العدد 169 -

السنة الخامسة عشرة صفر 1422هـ – أيار 2001م

الاستفتاء على الدستور والقانون

          الاستفتاء لغة هو طلب الفتوى ممن يملكها وبهذا المعنى وردت في قوله تعالى: (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن) (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) . فالفتيا تبين المشكل من الأحكام يقال أفتاه في الأمر أي أبانه له وأفتاه في المسألة يفتيه إذا أجابه… وقد اصطلح أهل الاختصاص في علم أصول الفقه على معنى اصطلاحي لكلمة الفتوى والمفتي والمستفتي ووضعوه تحت باب أسموه حال المفتي والمستفتي… فالمفتي عندهم المجتهد في الأحكام الشرعية أو المخبر عنها والمستفتي هو المقلد السائل عن الحكم الشرعي والفتوى هي الحكم الشرعي المستنبط من الأدلة التفصيلية.

=======================================

          بهذه المعاني: المعنى اللغوي والمعنى المصطلح عليه عند علماء الأصول عرف المسلمون هذه الألفاظ وقد كان واقعها مدركا عندهم تمام الإدراك، ولكن عندما غزي المسلمون بالأفكار الغربية ووسد أمر رعاية شؤونهم إلى زمرة من العملاء من جنس دول الكفر الرأسمالية في عقليتهم ونفسيتهم طبقت على المسلمين المفاهيم الرأسمالية وخصوصاً في الحكم والاقتصاد فطبق النظام الاقتصادي الرأسمالي في الشؤون الاقتصادية وفي الحكم طبق النظام الديمقراطي ولكن بعد مسخه فوق المسخ الذي هو عليه، مما غيب الإسلام والأحكام الشرعية عن العلاقات وبالتالي عن المجتمع مما أفسد العقول والأذواق والذي زاد الأمر ضغثاً على إبّالة شرذمة من علماء السلاطين الذين عملوا على تزيين أفكار الكفر وتغليفها بغلاف من الإسلام لترويجها بين المسلمين وإيجاد القبول لها عندهم مثل أن الديمقراطية من الإسلام بل أَنها عين الشورى التي أمر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم وأباحوا الربا واستحلوا مشاركة الحكم في أنظمة الكفر… فاستحلوا ما حرم الله تعالى فنصبوا من أنفسهم أرباباً من دون الله كأحبار ورهبان بني إسرائيل من أطاعهم قذفوه في جهنم والعياذ بالله تعالى.

          ومن الأفكار المناقضة للإسلام والتي رُوِّج لها وضُلِّل بها المسلمون فكرة الاستفتاء على الدستور والقانون. وفكرة الاستفتاء على الدستور فكرة منبثقة عن العقيدة الرأسمالية التي فصلت الدين عن الحياة وجعلت السيادة للشعب، فالشعب وحده المصدر لجميع التشريعات فهو مصدر الدستور وهو الذي يقر إلغاءه وكذلك تعديله.

          والاستفتاء على الدستور بهذا الفهم يتناقض مع العقيدة الإسلامية تناقضاً تاماً ولتفصيل هذا الكلام إليكم هذا البيان:

          أولاً: إن الإسلام قد جعل السيادة للشرع فالشرع وحده هو الحاكم على الأشياء والأفعال وما اقتضته من تصرفات قال تعالى: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) . فمقتضى الإيمان بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله الاحتكام إلى شرع الله تعالى إذ لا قيمة للإيمان بدون الاحتكام إلى شرعه سبحانه وتعالى قال تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا) .

          ويقول سبحانه: (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) ولذلك فإن التحاكم إلى شرع غير شرع الله تعالى كفر بواح والتحاكم إلى الشعب وجعله حاكماً على الدستور والقانون كفر صراح لأن هذا يجعل السيادة للشعب لا للشرع حتى ولو كانت جميع مواد الدستور والقانون مأخوذة من كتب الفقه وآراء المجتهدين، وذلك لأن الذي فرض الالتزام بها والتقيد بها إرادة الشعب وليس الدليل الشرعي المنبثق عن الإيمان بالعقيدة الإسلامية وبعبارة أخرى أن الشعب هو الذي أعطى الصفة الشرعية للدستور والقانون وليس الشرع، وهذا يتناقض مع الإسلام، فالإسلام يفرض أن يكون الدليل الشرعي وحده الحاكم على الدستور والقانون؛ فعند وضع الدستور وتقرير مواده يجب أن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله وما أرشدا إليه من إجماع وقياس بحيث تكون قوة الدليل هي الأساس في الاستدلال والمرجح عند اختلاف الآراء وكذلك عند إلغاء الدستور أو تعديله يجب أن تكون قوة الدليل الشرعي هي التي فرضت التعديل أو الإلغاء لا مصلحة وأهواء الحاكم أو الشعب كما هو معمول به في الأنظمة الديمقراطية… وعليه لا يجوز استفتاء الناس على تطبيق الدستور والقانون بغض النظر عن هذا الدستور هل هو دستور منبثق أو مبني على العقيدة الإسلامية أم لا…، فالدستور والقانون إن كانا أحكاماً شرعية لا يستفتى الناس في تطبيقها عليهم، وكذلك إن كان الدستور والقانون من غير الإسلام لا يستفتى الناس في تطبيقها عليهم أم لا، لأن الكفر وأحكامه واجب الإزالة والإنكار سواء رضي الناس أم لم يرضوا، والإسلام وأحكامه واجب التطبيق سواء رضي الناس بهذا التطبيق أم لا، فوجوب إزالة الكفر وتطبيق الإسلام من الله تعالى وليس من الناس ولذلك لا يستأذن الناس في تطبيق الإسلام وأحكامه بل يفرض عليهم فرضاً ويقصرون عليه قصراً ويؤطرون عليه أطراً. وهنا قد يأتي من يقول إن استفتاء الناس على الدستور هو من باب عرضه عليهم ليبنوا الحكم الشرعي فيه…

          وللرد على هذا القول نقول:

          لا يجوز عرض الدستور على الناس ليبينوا الحكم الشرعي فيه، لأنه لا يجوز استفتاء ـ سؤال ـ العامة من الناس عن الأحكام الشرعية التي هي بحاجة إلى اجتهاد وترجيح لجهلهم بالأدلة وطرق الاستدلال بها. ومن يجهل الأدلة وطرق الاستدلال أنى له أن يبين الحكم الشرعي في الدستور ومواده. والمعلوم بداهة عند العامة والخاصة من الناس أن الذي يستنبط ويبين الأحكام الشرعية في المسائل هم العلماء والمجتهدون لدرايتهم بالأدلة وطرق الاستدلال بها. وفوق هذا فإن عرض الحاكم للدستور على الشعب لأخذ الحكم الشرعي فيه يعتبر تضليلا للمسلمين وخيانة للأمانة التي أؤتمن عليها من وجهين:

          الأول: أنه وسد أمراً إلى غير أهله.

          الثاني: أنه أقحم الناس في حرمات الله تعالى أي حملهم على معصية الله تعالى والواجب عليه أن يحملهم على طاعة الله تعالى لا معصيته.

          هذا لو سلمنا جدلاً أن الاستفتاء على الدستور هو لمعرفة الحكم الشرعي ولكن الواقع غير هذا لأن الاستفتاء في الأنظمة الديمقراطية هو للتعبير عن قبول الشعب أو رفضه للدستور وبالتالي لإضفاء الشرعية على تطبيقه أو عدم تطبيقه، لأن الذي يعطي الصفة الشرعية للدستور ويوجب على السلطة التنفيذية الالتزام به وتنفيذه هو الشعب، وهذا واضح أيضاً من طريقة الاستفتاء وهي التصويت بنعم أو لا وبعبارة أخرى التصويت بنعم للدستور أو لا للدستور نعم للتعديل أو لا للتعديل… فهذه الطريقة في إقرار الدستور وتعديله بعيدة كل البعد عن الأحكام الشرعية أي عن طريقة الإسلام في استنباط وتبني وتنفيذ الأحكام الشرعية.

          ثانياً: واقع الدستور في دولة الخلافة:

          دستور دولة الخلافة هو عبارة عن مجموعة من الأحكام والقواعد الشرعية الكلية والعامة التي تحدد شكل الدولة وأجهزتها وصلاحيات كل جهاز والأنظمة التي تطبقها في الحكم والاقتصاد وسياسة التعليم والسياسة الخارجية… الخ، والأدلة الإجمالية للدستور والأحكام والقوانين وطريقة الاستدلال بالأدلة التفصيلية على الأحكام والقوانين بالإضافة إلى القواعد الكلية والعامة المتعلقة بالتنظيم الإداري لأجهزة الدولة.

          ويتبنى الخليفة هذه الأحكام والقواعد ليرعى بها شؤون رعيته ولتكون أساساً يرجع إليه الولاة والعمال عند رعايتهم لشؤون الناس في أماكن ولايتهم وكذلك القضاة عند فصلهم للخصومات بين الناس ليضمن الخليفة استقامة الحكم ووحدة الدولة.

          والخليفة يتبنى الأحكام والقواعد الشرعية وفق قوة الدليل وبما يراه صواباً لتسيير شؤون الرعية وهذا يفرض أن يكون لكل مادة من مواد الدستور مقدمة يبين فيها دليل المادة ووجه الاستدلال بالدليل بحيث تظهر الأسباب الموجبة لتبني هذه المادة بشكل دقيق وواضح يمكن الناس من الوقوف على هذا الدستور من الناحية الشرعية ومحاسبة الخليفة عليه محاسبة واعية.

          والخليفة يتبنى هذه الأحكام والقواعد لأن رعاية الشؤون المناطة به لا تستقيم إلا بتبنيه لهذه الأحكام والقواعد فالحكم الشرعي هو الذي ألزم الخليفة تبني مجموعة من الأحكام والقواعد يلزم بها الرعية لاستقامة الحكم ووحدة الدولة وقد نهج الخلفاء الراشدون في الحكم هذا النهج وانعقد عليه إجماع الصحابة رضوان الله عليهم. هذا هو واقع الدستور والقانون في دولة الخلافة وهذا النوع من الدساتير لا يتوصل إليه عبر مجالس تشريعية واستفتاء شعبي لأن واقعه من حيث مصادره وطريقة تبنيه والغاية منه تختلف عن باقي الدساتير المستندة إلى الأنظمة الديموقراطية وفوق هذا فإن طبيعة دستور دولة الخلافة تفرض عليه أن لا يأخذ الصفة الوطنية أو القومية أو الإقليمية وإنما يأخذ صفة دولة الخلافة والإسلام الذي تطبقه من حيث عالمية النظرة وشمولية المعالجات وعمومية التطبيق وكلية الرعاية.

          ثالثاً: صلاحية تبني وتعديل وإلغاء الدستور:

          إن الإسلام قد أناط رعاية الشؤون الدائمية والإلزامية بشخص الخليفة ومقتضى هذا التكليف يفرض على الخليفة أن يتبنى من الأحكام بقدر ما يراه محققاً لهذه الرعاية والقاعدة الشرعية المشهورة عند الفقهاء تنطق بهذا (للإمام أن يحدث من الأقضية بقدر ما يحدث من مشكلات) وبما أن الدستور والقانون لرعاية شؤون الرعية فيكون صلاحية تبنيها للخليفة وحده وبما يراه هو صواباً لا بما يراه غيره لأن الحكم الشرعي يلزمه أن يرعى الشؤون وفق ما يراه هو صواباً و إلا كان غاشاً لرعيته ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة» رواه مسلم.

          وللخليفة أن يرجع عن رأيه إلى رأي أخر إذا تبين له خطأ رأيه الأول وهذا ما كان عليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم فأبو بكر الصديق t ورث أم الأم دون أم الأب فلما روجع من الصحابة وتبين له الصواب رجع عن رأيه وأشرك بينهما والشواهد التي نقلت عن الصحابة في مثل هذا الأمر كثيرة. هذا بالإضافة إلى أن الخليفة وحده هو صاحب الصلاحية في ترجيح الرأي الصواب أو الخطأ وهذا هو مدلول القاعدة الشرعية المشهورة (أمر الإمام يرفع الخلاف) وقد انعقد إجماع الصحابة على هذا فقد كان رأي الخليفة هو الفصل والمعمول به عند اختلاف آرائهم. فقد اختلف عمر بن الخطاب وأبو بكر الصديق رضي الله عنهما في توزيع المال ووقوع الطلاق، فعمر بن الخطاب كان يرى أن رأي أبي بكر في هاتين المسألتين خطأ ولكن مع هذا كان ملتزماً برأي أبي بكر عاملاً به وعندما تولى الخلافة من بعده ترك رأي أبي بكر وألزم المسلمين برأيه. فإجماع الصحابة منعقد على أن للإمام أن يتبنى أحكاما معينة ويأمر بالعمل بها وعلى المسلمين طاعتها ولو خالفت اجتهاداتهم. وبهذا يتضح أن صلاحية تبني وتعديل وإلغاء الدستور والقانون من صلاحيات الخليفة وحده وعلى المسلمين أفراداً وجماعات أن يلتزموا ويعملوا برأي الخليفة حتى لو خالف رأيهم فلا يجوز لهم الخروج عن رأيه مادام مستنداً إلى دليل شرعي واجتهاد صحيح ولو كان رأيه خطأ في نظرهم وهذا الفهم ـ أن المسلمين ملزمون برأي الخليفة ولو كان خطأ في نظرهم ـ يدل دلالة قطعية على أن الأمة أو الشعب ليس له صلاحية تعديل أو إلغاء أو تبني أي مادة من مواد الدستور أو القانون وجعل الشعب هو صاحب الصلاحية في تبني وتعديل الدستور والقانون مخالف للشرع ولطريقة الإسلام في الحكم.

          وخلاصة القول في هذه المسألة هو أنه لابد من التفريق بين ثلاثة قواعد من قواعد نظام الحكم في الإسلام وهي السيادة للشرع، والسلطان للأمة، والقيادة في الإسلام فردية لا جماعية، فهذه القواعد الثلاث لابد من التفريق بينها فالأولى تعني أن صلاحية التشريع لله وحده والثانية تعني صلاحية تنصيب ومبايعة الخليفة للأمة وحدها والثالثة تعني أن صلاحية التبني والرعاية للخليفة وحده. هذه هي طريقة الإسلام في الحكم وهي تناقض طريقة المبدأ الرأسمالي في الحكم الذي جعل السيادة والسلطان للشعب ويرى أن القيادة يجب أن تكون جماعية لا فردية. وعليه ففكرة الاستفتاء على الدستور والقانون من طريقة النظام الديمقراطي في الحكم وهي مخالفة لطريقة الإسلام في الحكم ولذلك يجب نبذها ومحاربتها وإزالة الأنظمة التي تطبقها والإطاحة بالحكام الذين ينفذونها ووضع طريقة الإسلام في الحكم موضع التطبيق والتنفيذ عن طريق إقامة دولة الخلافة الراشدة التي بشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) .

          تم بحمد الله وتوفيقه 

أبو الحسن الكرمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *