العدد 171 -

السنة الخامسة عشرة ربيع الثاني 1422هـ – تموز2001م

هل تنـزل الحاجة منـزلة الضرورة ؟

          قال في العين الضرورة اسم لمصدر الاضطرار، قال ابن الأثير: [والمضطر مفتعل من الضر، وأصله مضترِرٌ فأدغمت الراء وقلبت التاء طاء لأجل الضاد، ومنه حديث ابن عمر: (لا تبتع من مضطر شيئاً) حمله أبو عبيد على المكره، وأنكر حمله على المحتاج]. وقال الجوهري في الصحاح: [وقد اضطر إلى الشيء أي ألجئ إليه]، وتابعه ابن منظور في اللسان، ونقل أي ابن منظور عن الليث: [(فمن اضطر غير باغ ولا عاد)  أي فمن ألجئ إلى أكل الميتة وما حرم، وضُيق عليه الأمر بالجوع]. وقال في القاموس: [واضطره إليه أحوجه وألجأه].

          فيمكن القول إن الضرورة هي الحاجة الملجئة بخلاف غير الملجئة، التي هي بمعنى المأربة أو الأرب. والإلجاء يكون بسببين: الإكراه والمخمصة. فالإكراه الملجئ ضرورة والجوع الملجئ ضرورة. أما الإكراه غير الملجئ والجوع غير الملجئ فليسا بضرورة. ولا يكون أحدهما ملجِئاً إلا إذا ظن المُلجَأ أنه ستتلف نفسه أو يتلف عضو منه. ولا يشترط اليقين والقطع إذ يكفي أن يظن الهلاك أو هلاك العضو فعندها تحصل الرخصة في ارتكاب الحرام.

          ودليل الإكراه قوله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) أي يرخص له التلفظ بالكفر.

          أما دليل المخمصة أو الجوع الملجئ فقوله تعالى: (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) ، وقوله: (فمن اضطر في مخمصةغير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم) ، وقوله: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم)  وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم       حدود المخمصة في حديث جابر بن سمرة عند أبي داود قال: «إن رجلاً نزل الحرة ومعه أهله وولده فقال رجل إن ناقة لي ضلت فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها فلم يجد صاحبها، فمرضت، فقالت امرأته انحرها، فأبى، فنفقت، فقالت اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها ونأكله، فقال حتى أسال رسول الله صلى الله عليه وسلم        ، فأتاه فسأله، فقال هل عندك غنى يغنيك؟ قال لا، قال فكلوها. قال فجاء صاحبها فأخبره الخبر فقال هلا كنت نحرتها؟ قال استحييت منك» قال الشوكاني ليس في إسناده مطعن. وفي حديث أبي واقد الليثي عند الحاكم وصححه: «قال: قلت يا رسول الله إنا بأرض مخمصة، فما يحل لنا من الميتة؟ قال: إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفوا فشأنكم بها» وفي رواية عند أحمد والطبراني والبيهقي: «ولم تحتفئوا بقلاً». فمن لم يجد الصبوح أو الغبوق أو ما يحتفئ من البقل، فقد حلت له الميتة.

          فالضرورة مقاربة هلاك النفس أو العضو، والحاجة ما دون ذلك مما يصاحبه الجهد والمشقة، إلا أنها لا تقارب الهلاك. فهل تنـزل الحاجة منـزلة الضرورة بمعنى أنها تبيح الحرام؟

          إن إنزال الحاجة منـزلة الضرورة خلط بين واقعين مختلفين، تنبني عليهما أحكام مختلفة تحل الحرام، فقد يقال إن الحاجة تبيح ما كان حراماً كما أباحته الضرورة. فالمحتاج لشراء بيت وهو قادر على سكنى بيت بالأجرة يباح له أن يأخذ قرضاً بالربا لشراء البيت، والمحتاج لدفع أقساط جامعية لأولاده يباح له الربا، والمحتاج للعمل في المحكمة الكلية في القدس أو بئر السبع يباح له أن يأخذ الجنسية الإسرائيلية لأنهم يشترطون ذلك، والمحتاج للعمل في محل لبيع اللحوم ومنها لحم الخنـزير يباح له ذلك لمجرد الحاجة، والمحتاجة للعمل أو الدراسة في مكان يشترط كشف الرأس يباح لها ذلك، والمحتاج للعمل في أجهزة المخابرات يباح له ذلك، والمحتاج للعمل في البنوك له ذلك ولو كان عمله كتابة المعاملات الربوية وهكذا.

          هذه حاجات فردية وهناك حاجات عامة، فإذا احتاجت الأمة إلى إنزال قوات أميركية لحمايتها من روسيا فلها ذلك، وإن احتاجت لبناء اقتصادها بالقروض فلها ذلك أو بإنشاء البنوك وشركات المساهمة فلها ذلك. أو الاحتكام إلى لاهاي فلها ذلك أو الانتماء إلى الأمم المتحدة فلها ذلك، أو تنفيذ قرارات مجلس الأمن فلها ذلك، فكلها حاجات عامة.

          والذي يقدم على فعل الحرام يقدم عليه لإشباع جوعة أو غريزة، وبالتالي فإنه لا تبقى محرمات على الإطلاق إذا قلنا إن الحاجة تنـزل منـزلة الضرورة لأن كل هذه التصرفات الحرام إنما هي إشباع لحاجات، لأن القائلين بهذا الرأي يطبقون قاعدة نصها: [الحاجة تنـزل منـزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة] ويستدلون على ذلك بما يلي:

  l     مشروعية الإجارة للحاجة مع أنها عقد على منفعة معدومة.

  l     مشروعية الجعالة للحاجة مع أنها عقد على منفعة مجهولة.

  l     مشروعية الحوالة للحاجة مع أنها بيع دين بدين.

  l     مشروعية ضمان الدرك للحاجة مع أن الثمن ليس ثابتاً في ذمة البائع.

  l     مشروعية النظر إلى المرأة عند الاصطلاح أو التعامل للحاجة.

  l     مشروعية تضبيب الإناء بالفضة للحاجة.

  l     مشروعية الأكل من الغنيمة في دار الحرب للحاجة.

  l     مشروعية السلم مع أنه بيع معدوم دفعاً لحاجة المفاليس.

  l     مشروعية الاستصناع للحاجة مع أنه عقد على معدوم.

          ومعنى الحاجة في هذه العقود والأفعال أن الأصل فيها الحرمة ثم أبيحت للحاجة، وهذا الفهم خطأ لما يلي:

          إن قياس المنفعة المعدومة على العين المعدومة قياس خطأ لأنه قياس حكم على حكم وليس أحد الحكمين بأولى من الآخر في أن يكون أصلاً والآخر فرعاً، فالشارع حرم بيع المعدوم عندما نهى عن بيع حبل الحبلة وبيع ما ليس عندك في الوقت الذي أباح فيه الإجارة رغم أن المنفعة عند العقد تكون معدومة إلا أنها ممكنة الاستيفاء، فلماذا لا نقيس بيع المعدوم على إجارة المعدوم، فالذي جعل البيع أصلاً يقيس عليه لا يستطيع أن يمنع غيره من اعتبار الإجارة أصلاً فيبيح بيع المعدوم قياساً على الإجارة، وهذا كلام خطأ لأنه لا يقاس حكم على حكم، وإنما يلحق الفرع بالأصل في حكمه لوجود العلة الباعثة على التشريع. فلا يقال إن الأصل في الإجارة أنها حرام قياساً على البيع وأبيحت للحاجة، لا يقال ذلك لأنه قياس حكم على حكم.

          هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن القياس على الإجارة كقياس الاقتراض بربا على الإجارة بجامع الحاجة، أي قياس الاقتراض للحاجة على الإجارة للحاجة، هذا القياس خطأ، لأن أدلة الإجارة لا يوجد فيها تعليل مطلقاً فوق أن تكون الحاجة هي العلة، قال تعالى: (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) ، قال عليه الصلاة والسلام: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه»، وقال: «ومن استأجر أجيراً فليعلمه أجره»، وقال: «… ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره»، كما استأجر صلى الله عليه وسلم      عبد الله بن أريقط الليثي من الأزد دليلاً إلى المدينة. فأين التعليل بالحاجة في كل نصوص الإجارة، إلا أن توضع العلة من العقل مباشرة فيكون العقل مشرعاً ويؤدي بالتالي إلى التحلل من الأحكام، فإذا قرر العقل أننا بحاجة إلى تنظيم النسل أبحنا التعقيم وهكذا.

          وأما قياس إباحة العقود والتصرفات والأفعال المحرمة على الجعالة للحاجة فهو قياس خطأ أيضاً، إذ دليل إباحتها ما أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم      في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء، لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم نعم والله إني لأُرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، ما أنا براقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ: (الحمد لله رب العالمين)  فكأنما نشط من عقال فانطلق يمشي وما به قَلَبَه، قال فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم إقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم      فنذكر له الذي كان،  فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم       فذكروا له فقال: وما يدريك أنها رقية؟ ثم قال: قد أصبتم إقسموا واضربوا لي معكم سهماً. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم       .

          هذا هو دليل إباحة الجعالة، فمن أين فهم أنها إنما أبيحت للحاجة؟‍! والرهط لم يذبحوا ولم يأكلوا من القطيع شيئاً!! ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم        قال: واضربوا لي معكم سهماً،  فإن كان الرهط محتاجين لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم  كذلك، ولا يقال إنهم ملكوا القطيع بالجعالة وملك منه الرسول صلى الله عليه وسلم    بالهدية، لا يقال ذلك لأنه قال واضربوا لي معكم سهماً، فهو إنما ملك بنفس سبب ملكهم لا بسبب آخر.

          فإن قيل إن الجعالة عقد على مجهول، والجهالة آتية من كون المجعول له يمكن أن يبذل جهداً كبيراً أو قليلاً لإنجاز المنفعة، وهذا عقد على جهد مجهول الأصل فيه التحريم إلا أنه أبيح للحاجة، أجيب بأن العقد على مجهول ليس ممنوعاً بإطلاق، ألا ترى أن العقد على جهد الأجير الخاص مجهول، إذ أنه قد يعمل وقد لا يعمل، وقد يبذل جهداً كبيراً وقد يبذل جهداً قليلاً، ومع ذلك يستحق أجره كاملاً، والعقد صحيح. بينما عقد البيع على مجهول باطل، وضمان المجهول باطل، فأي هذه العقود هو الأصل؟ بيع المجهول أم ضمان المجهول أم الإجارة الخاصة على جهد مجهول أم الجعالة على جهد مجهول؟ فالأولان باطلان والثانيان جائزان، كل بدليله، وليس أحد هذه العقود أولى من غيره بأن يكون أصلاً، وهو من قبيل قياس حكم على آخر، وما قيل آنفاً في الإجارة على المعدوم يقال هنا.

          وينبغي التنبيه إلى أن هناك فرقاً بين المجعول له والأجير الخاص، فالأول لا يستحق الجعل إلا بإنجاز المنفعة المعقود عليها فعلاً، أما الثاني فيكفيه الانقطاع للعمل ولو لم ينجز شيئاً ولم يبذل جهداً في حال لم يطلب منه.

          أما القول بأن الحوالة في الأصل هي بيع دين بدين وهو حرام إلا أنها أبيحت للحاجة فقول خطأ، إذ أنها ليست بيعاً وإنما هي نقل حق من ذمة إلى ذمة، ودليل مشروعيتها قوله عليه الصلاة والسلام: «مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع»، وهي فوق كونها ليست بيعاً، وليست استثناءً من عموم تحريم الدين بالدين، فإن دليلها ليس فيه ما يستفاد منه أنه علة، لا الحاجة ولا غيرها، فكيف يقال إنها أبيحت للحاجة؟!

          أما ضمان الدرك فهو من الضمان المباح أصلاً، إذ الضمان ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق، ويشترط في الحق أن يكون واجباً أو يؤول إلى الوجوب، وضمان الدرك من النوع الثاني أي الذي يؤول إلى الوجوب، فالضامن يضمن الثمن الموجود في الصك عند استحقاق المبيع لسبب من الأسباب كأن يكون المبيع قد سبق بيعه أو ظهر فيه عيب أو ثبت نقص في وزنه أو مساحته، فإن الثمن في هذه الحالة يثبت في ذمة الضامن. وعليه فإن ضمان الدرك أو العهدة جائز بأدلة الضمان، إلا أنه ليس من النوع الواجب الثابت في الذمة وإنما هو من النوع الذي يؤول إلى الوجوب.

          فإن قيل إنه ضمان لحق لم يثبت في ذمة البائع فصحيح إلا أنه آيل للوجوب كمن يقول لآخر تزوج فلانة وأنا أضمن المهر صح الضمان لأنه يجب بالزواج. أما إن كان الضمان لا في حق واجب ولا آيلاً للوجوب فإنه لا يصح وذلك كمن يقول لآخر: شارك فلاناً وأنا أضمن لك عدم فسخه للشركة، مع أن الشركة عقد جائز، يجوز للشريك أن يفسخه متى شاء فلا معنى للضمان.

          والذي يهمنا ليس صحة نقل الإجماع ولا جواز ضمان الدرك أو بطلانه بل الذي يعنينا في هذا المقام هو الاستدلال بجوازه للحاجة مع أن الأصل بطلانه على رأي من يجيزه فيقاس عليه إباحة بعض المحرمات للحاجة. فهل أبيح ضمان الدرك للحاجة؟ أي هل الحاجة هي الباعث على تشريعه حتى يصح القياس عليه؟ والصحيح أن أدلة جوازه السنة والإجماع كقوله عليه الصلاة والسلام: «والزعيم غارم» فعموم الزعيم يشمل من ضمن حقاً واجباً ومن ضمن حقاً سيجب، وضمان الحق الذي سيجب هو ضمان الدرك وليس فيه التعليل بالحاجة لا منطوقاً ولا مفهوماً، وكذلك الإجماع المنقول، وكذلك حديث أبي قتادة. فمن أين جيء بالتعليل بالحاجة؟

          أما مسألة النظر للأجنبية في الصلح والمعاملات ونحوها فإن النظر إلى وجه المرأة وكفيها مباح لقوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه» فمن أين فهم أن النظر أبيح للحاجة؟ أي أن الحاجة كانت هي الباعث على الحكم، وبالتالي يجوز القياس؟ إلا أن الرجال والنساء مأمورون بالغض من البصر، وفي حديث جابر عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم      عندما وعظ النساء في يوم عيد قام متوكئاً على بلال فوعظهن يقول جابر: فقامت امرأة من وَسْط النساء سفعاء الخدين، فإذا كان جابر قد رأى سفع خديها يكون الرسول صلى الله عليه وسلم        وبلال قد رأياه، ما يدل على إباحة النظر إلى وجه المرأة. فإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم نظر لحاجة الوعظ والتعليم فما هي الحاجة في نظر جابر. فالنظر إلى وجه المرأة وكفيها جائز، ولا تعليل في الأدلة التي تبيح ذلك، وهو كافٍ في الصلح وإجراء المعاملات. إلا أننا مأمورون بالغض من البصر، أي أن لا نملأ أبصارنا عند النظر ولا نصوبه ونركزه.

          وخلاصة القول أن القائل بهذه القاعدة أي أن الحاجة تنـزل منـزلة الضرورة يحتج بالنظر إلى المرأة ويقول إنما أبيح للحاجة مع أن الأصل تحريمه، وهذا ليس صحيحاً فإن الأصل في النظر إلى وجه المرأة وكفيها مباح بالأدلة المذكورة وغيرها، وليس الأصل التحريم واستثني في بعض الحالات فأبيح للحاجة.

          أما تضبيب الإناء بالفضة فجائز لما رواه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم          انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة، وليس فيه تعليل بالحاجة ولا يفهم منه التعليل مطلقاً، على أننا منهيون عن الشرب في آنية الذهب والفضة، والقدح المضبب لا يسمى آنية ذهب ولا فضة، فإن كان من نحاس أو خشب وضبب بفضة فإنه لا يسمى إناء من فضة بل يبقى من خشب أو من نحاس ولا تنطبق عليه الأحاديث التي تنهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة، والتعليل بالحاجة يعني أن الشرب في المضبب الأصل فيه أنه حرام كآنية الذهب والفضة وأبيح للحاجة، وليس الأمر كذلك، وحتى لو قيل إنه حلال أصلاً وإنه معلل بالحاجة فإن هذا التعليل غير موجود في الحديث.

          وأما مسألة الأكل من الغنيمة في دار الحرب وأنه إنما جاز للحاجة فغير صحيح، ذلك أن الأدلة الواردة في جوازه لا يفهم منها التعليل بالحاجة، فمنها ما أخرجه البخاري عن ابن عمر قال: كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه. ومنها ما أخرجه مسلم وغيره عن عبد الله بن المغفل قال: أصبت جراباً من شحم يوم خيبر فالتزمته فقلت لا أعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتسماً. فأين التعليل بالحاجة في هذين الدليلين، على أنه لو كانت الحاجة علة لما نهى صلى الله عليه وسلم        أحد الصحابة عن أخذ الكبَّة من الخيط ولما أمر بأداء الخيط والمخيط أي الإبرة والخيط لأن الحاجة دائماً في الغزو قائمة لهما، فهذا تعليل مردود بالنصوص التي تأمر بأداء ما يحتاج إليه.

          واحتجوا أيضاً بجواز السلم على خلاف القياس لكونه بيع المعدوم دفعاً لحاجة المفاليس. وليس الأمر كذلك، فإن السلم جائز للمفلس وغير المفلس ودليله ليس الحاجة، فأدلته لم يرد فيها التعليل بالحاجة مطلقاً، ففي حديث ابن عباس عند مسلم: «قدم النبي صلى الله عليه وسلم  المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم»، وحديث ابن أبي أوفى وعبد الرحمن بن أبزى: «كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم    فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب إلى أجل مسمى. قال قلت ألهم زرع أو لم يكن لهم زرع؟ قالا ما كنا نسألهم عن

ذلك». فكل الأدلة الواردة في إباحة السلم ليس فيها ما يفيد أن العقد أبيح للحاجة، فقد يكون صاحب الثمر أو الزرع غنياً وقد يكون فقيراً.

          واحتجوا بجواز الاستصناع للحاجة مع أنه عقد على معدوم، وهو خطأ. فأدلة جواز الاستصناع هي ما ورد في الصحيح من استصناعه صلى الله عليه وسلم      للخاتم والمنبر، وليس فيها ما يفيد أن الاستصناع إنما أبيح للحاجة.

          فكل هذه الأدلة لا يفهم منها التعليل بالحاجة لا صراحة ولا دلالة ولا استنباطاً ولا قياساً.

          وعليه فإن القول بأن الحاجة تنـزل منـزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة قول لا دليل عليه، يفسح المجال أمام الجريئين على دين الله أن يطلقوا العنان لعقولهم فيحلوا ما حرم الله اعتماداً على هذه القاعدة التي لا أساس لها q

ع.ع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *