العدد 172 -

السنة الخامسة عشرة جمادى الأولى 1422هـ – آب2001 م

الانتعـاش الاقتصـادي في ظـل الإسـلام (1)

لقد ابتلي بعض المسلمين في هذا الزمان بعدم الثقة بدينهم، فنظروا إليه على اعتبار أنه أحكام خيالية مستحيلة التطبيق، وذلك لبعد الشقة بينهم وبين الإسلام العملي، أي بينهم وبين دولة الإسلام، ولعدم تعمقهم في فكر الإسلام وأحكامه العملية، وكذلك لانبهارهم بمدنية الغرب المتمثلة بثورته الصناعية، وتقدمها العلمي في جميع المجالات.

وأكثر المسائل التي نظر إليها هؤلاء البعض بالخيالية، وعدم الثقة هي أحكام النظام الاقتصادي، ونظام الحكم.

وفي هذا البحث نبرز مسألة مهمة من مسائل الاقتصاد، نضع فيها النقاط على الحروف المبهمة عند هؤلاء، لإرشادهم إلى سموّ هذا الدين، وسموّ أحكامه العملية واستقامتها، وشمولها، وأن غيره من مبادئ وأفكار ـ متعلقة بالاقتصاد أو غيره ـ إنما هو اعوجاج وانحراف، إذا ما قورنت باستقامة الإسلام.

وكلي أمل في أن يساعد هذا البحث في إعادة الثقة بأحكام هذا الدين المستقيم، ويدفع هؤلاء الصنف من المسلمين للعض على أحكام دينهم بالنواجذ، ونبذ ما سواها من فساد الغرب، وسقمه، وزيفه، ويدفعهم كذلك للعمل الجاد الدؤوب لإعادة الإسلام إلى الحياة العملية، في الدولة والمجتمع، في بلاد المسلمين أولاً، وفي البشرية بشكل عام.

وبداية نقول: كثيراً ما نقرأ في كتب التاريخ الإسلامي، أو في كتب الحديث، عن وضع معين عاشه، أو سيعيشه المسلمون في المستقبل، هذا الوضع هو فيض المال وكثرته لدرجة أنه يوزّع دون عدد، أو لا يجد خليفة المسلمين من يأخذه فيجعله في مجالات أخرى من أوجه الخير.

أما المثال الأول، وهو فيض المال وكثرته وحثيه حثياً من قبل خليفة المسلمين، فقد ورد في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم      : «يكون في آخر أمتي خليفة يحثو المال حثياً لا يعدّه عدداً، قال: (أي الـجُرَيْرِي)، قلت لأبي نضرة، وأبي العلاء: أتريان أنه عمر بن عبد العزيز؟ فقالا: لا.»(1).

وذكر ابن كثير في كتابه (النهاية في الفتن والملاحم) عن أحمد، قال أبو سعيد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول: «إن من أمرائكم أميراً يحثو المال حثواً، ولا يعده عداً، يأتيه الرجل فيسأله فيقول: خذ فيبسط ثوبه فيحثو فيه، وبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم    ملحفة “غليظة” كانت عليه يحكي صُنع الرجل، ثم جمع عليه أكتافها، قال: فيأخذه ثم ينطلق»(2).

أما المثال الثاني، وهو عدم وجود مستحق للمال من الفقراء، فإن ذلك قد حصل في أرض الواقع في تاريخ دولة الإسلام في عهد الخليفة (عمر بن عبد العزيز)، فقد حدّث يحيى بن سعيد قال: بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات أفريقية، فاقتضيتها وطلبت فقراء نعطيها لهم، فلم نجد فيها فقيراً، ولم نجد من يأخذها، قد أغنى عمر الناس، فاشتريت رقاباً فأعتقتهم وولاؤهم للمسلمين.

وحدّث رجل من ولد زيد بن الخطاب، قال: إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفاً، فذلك ثلاثون شهراً، فما مات حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم، فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس(3).

وذكر محمد شاكر في موسوعة التاريخ الإسلامي، قال: [… وقد عمل بإصلاحاته التي عمل فيها طول مدة خلافته أن يقضي على الفقر والحاجة، ولم يعدْلهما وجود، ولم يبق من يأخذ من أموال الزكاة. وقد رفع رواتب عماله حتى بلغت ثلاثماية دينار، ولما سئل عن ذلك أجاب: أردت أن أغنيهم عن الخيانة](4).

إن هذه الأمثلة التي ذكرنا، قد يستغربها من لا يعرف فكر الإسلام، وأحكامه العمليّة، أما من يعرف هذا الفكر وأحكامه العمليّة التي تعالج شؤون الحياة لا يستغرب شيئاً ممّا ذكر، بل إنه يصدّق ذلك تصديقاً جازماً ويتصوّر حصوله في المستقبل عندما تقوم دولة الإسلام بإذن الله تعالى.

إن الناظر المدقق في أحكام النظام الاقتصادي الإسلامي، يرى أنها ليس فقط تعالج الفقر، وتقضي عليه بل إنها ترفع مستوى الحياة في مجتمع المسلمين إلى حدّ الرفاه، وبحبوحة العيش، ولا غرابة في ذلك ولا عجب، فهي أحكام تفتح الباب على مصراعيه أمام جميع الناس دون استثناء لاستغلال الثروة بأقصى طاقة ممكنة، وتعالج مسألة توزيع الثروة بين الناس بالعدل، وكذلك تحارب جميع أنواع الفساد التي يمكن أن تؤدي إلى خلل في المجتمع وفي حياته الاقتصادية، مثل الربا، والكنـز، والاحتكار، والغش، والغبن، وغير ذلك من مفاسد.

ونبدأ أولاً بالعقيدة الصحيحة التي انبثقت منها أحكام هذا النظام الاقتصادي، لنرى أثرها في موضوع الرفاه.

إن العقيدة الإسلامية هي القاعدة العريضة التي انبثقت منها جميع أحكام الإسلام العملية، لذلك فإنها تؤثر تأثيراً قوياً في هذه الأحكام، وتمدّها باستمرارية الوجود تماماً كما تمد جذور الشجرة جذعها وسيقانها وأوراقها وثمارها باستمرارية الحياة.

فالخوف من الله تعالى، والطمع في مرضاته، وفي جنته، تصوّرات راسخة في قلب المسلم وعقله، تدفعه باستمرار للبذل والعطاء، وتدفعه لخدمة مجتمعه، وتدفعه كذلك للعمل الدؤوب وعدم الركون إلى الكسل والاتكالية في الحياة.

وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة تدفع المسلم للبذل والعطاء، والسخاء، والإيثار وربطت كل ذلك بالجزاء الأخرويّ. قال تعالى: (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) الحشر . وقال عليه السلام: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه…» (رواه مسلم).

وهذا التصوّر الإيماني له تأثير إيجابي في رفاه المجتمع، إذ يجعل الناس دائمي التفقد لبعضهم حرصاً على الثواب، ويجعل المجتمع مجتمعاً متكافلاً، يسدّ فيه الأغنياء ثغرات الفقراء بشكل دائم.

ووردت كذلك آيات وأحاديث تحث المسلم على العمل، والإنتاج، وعدم القعود عن الكسب، ليبقى عنصراً فعالاً منتجاً في المجتمع، لا عنصراً اتكالياً كسولاً خاملاً.

قال تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) (التوبة). والعمل هنا هو كلّ عمل فيه ثواب، في خدمة المسلمين ورفعة مجتمعهم، ومنه العمل على قوته الاقتصاديّة.

وقال عليه السلام: «ما أكل أحد طعاماً خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده» (رواه أحمد). وقال كذلك: «إذا قامت الساعة وبيد أحد فسيلة فليغرسها» (ابن عدي). وقال: «من بات كالاً من طلب الحلال بات مغفوراً له» (صححه ابن عساكر عن أنس).

فهذه الآيات والأحاديث فيها حث على الإنتاج، والعمل، وبالتالي زيادة حجم الثروة في المجتمع، وكل ذلك مؤدّاه أن يزيد من مستوى الرفاه في المجتمع، لأنه بزيادة الإنتاج مع وجود العدل في النظام، فإن ذلك حتماً سيرفع مستوى المعيشة والرفاه في المجتمع.

إن هذه النظرة لا توجد إلا في نظام الإسلام العادل، فلا توجد في النظام الرأسمالي الغربي، فالرأسمالي الذي يملك المال الكثير يركن إلى هذا المال، وإلى الفوائد الربويّة التي يجنيها على حساب الطبقة الكادحة، على حساب شقائها وتعبها، ولا يهمه أصبح الناس فقراء أم أغنياء، زادت الثروة في المجتمع أم نقصت، ولا يهمه أكان أخوه، أو جاره محتاجاً أم غير محتاج، بل كل الذي يهمّه، وتصبو نفسه إليه أن يتقاضى في آخر الشهر، أو العام ربا المال المودع في البنوك، ثم يقضي عمره ووقته في الحفلات الماجنة والمنتجعات والرحلات وغير ذلك.

وكما يطمع المسلم بالإنفاق، والعمل والبذل والعطاء في مرضاته سبحانه ونيل جنّته، كذلك يخاف من عذابه سبحانه وغضبه وناره، فيجتنب كل ما من شأنه أن يؤدي إلى ذلك، فيجتنب السرف والتبذير، يقول تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) (الفرقان) وقال: (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا) (الإسراء).

والإسراف والتبذير هو الإنفاق في المحرّم، إي الإنفاق في أي أمر نهى الله عنه، كالخمر، والخنـزير، أو القمار، أو غير ذلك، كما حرم الإسلام الترف قال تعالى: (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال @ في سموم وحميم @ وظل من يحموم @ لا بارد ولا كريم @ إنهم كانوا قبل ذلك مترفين) (الواقعة) والترف هو الغطرسة والبطر في التنعم، أي الفساد الناتج عن كثرة الأموال فحرم الإسلام ذلك أشد التحريم.

فهذا كله حرام، نهى الشارع عنه سواء حصل من الأفراد أو من الدول، وقد أمر الإسلام بالمحافظة على الثروة والمال حتى وإن كان قليلاً، ذكر القرطبي في تفسيره قال: (ولا تبذر) أي لا تسرف في غير حقّ. قال الشافعي t: التبذير إنفاق المال في غير حقه، ولا تبذير في عمل الخير… ثم تابع: من أنفق ماله في الشهوات زائداً على قدر الحاجات وعرضه بذلك للنفاذ فهو مبذر(5).

وقد نهى الإسلام عن إضاعة المال وإتلافه أي السفه في إنفاقه، وحث على إنفاقه فيما فيه نفع وفائدة للأمة وليس فيما فيه ضرر وأذىً.

أما تأثير ذلك في رفاه المجتمع، فإن المال إذا سدّت منافذ السرف والترف أمامه، فإنه حتماً سيتجه الوجهة الصحيحة، فبدل أن يهدر من قبل أشخاص معيّنين دونما فائدة ترجى، يذهب للفقراء، وفي سبل نفع الناس، وبدل أن يُرمى في مجمّع النفايات يستفيد منه أفراد المجتمع، وكذلك بدل أن تهدر آلاف الأطنان من المواد الغذائية في البحار يستفيد منها المسلمون الجياع في بقاع الأرض، أو يستفيد منها الجياع في الدول الرأسمالية نفسها.

والحقيقة أن هذه المسألة ـ مسألة المحافظة على المال الضائع ـ قد ينظر إليها على أنها بسيطة ولا تؤثر في اقتصاد المجتمع، ولكن الحقيقة أنها كبيرة وتؤثر كثيراً، وخاصة إذا نظرنا إليها من زاوية مجتمع يعد الملايين أو مئات الملايين، فكم من ملايين الأموال تتلف كل يوم إذا أتلف الإنسان الواحد قدر درهم، وكم من الملايين توفر من ثروة المجتمع، وتذهب في سبل نفعه لو أنها وضعت في مكانها الشرعي وحوفظ عليها؟!

فلو نظرنا إلى بعض المجتمعات في بلاد المسلمين لرأينا أن هناك المليارات تهدر في غير موضعها الصحيح، فلا هم يستفيدون منها ولا غيرهم كذلك، ولرأينا كذلك بعض الفنادق الفارهة من فئة الخمسة نجوم أو غير ذلك، ترمي من المواد الغذائية كميات تشبع آلاف الجياع، وترى في نفس الوقت كثيراً من الفقراء يعيشون على الحاويات التي توضع بجانب هذه الفنادق أو العمارات أو المنازل الفارهة.

فلماذا يحصل هذا المنكر الكبير، ولماذا  تذهب هذه الأموال هدراً، وعلى من يعود ضرر ذلك؟!

أما على مستوى الدول فترى دولة مثل كندا تفضّل أن ترمي فائض القمح في البحر على أن تعطيه للفقراء في السودان، أو الصومال، أو غيرها من البلاد.

إن هذا كله يعتبر إهداراً لثروات الأمة وأموالها، والعكس يحصل لو أن الأفراد والمجتمعات والدول، حافظت على هذه الثروة في مكانها الصحيح، حيث تصب في دائرة الرفاهية والانتعاش، وسدّ الخلل والعوز، والفقر عند الأفراد في المجتمعات والدول .

[يتبع]

أبو المعتصم ـ بيت المقدس

ـــــــــــــــــــ

 (1)  صحيح مسلم بشرح النووي (38/18).

 (2)  النهاية في الفتن والملاحم. ابن كثير (57/1).

 (3)  العقد الفريد (4/436). الخليفة الزاهد ــ عبد العزيز الأهل (204).

 (4)  التاريخ الإسلامي. محمود شاكر (4/221).

 (5)  القرطبي (10/248).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *