.

          أما تعريفات “النمو”، أو”التنمية الاقتصادية” بناء على القاعدة الفكرية الإسلامية فإنَّ الاقتصاد الإسلامي لا يجعل التنمية ـ رغم أهميتها ـ هي القضية الاقتصادية الأولى، ولا حل المشكلة الاقتصادية الرئيسة؛ لأن المشكلة الاقتصادية في الإسلام ليست هي الندرة النسبية للموارد، وإنما هي الكفاية الإشباعية من الحاجات الضرورية لدى جميع أفراد الرعية بغض النظر عن وفرة الموارد أو ندرتها. والكفاية لا يُنظر إليها باعتبار المجموع أو باعتبار متوسط الدخل، وإنما يُنظر فيها إلى الأفراد فرداً فرداً، ويتم حلها عن طريق تنظيم توزيع الثروة من خلال الزكاة، ومن خلال رعاية الدولة للفقراء والمساكين.

          فإذا استقرينا نصوص الشريعة الإسلامية المتعلقة بالاقتصاد نجدها تُكثر من التشديد على كفاية الفقراء، والمساكين، والغارمين، والمحتاجين بشكل يدلل على أن هذه هي المشكلة الرئيسة، وليست الندرة أو زيادة الإنتاج أو النمو.

          وليس معنى ذلك أن الاقتصاد الإسلامي يحط من شأن النمو الاقتصادي وزيادة الإنتاج، ولكنه يجعلها في المرتبة الثانية من الأهمية بعد تحقيق الكفاية والحياة الكريمة لجميع أفراد الرعية.

          فإذا ما حققت الدول تلك الكفاية وجدنا أن الإسلام قد أوجب عليها النمو الاقتصادي ولكن بمفهوم يختلف عن مفهوم الرأسماليين؛ فقد أمر الله تعالى الدولة الإسلامية على سبيل الوجوب بالإعداد لقتال الكفار قال تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) (الأنفال/60) والإعداد هنا يشمل حتماً القوة المادية وهي تقدر بقيمة اقتصادية، ورباط الخيل ينطبق على كافة وسائل الحرب من تقانة عسكرية، وآلات، ومعدات، وهذه كلها تحتاج إلى فائض في خِزانة الدولة يتوجّب على الدولة توفيره، وثمة نص آخر يأمر المسلمين أن لا يكون للكفار سلطان عليهم، (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً)  (النساء) وهذا النص عام، يشمل بعمومه السلطان الثقافي والعسكري؛ فيتطلب ـ من ثَمَّ ـ من الدولة تحقيق النمو الاقتصادي الذي يحقق هذه المنافسة.

          فإذا كان الاقتصاد الرأسمالي ـ كما ألمحنا ـ يعرّف “النمو” بأنه: “زيادة الإنتاج للرفاهية” ولرفع مستوى المعيشة عند مجموع الأفراد، لا عند آحادهم فإن الاقتصاد الإسلامي يعرفه بأنه زيادة دخل الدولة لتحقيق القوة اللازمة لنشر الدعوة ومواجهة الدول الأخرى، أما رفاهية الأفراد وتنمية ملكهم فإن الإسلام يشجع الأفراد عليها من خلال الحث على العمل وتحبيب الغنى والإنفاق والنهي عن المسألة، وينحصر دور الدولة في الإشراف، وتمكين الناس من تنمية ممتلكاتهم.

الآثار الاقتصادية لمفهوم التنمية الرأسمالي

          لا شك أن القيادة الفكرية الرأسمالية مخفقة باعتبارها عقيدة تفصل الدين عن الحياة، وهذا الإخفاق من الطبيعي أن لا ينتج سوى معالجات فاسدة لمشكلات الإنسان.

          فالنظر إلى مشكلة الندرة النسبية وجعلها هي محور الدراسات الاقتصادية، والنظر إلى زيادة الإنتاج الكلي والدخل القومي، وجعلها هي الحل الأساسي للمشكلة الاقتصادية ـ كل هذا أدى بالاقتصاد الرأسـمالي إلى سوء توزيع الثروة، وإلى طبقية المجتمعات الرأسمالية، وجعل كل نمو أو زيادة في الدخل إنما يصب في جيوب الأغنياء؛ لأن الدولة عندما تهمل تنظيم التوزيع وتتركه للناس زاعمة أن ميكانيكية العرض والطلب ستقوم به على خير وجه، فإن الواقع الذي يحدث حتماً هو أن ثمة قانوناً غير عادل يحكم هذه المسألة، وهو قانون القوة، فالأقوى ماليّاً أو عقليّاً أو جسديّاً يكون أقدر من غيره على حيازة الثروة.

          ولهذا نجد المجتمعات الرأسمالية كلما ازدادت غنىً ازدادت أعداد الفقراء فيها؛ ففي أميركا عام 1998 أُعْلِنَ أنه يوجد 20 مليون مواطن بلا مأوىً، وفي عام 2000 بعد تحقيق فائض تاريخي في ميزان المدفوعات الأميركي أُعلِن أنه يوجد بها 35 مليون مواطن بلا مأوىً، وهؤلاء المواطنون فاقدو المأوى لم تناقش الحكومة الرأسمالية إنفاق سنتٍ واحد عليهم من ذلك الفائض المهول، في حين جرى التفكير في إنفاقه على حماية التجارة الأميركية، وحماية حقوق الملكية الفكرية التي تضمن احتكار المنتجات الأميركية للأسواق المختلفة، وحماية المصالح الاستراتيجية الأميركية. وبالتدقيق في هذه المصارف نجد أنها كلها تدور حول تنمية الدخل الكلي المتمثل في تنمية ثروة الشركات الكبرى وهو يؤدي إلى زيادة ثروة الأغنياء وزيادة الفجوة بين الطبقات ومن ثَمَّ إلى زيادة أعداد الفقراء.

          فإذا بحثنا في آثار مفاهيم التنمية الاقتصادية الرأسمالية في العالم المتقدم وجدنا أن التنمية لا تغني الفقراء حتى إذا تحققت تلك التنمية بمعدلات واسعة، بل إنها قد تزيدهم فقراً بسبب سوء توزيع الثروة، لكن فضل التنمية الوحيد عندهم هو في زيادة الأغنياء غنى وقوة وسيطرة، ليس على بلادهم فحسب، وإنما على مستوى العالم، فالنمو الرهيب الذي حدث لأميركا في الآونة الأخيرة زادها قوة وعربدة واحتكاراً للتقانة، وهي كلها مزايا مسخرة طبعاً لصالح أصحاب الشركات الكبرى، إذ إن أثر التنمية على الدول المتقدمة هو أن التنمية تقوي الدولة والأغنياء، ولا تنفع الفقراء.

          فإذا انتقلنا ببحثنا إلى الدول المتخلفة، نجد أن التنمية الرأسمالية لا تنفع الفقراء ولا حتى الأغنياء وأنها تزيد الدولة والمجتمع فقراً.

          والسبب في ذلك أن الاقتصاديين والحكام في البلاد النامية يرون أن التنمية تمر بمراحل ثلاث:

          l  المرحلة الأولى: مرحلة إنتاج السلع: وفي هذه المرحلة تعتمد الدول النامية على استيراد آلات الإنتاج واستيراد التكنولوجيا من الدول المتقدمة، وتستخدمها في إنتاج السلع التي تسد احتياجات السوق المحلية.

          l  المرحلة الثانية: التوسع في إنتاج السلع لكفاية السوق المحلي: وفيها المزيد من الاعتماد على التكنولوجيا المستوردة لتحقيق فائض إنتاجي في السلع؛ لكي يصدر إلى الأسواق الخارجية ليحقق فائضاً في الدخل القومي ليستغل في المرحلة الثالثة.

          l  المرحلة الثالثة: استغلال الفائض في الميزان التجاري والذي ينتج عن تصدير السلع المنتجة محلياً وتسخير هذا الفائض من أجل إنتاج الآلات نفسها وإنتاج التقانة.

          وهذه التنمية الوهمية ما هي إلا تسويق لتقانة الدول المتقدمة، وحيلولة دون منافستها في إنتاجها، وتؤدي إلى مزيد من التبعية الاقتصادية.

          في ظل هذه التنمية الوهمية يستحيل على الدول النامية تحقيق فائض في الميزان التجاري؛ لأن أسعار التقانة المستوردة أغلى كثيراً من أسعار السلع المنتجة محليّاً، كما أنها تؤدي بالدول النامية إلى هيكلة إنتاجها على أساس إنتاج السلع، فيكون من المتعسر تحويل الهيكلة الإنتاجية بعد ذلك إلى هيكلة تنتج التقانة لما في ذلك من خسارة مالية كبيرة بالنسبة لتلك الدول.

          والواقع المحسوس يؤكد أن الدول التي خضعت أو أُخْضِعَت لمشاريع التنمية الرأسمالية بمفهومها المرحلي لم تخرج من ربقة التبعية منذ أكثر من خمسين عاماً وحتى اليوم، وأنها تزداد اعتمادا على التكنولوجيا المستوردة والآلات المصنعة في الدول المتقدمة.

          لهذا السبب فإن التنمية بمفهومها الرأسمالي لا تزيد الدول النامية إلا فقراً، ولا تنفع الفقراء ولا الأغنياء، وليست في صالح الدولة، ولا في صالح الشعوب.

مشروعات التنمية في البلاد الإسلامية

          المقصود بالبلاد الإسلامية تلك التي أغلب سكانها مسلمون، وكانت تعيش يوماً ما في ظل الحكم الإسلامي الذي أسقط عام 1924، وهي كلها تصنف ضمن ما يسمى بالبلاد النامية. ولا يقصد بالنامية التي نمت بالفعل، وإنما يقصد الآخذة في النمو، أو بالمعنى الأدق المتّبعة للمشروعات التنموية المقترحة من قِبَل المؤسسات الرأسمالية الدولية.

          وهذه البلاد الإسلامية عن بكرة أبيها تنفذ بشكل جاد عدة مشروعات تنموية تَعِدُ الناس من خلالها بأن يخرجوا من عنق الزجاجة، وأن يلحقوا بالعالم المتقدم، وهذه الدعوة ليست عند التدقيق سوى تخدير للشعوب من أجل المزيد من الانتظار… والغرب الكافر الحاقد على الإسلام والمسلمين المحارب لدينهم لا يعد المسلمين في هذه المشروعات إلا غروراً…

          وإذا كنا قد تبينا فساد التنمية الاقتصادية بمفهومها الرأسمالي، وآثاره الخطرة على المجتمعات ولا سيما المتأخرة ـ فقد كان هذا بياناً نظريّاً، وهذا البيان النظري لابد أن نتبعه بنظرة تطبيقية لما يجري من مشروعات تنموية في العالم الإسلامي؛ فإذا أنعمنا النظر في التشريعات والقرارات المتخذة من قبل الحكومات نجد المشروعات التالية:

          1) فتح المجال للاستثمار الأجنبي: حيث يزعم حكام البلاد الإسلامية أن الاستثمار الأجنبي سيحقق جذباً للتكنولوجيا وللعملة الأجنبية، كما سينشئ مشروعات كبرى سوف توفر فرص عمل للشباب العاطلين.

          والحقيقة أن المستثمر الأجنبي يدخل السوق المحلية ليوفر تكلفة منتجاته باستغلال الأيدي العاملة الرخيصة مقابل تلك الباهظة الأجرة في البلدان المتقدمة، كما يستغل السوق المحلية في تسويق منتجاته دون جمارك حيث سيوضع عليها شعار صنع في مصر، أو في السعودية، أو في أي بلد من بلادنا.

          كما أن هذا المستثمر الأجنبي يستغل ما يمنح له من امتيازات لن يُمْنَحَها إذا أنتج في الخارج ثم صدّر بضاعته إلى هذه البلاد.

          وهذا المستثمر لن يسمح بتسريب التقانة أو بتعليمنا كيف نستغني عنه، وأقصى ما يعلمنا هو كيفية استعمال آلاته الإنتاجية.

          أما ما ينتظر من ثمار المشروعات العملاقة فإنه معظمه سيصب في جيب ذلك المستثمر ويؤول الفتات إلى العاملين المحليين.

          أما مشكلة العملة الأجنبية (الصعبة) فهي لا تُحَلّ بواسطة المستثمر الأجنبي؛ لأنه علاج لنتيجة المشكلة لا لسببها، أما السبب فهو يتعلق بكون الواردات أعظم من الصادرات ومن ثم فهو يتعلق بالصناعة لا بدخول المستثمر الأجنبي وأمواله.

          وأما فرص العمل المنتظرة من رأس المال الأجنبي فهي مع محدوديتها لا تحل مشكلة الفقر في المجتمع؛ لأن القضية هي كيف نوفر الدخل المناسب لجميع أفراد الرعية، وهي مشكلة سوء توزيع لا مشكلة زيادة دخل أو زيادة فرص عمل.

          2) الدخول في المنظمات والهيئات الدولية: ففي زعم حكام العالم الإسلامي أن العزلة عن التعامل مع دول العالم غير ممكنة اليوم، ولا سبيل للحاق بركب التقدم إلا بالدخول في المجتمع الدولي، ومن ثم هرعوا جميعاً إلى الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، وقبلها إلى صندوق النقد، وإلى البنك الدولي… ولا يخفى على ذي لب أن هذه المؤسسات تعمل لخدمة الدول المتقدمة، واتفاقاتها جميعاً تعمل على فتح أسواق الدول المتخلفة أمام بضائعها، وخفض رسوم الجمارك عليها، وزيادة نفوذ رأس المال الأجنبي والدول العظمى في هذه البلاد.

          3) حوافز الاستثمار: يزعم حكام بلادنا الإسلامية أن المستثمرين المحليين هم الأمل في التنمية الاقتصادية؛ لذا لابد من رعايتهم وتحفيزهم على الاستثمار في بلادهم حتى لا يخرجوا بأموالهم لاستثمارها في الخارج.

          وهذا التحفيز يكون من خلال دعم مشروعاتهم، وخفض الضرائب عنهم، ومنحهم مختلف المزايا والتيسيرات؛ وبهذا انقلب الوضع: فأصبحت الضرائب تؤخذ عنوة من الفقراء وتقتطع من رواتب صغار الموظفين قبل قبضها، في حين يعفى منها الأغنياء، بل تبذل لهم أموال الدولة في صورة دعم وتسهيلات، وكأن الزكاة في ظل هذا النظام قد وجبت على الفقير في صالح الغني. والمقابل ـ إن نجحت مشروعات هؤلاء المستثمرين ـ أن يزدادوا غنىً وطبقيّة كما هو في الدول المتقدمة، ويزداد الفقراء فقراً وعوزاً.

          أما مسألة جذبهم حتى لا يخرجوا بأموالهم فهذا حل غير عملي، أولاً لأن جذب الاستثمار في ذاته ليس غايةً، بل الغاية هي الاكتفاء الذاتي زراعيّاً وصناعيّاً. وثانياً لأن جذب الاستثمار يكون بالتحول إلى دولة تقانية تقوى على المنافسة، وهذا لن يتم إلا بالتخلي عن مراحل التنمية المشار إليها آنفاً.

          ومن الناحية العملية نجد أن استثمارات العالم العربي في البنوك الأجنبية في تزايد مطّرد. وجدير بالذكر أن حكام تلك البلاد الذين يرفعون شعار جذب الاستثمار أكثر الناس استثماراً للأموال بالخارج.

          4) تحديد النسل: في ظل عجز حكام العالم الإسلامي عن مواراة سوأة أنظمتهم، وفي جو قد شحن بفكرة صعوبة أو استحالة تحقيق الاكتفاء الذاتي، قد عمدوا إلى إيهام الشعوب أن مجرد توفير القوت لهم ـ وبلادهم أكثر بلاد العالم غنىً بالموارد ـ قد بات شبه مستحيلٍ، وأن السبب في ذلك لا يرجع إلى فساد النظام الرأسمالي المطبق، ولا إلى فساد الحكومات وامتلائها بالنفعية والرشوة، بل يرجع لكثرة النسل.

          وبغض النظر عن تجاوب الرأي العام مع هذه الدعوى فإن فيها صرفاً شديداً لأنظار الناس عن السبب الحقيقي للأزمات الاقتصادية.

          5) مشروعات السلام: يزعم حكام العالم الإسلامي زعماً تردده وسائل إعلامهم ليل نهار، وهو أن الدمار الاقتصادي الحادث في بلادهم سببه ما كان في الماضي من حروب وصراعات سياسية داخلية أو خارجية، وأن السلام والاستقرار هما أساس التنمية.

          وهذا الزعم يقصد به صرف الأذهان عن السبب الحقيقي للدمار الاقتصادي، كما يقصد به تثبيت حكم هؤلاء الحكام بإيهام الناس أن العمل ضدهم سيؤدي إلى مزيد من الفقر، كما يقصد به أيضاً تمرير مشروعات السلام المحرّمة توسلاً إلى الناس بالوعود بالرخاء المزعوم.

          وبعيداً عن الهدف من وراء هذه المزاعم فإن الواقع والتاريخ يكذبها؛ فالواقع يشهد كيف أن أكثر الدول حرباً تتمتع برخاء اقتصادي، كدولة يهود، وأميركا، ولا سيما دولة يهود فهي في حالة حرب دائمة في الخارج، وفي حالة عدم استقرار في الداخل. وأما التاريخ فنجده يشهد بذلك أيضاً؛ فتاريخ الدولة الإسلامية يؤكد أنها لم تخل من فتن داخلية، وجهاد، وحرب خارجية، ورغم ذلك كانت غالباً على درجة من الغنى كبيرة، وأن أشد حالات فقرها أقل بكثير مما هو في الواقع المعاصر.

          6) توسيع الرقعة المزروعة: من جملة هذه الحلول التنموية الترقيعية، فكرة أن المشكلة هي كثافة السكان مع نقص الموارد وعدم كفاية القوت، وأنها السبب في الخلل، ومن ثم لابد من البحث عن مصدر آخر لزيادة القوت… وأكبر مثال على ذلك ما تقوم به الحكومة المصرية من مشروع توشكى، واستصلاح الصحراء بها، ومد فرع من النيل إليها، بناء على زعم أن الوادي الضيق قد ضاق بأهله وأصبح لا يفي بقوتهم ولابد من الخروج منه.

          والفكرة لا يعاب فيها استصلاح الأرض، ولكن الذي يعاب هو سوء فهم المشكلة الاقتصادية، فالقوت ليس قليلاً، وإنما أكثره يصدر بأبخس الأثمان بغية الحصول على العملة (الصعبة) لشراء التقانة المحتكرة من قبل الغرب. وأن الحل ليس في توشكى ولا في استصلاح صحراء مصر كلها طالما أن البلاد مُسيطَر عليها من قبل الاحتكاريين الاستعماريين في الغرب، ولا مخرج من الأزمة الاقتصادية إلا بنبذ المشروعات الغربية الرأسمالية وتطبيق الإسلام.

          جدير بالذكر أن مشروعاً كهذا في مصر وإن كان غير مدعوم بثقة الناس إلا أنه يستهلك الرأي العام ويصرفه عن التفكير الصحيح.

          هذا بعض ما يدار من مشروعات تنموية في البلدان الإسلامية، وكلها تقوم على الفكرة الرأسمالية التي تعتقد في الندرة النسبية للموارد، وفي أن حاجات الناس أكثر، ومن ثم لابد من زيادة الموارد بغض النظر عن توزيعها.

التنمية الاقتصادية المثلى والحل الصحيح

          حتى لا يكون ما سبق هو نوع من النقد الهدّام أو الرفض للرفض، نسوق هذه الأفكار إلى المخلصين من المسلمين ليعملوا لها من أجل إصلاح الحال الاقتصادي الفاسد في البلاد الإسلامية، بل في العالم بأسره. وهذا الحل يقوم على الأسس التالية:

          1) القيادة الفكرية الإسلامية هي وحدها الصحيحة، وهي وحدها القادرة على حل مشكلات الإنسان بحلول صحيحة منبثقة عن كتاب الله وسنة رسوله وما أرشدا إليه من أدلة شرعية.

          2) النظرية الاقتصادية الإسلامية طُبّقت بنجاح منذ أقام الرسول صلى الله عليه وسلم       الدولة بالمدينة حتى سقطت في مطلع القرن العشرين، وهي وإن أسيء أحياناً تطبيق بعض الأحكام فيها إلا أنها كانت في أكثر الأحوال تتمتع برخاء اقتصادي وصناعي وثقافي يتناسب مع وضع الدولة الأولى في العالم. وأما ما يروى من الإسراف في جمع الضرائب أحياناً من قبل العباسيين والعثمانيين والمماليك فلا يبلغ معشار ما يجبى اليوم من ضرائب في العالم المتقدم أو المتأخر، وإنه وإن كان لا مبرر اليوم للضرائب الباهظة، لكنه بالنسبة لتلك الدولة الإسلامية يبرره ما كانت فيه من حروب مستمرة وفتوحات. كما أنه رغم الضرائب يندر أن تروى أخبار للدولة الإسلامية تشبه جائعي الدول المتقدمة أو المتأخرة. اللهم إلا في حالات المجاعات أو الحروب.

          3) فلسفة النظرية الاقتصادية في الإسلام تقوم على الكفاية أولا للمحتاجين من بيت المال ومن الزكاة، وهذا ليس تشجيعاً على البطالة كما يزعم المرجفون، بل هو حق للفقير، وهو في أساسه حماية للغني من خوف الفقر وتشجيع له على المغامرة واستغلال رأس ماله في المجتمع باطمئنان.

          4) سر التنمية الاقتصادية هو في صناعة الآلات وامتلاك تقانتها، لا في استيرادها واستخدامها في إنتاج السلع، وجدير بالذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم        قد أرسل في فترة مبكرة من الدولة الإسلامية صحابيين يتعلمان صناعة الأسلحة في جرش اليمن.

          وسر القوة التقانية هو في امتلاك التقانة العسكرية؛ لأنها أساس التقانة المدنية وأساس النهضة الاقتصادية بعامة للأسباب التالية:

          أ ـ  أغلى الآلات المستوردة هي الأسلحة، فإذا أنتجناها وفرنا أموالاً طائلة تنفق دون داع في شراء هذه الآلات.

          ب ـ  الأسلحة هي آلات قتال تستخدم في الحرب، أما في حالة السلم فإن أكثر هذه الآلات تستخدم في الحياة المدنية، ومن ثم فإن من يتقدم في هذه يتقدم في تلك بالضرورة. وجدير بالذكر أن أوائل الصناعات المدنية الكبرى في عصرنا هذا قد أنتجت للاستخدام الحربي أولاً، وعلى رأس هذه الصناعات: السيارات، وأجهزة الكمبيوتر، وشبكة الإنترنت.

          ج ـ  الإسلام حرّم أن يسبقنا الكفار في القوة العسكرية بشكل يجعل لهم سلطاناً علينا. (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) (النساء).

          وأوجب الإعداد المستطاع (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) (الأنفال/60) ومن ثم تصبح التقانة العسكرية واجبة في حقنا نحن المسلمين.

          5) امتلاك التقانة لا يحتاج كما يزعم الانهزاميون إلى عقود طويلة، بل هو فقط يحتاج إلى تمويل، والمال موجود عند المسلمين رغم الفقر المشاهَد، وذلك لأن المشكلة هي مجرد سوء توزيع؛ كما أن أخذ المال من المسلمين لإقامة واجب شرعي كهذا يعتبر أخذاً مشروعاً بشرط أن يؤخذ من الأغنياء. ويجدر بالذكر أن المسلمين إذا دعوا إلى الإنفاق في سبيل الله وإلى امتلاك تكنولوجيا عسكرية فإنهم يبذلون أموالهم عن رغبة وسعادة، وليس أدل على ذلك من تظاهرات الفرحة التي قام بها الباكستانيون عند إنتاج القنبلة النووية واستعدادهم لتحمل الفقر في سبيل ذلك.

          6) التقدم الاقتصادي يستلزم تطبيق النظام الاقتصادي في الإسلام كله باعتباره أحكاماً من عند اللّه، وهذا بدوره يستلزم تطبيق كافة أحكام الإسلام وعلى رأسها نظام الخـلافة.

          7) لابد من نبذ الأفكار والمشروعات الرأسمالية الاستعمارية، وطرد النفوذ الغربي من بلادنا، وعدم اللهاث وراء المعالجات المحرّمة بحجة المصلحة والضرورة.

          8) الخطوة العملية الأولى في كل هذا هي العمل مع التكتل الصحيح لإقامة دولة الخـلافة الراشدة لتطبيق أحكام الإسلام في الحكم والاقتصاد والاجتماع وغيرها…

          (وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذين ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) (النور)

أبو شريف ـ مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *