العدد 174 -

السنة الخامسة عشرة رجب 1422هـ – تشرين الأول2001م

مع القرآن الكريم: (ءامنتم به قبل أن ءاذن لكم)

         قال الله سبحانه: (وألقى السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون * قال فرعون آمنتم به قبل أن ءاذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون) [الأعراف].

         هذه آيات من كتاب الله تبين واقع الطغاة على مر العصور، مهما اختلفت أسماؤهم وأزمانهم وأماكنهم، فهم يتشابهون في تكميم الأفواه، ومراقبة كلمة الحق، ملزمين أصحابها أن يأخذوا إذناً (ترخيصاً) منهم لكي يقولوها، بل ترخيصاً ليؤمنوا، ومن ثم ملاحقة الداعين إلى الله ووصمهم بالمؤامرة والتخريب والإرهاب.

         ولنتدبر هذه الآيات العظيمة:

         إن الله سبحانه قد بعث موسى عليه السلام إلى فرعون وملئه، يدعوهم إلى الله رب العالمين، فكبر على فرعون الطاغية أن يكون هناك إله سواه، وسأل موسى عن آية تثبت دعواه:(قال إن كنت جئت بآية فات بها إن كنت من الصادقين) (الأعراف) وظن فرعون أن ليس هناك من آية تثبت دعوى موسى عليه السلام، لكن ظنه خاب وجاءه موسى بآيات ربه، فانقلبت عصاه حية تسعى، وظهرت يده، بعد أن أخرجها من جيبه، بيضاء متوهجة ذات شعاع كشعاع الشمس، فبدا لفرعون أن ذلك سحر، وجمع السحرة لإبطال حجة موسى، وشاء الله أن يكون لقاء السحرة مع موسى في يوم عيد لقوم فرعون يجتمعون فيه (قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى) (طه) وذلك لكي يخزي الله فرعون على ملأ من الناس.

         وكان اللقاء وظهرت آية موسى عليه السلام، وبطل سحر السحرة، وأدركوا أن الأمر حق وأن ما جاء به موسى ليس سحراً بل هو آية من الله على صدق موسى وأنه رسول من رب العالمين، فآمن السحرة وخروا سجداً وقالوا (قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون ) (الأعراف).

         وهنا كانت الطامة لفرعون، والصاعقة الماحقة، فإن السحرة الذين أحضرهم فرعون لإدحاض حجة موسى عليه السلام فيكونوا شهود نفي على صدق موسى، أصبحوا بعدما تبين لهم الحق، أصبحوا شهود إثبات على صدق موسى وأنه رسول من رب العالمين، وأن ما يقوله هو الحق، وليس بعد الحق إلا الضلال.

         لكن فرعون لم يقبل نتيجة اللقاء الذي اقترحه هو رغم شهود الملإ من الناس بل عاند وكابر، وعاد عن القول الذي قال، والرهان الذي زعم، ثم أرغى وأزبد فكيف يؤمن السحرة دون إذن منه؟! ( قال فرعون آمنتم به قبل أن ءاذن لكم) إنه يريدهم أن يأخذوا (ترخيصاً) منه ليؤمنوا، تماماً كما يفعل طغاة اليوم بأن من يريد الدعوة إلى الإسلام فعليه أن يحصل على (ترخيص) منهم بشروطهم، عميت بصائرهم قبل أن تعمى أبصارهم، قاتلهم الله أنى يؤفكون.

         بعد ذلك اتهم فرعون السحرة بممالأة موسى فهو بزعم فرعون كبيرهم الذي علمهم السحر (إنه لكبيركم الذي علمكم السحر) (طه/71)، ثم كانت الفرية التي افتراها بأن السحرة وموسى عليه السلام تآمروا على البلد ودبروا للناس شراً فاتفقوا على إرهاب الناس وتخريب البلد ليضطروا أهلها للهروب منها ( إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها) .

         إنها المقولة نفسها التي يرددها فراعنة هذا الزمان، فهم يصفون المتمسكين بدينهم، الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويأخذون على يد الظالم، ويعملون على تطبيق أحكام الله في الأرض، يصفون هؤلاء المؤمنين الصادقين الحريصين على أمن الناس ورعايتهم يصفونهم بالتخريب والإرهاب والإرهابيين، وبث الرعب بين الأهلين.

         إن الدعوة إلى الله ثقيلة على أعداء الله في الماضي وفي الحاضر وإلى أن تقوم الساعة فوقع كلمة الحق على أسماعهم كوقع السيف على رقابهم، وإن يوماً أسود مظلماً ينتظرهم كما وقع لأسلافهم من قبل.

         وقبل أن أختم هذه العجالة أجد أن من المهم التذكير بالانقلاب الذي حدث في موقف السحرة، فقد كان مبلغ همهم في بداية الأمر، عندما استدعاهم فرعون، أن يسألوه عن الأجر الذي سينالونه منه إن هم أبطلوا حجة موسى فوعدهم بالأجر وتقريبهم منه (إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم لمن المقربين) (الأعراف).

         هذا كان واقع حالهم وهم على كفرهم، فلما آمنوا، وصفت نفوسهم، واطمأنت قلوبهم، لم يخشوا تهديد فرعون وبطشه، وهو قد هددهم بأقسى العذاب (فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل) (طه/71) ولكن هذا التهديد لم يزدهم إلا قوة وعظمة، فكان جوابهم على تهديد فرعون عظيماً كما كان إيمانهم عظيماً، قالوا (فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) (طه) أي أن الدنيا هانت أمامهم وأصبحت كلها لا تساوي شيئاً في جنب أعظم الجهاد الذي نالوه.

         هؤلاء الذين كان أول سؤالهم، وهم كفار، كم هو الأجر الذي سيأخذون، وكانوا لا يطمعون في أكثر من مكافأة لا تساوي شيئاً بالنسبة إلى الدنيا كلها، هم الآن، بعد أن آمنوا، تهون الدنيا كلها، بنعيمها ومتعها، في أعينهم ولا يتطلعون لشيء منها بل يغدون ويروحون ببصرهم إلى رضوان الله وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.

         هذا هو الأثر الحي للإيمان في النفوس، وهكذا يجب أن يكون عند حملة الإسلام العظيم، يشدهم على الدوام إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم     ، فيكونوا أثقل من الراسيات أمام الأعداء، تهون الدنيا عندهم في سبيل الله، ولا يضرهم أن يصفهم أعداؤهم بالإرهاب والإرهابيين والتخريب فهي فرية قديمة جديدة كان يطلقها فراعنة الماضي كما يطلقها فراعنة اليوم كدليل على إفلاسهم وسقوطهم وهوان ما يزعمون من حجة لهم أمام حجة المؤمني (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين) (الأنفال) .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *