العدد 169 -

السنة الخامسة عشرة صفر 1422هـ – أيار 2001م

موقف عظيم لرسول عظيم

          نحن هنا مع موقف صدق قوي له دلالته الصادقة القوية، إنه موقف النبي عليه أفضل الصلاة والسلام مع أصحابه الذين ثبتوا في ساحة المعركة في معركة أحد وقت الشدة، وقت هزيمة المسلمين في ساعةٍ حرجةٍ أثناء المعركة.

          فبعد المخالفة التي حصلت من الرماة على جبل أحد، اغتنمت فلول قريش بقيادة خالد بن الوليد ـ وكان ما زال على كفره ـ هذه الفرصة الذهبية، وانقضوا على المسلمين، وأعملوا فيهم سيف القتل والتنكيل، حتى تفرق المسلمون من أمامهم لشدة الموقف ولوقع المفاجأة عليهم دون علمٍ ولا حسبان. ولكن لا يخلو كل زمانٍ من رجال صادقين، لا يعرفون إلا الإيمان، ولا يحسبون للموت حساباً، ولا يعرف الوهن إلى قلوبهم طريقاً. والموقف عندهم واحد لا ثاني له: إما الموت وإما الشهادة في سبيل الله (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) . لقد ثبت عليه أفضل الصلاة والسلام مع جمع قليل من أصحابه وسط الموت وهو يزأر من حولهم؛ وسط جموع الكفر الكبيرة وقد أحاطت النبي عليه الصلاة والسلام يريدون قتله، ثبت النبي عليه السلام مع نفر قليل من الصادقين المؤمنين وهو ينادي بأعلى صوته: إليّ عباد الله… إليّ عباد الله.

=======================================

          روى ابن كثير في سيرته قال: أتى ابن قمئه الحارثي فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله. وتفرق عنه أصحابه، ودخل بعضهم المدينة، وانطلق طائفة فوق الجبل إلى الصخرة، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس: إليّ عباد الله.. فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً، فجعلوا يسيرون بين يديه، فلم يقف أحد إلا طلحة، وسهل بن حنيف، فحماه طلحة فرمي بسهم في يده فيبست يده، وأقبل أبي بن خلف الجمحي وقد حلف ليقتلن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بل أنا أقتله… فحمل عليه فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في جيب الدرع جرحاً خفيفاً فوقع يخور خور الثور، فاحتملوه، وقالوا: ليس بك جراحة، فما يجزعك؟! قال: لقد قال محمد لأقتلنك! لو كانت تجتمع ربيعة لقتلهم، فلم يلبث إلا يوماً أو بعض يوم حتى مات من ذلك الجرح (ابن كثير ج3 ص44).

          وبعد أن رأى من هرب أو احتمى من المسلمين، هؤلاء النفر من الصحابة الأبرار، يقاتلون دون الرسول عليه السلام قتال الصادقين المؤمنين، وسمعوا مقالة النبي وهي تدوي في مسامعهم إلي عباد الله… إلي عباد الله، تذكروا إيمانهم، وتذكروا غضب الله بالفرار من وجه العدو، وتولي الأدبار، فرجعوا وأخذوا يقاتلون مع هؤلاء النفر، حتى منّ الله عليهم بالنصر المؤزر وانقلبت الهزيمة والهروب إلى ظفر وثبات على الحق. وكان فيما أنزل الله سبحانه في أحد قوله: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين @ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين) .

          ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج لغده يوم الأحد السادس عشر من شوال ـ وكانت أحد يوم السبت للنصف من شوال ـ يطلب العدو لاحقاً جيش المشركين العائد إلى مكة وأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يخرجن أحد مع رسول الله إلا أحد حضر يومنا أمس أي يوم أُحد، فلحقوا بالمشركين وجراح المسلمين لم تلتئم بعد. يقول أحد المسلمين الذين شهدوا أحداً: (شهدت أحداً أنا وأخ لي فرجعنا جريحين فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو قلت لأخي أو قال لي أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أيسر جرحاً فكان إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون. فأنزل الله سبحانه: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم) وهم المؤمنون الذين ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم أحد. وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهباً للعدو وليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوة وأن الذي أصابهم لم يوهنهم من عدوهم. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد على بعد ثمانية أميال من المدينة فمكث بها ثلاثاً ولم يجرؤ أبو سفيان بجيشه أن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حمراء الأسد فرجع إلى مكة عائداً بعد أن قذف الله الرعب في قلوبهم.

          إن في هذه المواقف العظيمة للرسول صلوات الله وسلامه عليه وآله وصحبه الكرام لدروساً عظيمة للمسلمين في كل زمان ومكان، أن نثبت عند البلاء والشدة فلا نضعف ولا نستكين فإذا أُصبنا يوماً لم نقعد يائسين بل ننطلق أشد ما نكون مؤمنين بالله متوكلين عليه واثقين بنصره متسنمين خطى رسوله صلوات الله وسلامه عليه.

          إن في هذه الدروس الدواء الناجع لما أصاب ويصيب المسلمين من محن، ففي الوقت الذي هزم فيه المسلمون هزيمة عسكرية ومادية أمام قوى الكفر، وأخذوا يتقهقرون بانحدار شديد منذ الحرب العالمية الأولى، لم يتوان الكفر في ترسيخ هذه الهزيمة المادية في النفوس والعقول لحظة واحدة منذ ذلك الوقت. فهو يحاول باستمرار عن طريق وسائل الثقافة والمؤسسات، ووسائل الإعلام المرتبطة بعملائه من الحكام، وعملائه من المفكرين “أصحاب الأقلام” ترسيخ فكرة أنه لا طاقة للمسلمين بالكفار وليس لهم أمام هذا الواقع إلا أن يرضوا بما هو مشاهد محسوس أمام أعينهم من هيمنة للكفر على بلادهم وعلى مقدراتهم المادية.

          فهذه المقولات وأمثالها من تثبيط الهمم والعزائم، والحرب النفسية، أوقعت كثيراً من أبناء المسلمين في حالة من الإحباط واليأس، والقنوط من نصر الله تعالى لأمة الإسلام، فأخذوا يرددون وراء حكامهم أو عملاء الحكام من علماء ومفكرين مضللين، أنه لا طائل لنا أمام أميركا، وماذا نفعل بقوى الكفر هذه المجتمعة على حرب الإسلام، ونحن ضعفاء لا حول لنا ولا قوة؟! هل ستسمح أميركا وفرنسا وبريطانيا وغيرها من الكفار لدولة إسلامية أن تقف على أرجلها؟!… وهكذا مثل هذه المقولات، حتى صرت تسمع من بعض الذين بالغوا في اليأس والقنوط، أنه ليس لنا إلا التبعية لهذه الدول العظيمة، ولا أحد يستطيع تغيير هؤلاء الحكام عن أماكن حكمهم، ولا مناص لنا من مصالحة اليهود، والرضا بهم كأمر واقع، لأن وراءهم الغرب، فما يمليه اليهود لا بد من قبوله.

          والحقيقة أن من يتمعن في هذه الأقوال من زاوية العقيدة الإسلامية يرى أنها هي الموت بعينه، وأنها هي الهزيمة المنكرة إذا ما نجح الكفار وعملاؤهم من الحكام في ترسيخها في أذهان الناس.

          فلا بد من معالجة هذه المسألة من زاويتين، أولاً من زاوية العقيدة الإسلامية التي نحمل في جوانبنا، وكذلك من زاوية الواقع الذي نطق وما زال ينطق بصدق هذه العقيدة. فبالرجوع إلى العقيدة الإسلامية التي نرتكز عليها في حياتنا، وباستقراء هذه المسألة وإصدار أحكام لمعالجتها نقول:

          أولاً: المؤمن مكلف بالعمل وليس عليه النتائج، وإنما الناتج على الله تبارك وتعالى، وهذا وارد في كتاب الله وكلام رسوله عليه السلام في أكثر من موقع: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) ، (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء) . ويقول عليه السلام: «إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء» رواه مسلم. ففي هاتين الآيتين الكريمتين والحديث الشريف أوامر وإخبار من الحق تبارك وتعالى، فالأوامر هي البلاغ أي إيصال أحكام الدين إلى الناس، أما الإخبار فالله يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ليس لك بعد ذلك من الأمر شيء بل إن قلوب العباد، في القبول أو الرد هي علم الله تعالى، والنتائج هي على الله وليست عليك.

          ثانياً: إن أقوى سلاح يملكه المسلم هو سلاح الإيمان وليس سلاح القوى المادية، ولم ينتصر المسلمون يوماً بسلاحهم المادي، بل كانوا دائماً أقل من الكفار عدداً وعدة ورغم ذلك ينتصرون عليهم. ففي بدر وأحد والخندق، وتبوك، واليرموك، والقادسية، وأجنادين، وفتح القدس، وفتح القسطنطينية… وغيرها من معارك، كان المسلمون ينتصرون بالإيمان بعد إعداد ما استطاعوا إعداده من قوة ومن رباط الخيل، امتثالاً لأمره تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وءاخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) .

          ثالثاً: إن مسألة القنوط أو اليأس محرمة شرعاً، ولا يجوز للمسلم أن يصل به الأمر إلى هذا الحد مهما بلغ الأمر، حتى وإن حُمل على الخشب أو نُصب على أعواد المشانق أو سجن أو عذب أو طرد من وظيفته… أو تغلب عليه الكفر بقواه المادية نتيجة فترة من ضعف الأمة، فالله تعالى يقول: (قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) وقال على لسان يعقوب عليه السلام: (يابني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) .

          فالمسلم يحدوه الأمل بالله تعالى، والله أكبر من الكفر وهو خير سند للإيمان ومن كان الله سنده لا ييأس ولا يكترث لما يصيبه أو يلاقي.

          رابعاً: إن الحرب التي يعلنها الكفار على ملة الإسلام من أجل الحيلولة دون وقوفها على أرجلها، هي حرب على الله قبل أن تكون على المسلمين، فالله خاطب الرسول عليه السلام فقال: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) وقال: (إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين @ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز) . والرسول عليه السلام يقول: «من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب، أو بارز الله بالمحاربة» رواه ابن ماجه ـ باب الفتن، وفي نهاية المطاف من سينتصر في حربٍ خصمه فيها الله القدير العزيز؟!

          خامساً: إن الله سبحانه وتعالى قد وعد ووعده حق وصدق، ولا يخلف الله وعده (وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ، وعد بأن هذا الدين سينتصر وسترتفع راية الإسلام فوق كل راية في مشارق الأرض ومغاربها، قال تعالى: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون @ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) . وقال عليه السلام عندما سئل أي المدينتين تفتح أولاً رومية أم قسطنطينية؟!، قال مدينة هرقل أولاً… (الحديث رواه الإمام أحمد وذكره الألباني في صحيحه)، وفعلاً قد صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر عن ربه ففتحت قسطنطينية ولم تفتح روما بعد، ونحن ننتظر هذا الفتح العظيم بعد قيام دولة الإسلام بفارغ الصبر، وبكامل الثقة بتحققه إن شاء الله تعالى.

          سادساً: إن العمل وفق ما أمر الله تعالى دون انحراف أو خضوع للواقع هو فرض وليس للمسلم خيار في ذلك، ولا يُعفي المسلمَ من العمل قوةُ أميركا، أو اضطهاد الحكام المجرمين، فالله سبحانه خاطب الأنبياء وهم خيرة البشر على وجه الأرض بأن يعملوا ويلتزموا ويسيروا في الطريق المستقيم ولهم بعد ذلك النصر والجزاء العظيم في الآخرة، فخاطب نبينا عليه السلام قائلاً: (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير) .

          وفي قصة يونس عليه السلام علّمنا الحق تبارك وتعالى درساً بليغاً وهو أن الواجب علينا هو العمل وليس لنا دخل في النتائج. فعندما ذهب يونس عليه السلام مغاضباً، علّمه درساً في بطن الحوت، ثم بعثه من بطن الحوت إلى مائة ألف أو يزيدون آمنوا في غيابه وهو في ظلمات البحر والحوت، (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين @ فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين) ، وقال: (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون @ فآمنوا فمتعناهم إلى حين) .

          فنحن اليوم الأصل فينا أن نسأل عن ما فرضه الله علينا من عمل، ونستأنس بما وعدنا به ربنا من نصر، ونستبشر خيراً، فإن تحقق في زماننا كان ذلك فضلاً عظيماً ومنةً من الله تعالى علينا وإن لم يتحقق كفانا الرضا منه سبحانه في الدنيا والآخرة، وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدّت للذين آمنوا بالله ورسله: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) .

          أما الزاوية الثانية فهي الواقع ومنه التاريخ. فالناظر في تاريخ هذه الأمة الكريمة يرى أنها أمة كريمة المعدن، أما إذا ما اعتراها بعض الأوساخ أو كبَت، فإنها سرعان ما تنهض وتعود مرة أخرى إلى أصالتها وكريم معدنها. فقد كبت الأمة في أواخر العهد العباسي، واعتراها الضعف الشديد، وتمزقت إلى أكثر من مملكة يعلنون الولاء الاسمي للخليفة في بغداد، وتآمر قسم من حكامها مع الصليبيين كما حصل مع الكامل أيوب حاكم مصر، عندما تآمر مع فردريك الثاني إمبراطور ألمانيا على تسليم القدس، ولكن الأمة رغم ذلك لم يتطرق الوهن إلى قلوبها رغم الهزيمة العسكرية التي منيت بها ورغم حكام عملاء، ورغم تمزق وتفسخ، فلم تقل الأمة ليس لنا طاقة بعبدة الصليب، ولنرضَ بالأمر الواقع، فظلت تحارب الصليبيين أكثر من مائتي عام متتالية، وظل الأمل يحدوها، والثقة بنصر الله تنير قلوبها، وتحفزها على الجهاد، حتى منّ الله عليها برجال أنقذوها من هذه الكبوة، ومن الهزيمة العسكرية، فوقفت مرةً أخرى على أقدامها تدك معاقل الصليب في عكا، والقدس، والرها، وأنطاكيا حتى أخرجوهم من جميع بلاد المسلمين.

          وما حصل مع الصليبيين حصل مع المغول التتار وبالطريقة نفسها، وما أن انتهت الأمة من جهادها وتحريرها للبلاد حتى منّ الله عليها مرةً أخرى بخـلافة جمعتها ووحدت صفوفها وأعادتها إلى مقدمة الأمم والشعوب تفتح القسطنطينية، وتشق طريقها إلى أواسط روسيا، وإلى أطراف أوروبا، في ظل الخلافة العثمانية.

          واليوم تعيش الأمة حالة من الهزيمة العسكرية والمادية أمام قوى الكفر وذلك بسبب بعدها عن الله، وبسبب رضاها بحكام عملاء للكفر، يرضون لأنفسهم ولأسيادهم ما لا يرضون لها ووسط هذا الظلام الدامس، ووسط هذه الهزيمة المنكرة، وسط بحر متلاطم الأمواج يحيط بسفينة أمة الإسلام، ووسط ذئاب مفترسة تحدق بها من جميع الجهات، وقف نفر من المخلصين لله، ولدينه ولأمته، يعزّ عليهم ما أصابها، ويدفعهم إيمانهم لتخليصها، وقفوا في وسط هذا التقهقر والانهزام المادي والنفسي لأمة الإسلام أو لبعض منها، وقفوا صابرين ثابتين على الحق، لا يتطرق اليأس إلى قلوبهم. يقتدون بالموقف العظيم للرسول صلوات الله وسلامه عليه بعد أحد حيث لحق وصحابته الكرام، دون أن ييأسوا لما أصابهم في أحد وغير منتظرين أن تشفى جراحهم، لحقوا بكفار قريش فأدخلوا الرعب في قلوبهم وفازوا بنصر الله، هكذا وقف هؤلاء النفر المخلصون، وقفوا يقولون بأعلى أصواتهم هلم إلينا عباد الله… هلم إلينا عباد الله… إنكم أمة كريمة معدنها أصيل، تحمل خير رسالة، وأنتم خير أمة أخرجت للناس، فعودوا إلى أصالتكم وانهضوا من كبوتكم، وارفعوا رؤوسكم إلى السماء بدل انخفاضها إلى الأرض… فالتفت الكفار إلى هذا الصوت وأحاطوا به من كل مكان يقتلون ويسجنون، ويضربون، ويطردون من الوظائف، ورغم كل هذا وقف هؤلاء النفر المخلصون الصادقون كالنخلة الباسقة، وكالجبال الشم التي لا تؤثر فيها عواصف ولا رعود ولا بروق… وبعد ثباتهم، ورؤية الأمة صدقهم، وسماع صوتهم الأصيل الضارب في أعماق الحق، المتصل بجذور العقيدة، أخذ الناس يعودون شيئاً فشيئاً من انهزامهم، ومن يأسهم ويلتفون حول هذه الجماعة وحول أفكارها وما تنادي به من إعادة حكم الله إلى الأرض، وإعادة الأمة إلى سابق عهدها من نهوض ورفعة وسؤدد.

          لقد أخذت الأمة تستعيد ثقتها بنفسها، وبنصر الله لها، وتتذكر ما يجب أن تكون عليه بين الأمم وما يجب أن تكون عليه رسالتها. ولن يطول المسار بإذن الله على هذه المعركة الحامية الوطيس بين الحق والباطل حتى يأذن الله بنصره وتقوم دولة الإسلام، دولة الخلافة الراشدة التي وعد بها رب العزة جل وعلا على لسان نبيه عليه السلام، وتعود هذه الأمة كما كان سابق عزها ومجدها خير أمة أخرجت للناس كما وصفها ربها بقوله: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) صدق الله العظيم .

أبو المعتصم ـ بيت المقدس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *