العدد 309 -

العدد 309 – السنة السابعة والعشرون، شوال 1433هـ، الموافق أيلول 2012م

أثر اجتهادات عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في النظام الاقتصادي الإسلامي

أثر اجتهادات عمر بن الخطاب  (رضي الله عنه)

في النظام الاقتصادي الإسلامي

 

راضية  – بيت المقدس

   لقد كان للخليفة الرّاشديِّ الثاني عمر بن الخطاب (رضي الله) عنه أثر كبير في توَسُّع الفقه الاقتصادي الإسلامي عامة وأحكام الأراضي خاصة.

فبعد أن فتح المسلمون أرض العراق وأزالوا دولة الفرس منها، وفتحوا مصر والشام والجزيرة وطردوا الروم منها، قسم الخليفة عمر بن الخطاب الغنائم المنقولة من سلاحٍ ومتاعٍ على المقاتلين ولم يقسم الأرض، واستشار الصحابة في عدم قسمتها، فكان رأي غالبيتهم أن يقسمها بين المقاتلين كما قسم الرسول صلى الله عليه وسلم أرض خيبر، ومن بينهم ( بلال بن رباح والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف ) إلا أن بلالاً كان من أشدِّهم  في ذلك الرأي، مما جعل عمر بن الخطاب يقول:» اللهم اكفني بلالاً وأصحابه»، واستمر النقاش والمشاورة ما بين يومين أو ثلاثة أيام إلى أن هداه الله إلى آيات الفيء الواردة في سورة الحشر، حيث قال تعالى: ( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10))

لقد رأى رضي الله عنه أنَّ في قوله تعالى 🙁 وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ) أنَّها تستوعب جميع المسلمين إلى يوم القيامة؛ لذا فإن المسلمين جميعهم لهم حق في هذا الفيء.

ولنترك القاضي أبا يوسف في كتابه الخراج يكمل لنا الحادثة، يقول: «فأكثَروا عَلَى عمر رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وقالوا: أتقِفْ ما أفاء الله علينا وبأسيافنا عَلَى قومٍ لم يَحْضروا ولم يَشهدوا، ولأبناء القوم ولأبناء أبنائهم ولم يحضروا، فكان عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لا يزيد عَلَى أن يقول: هذا رأيي.
قالوا: فاستشِرْ، فاستشارَ المهاجرين الأولين، فاختلفوا؛ فأما عبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فكان رأيه أن تقسم لهم حقوقهم، ورأى عثمان وعلي وطلحة وابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُما رأي عمر.
فأرسل إِلَى عشرة من الأنصار: خمسة من الأوس وخمسة من الخزرج من كبرائهم وأشرافهم، فلما اجتمعوا حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثُمَّ قَالَ:

إني لم أزعجكم إلا لأن تشتركوا فِي أمانتي فيما حملتُ من أموركم، فإني واحد كأحدكم، وأنتم اليوم تقرون بالحق، خالفني من خالفني ووافقني من وافقني، ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هواي، معكم من الله كتاب ينطق بالحق، فوالله لئن كنت نطقت بأمر أريده ما أريد به إلا الحق .
قالوا: قل نسمع يا أمير المؤمنين.
قَالَ: قد سَمِعْتُم كلامَ هؤلاء القوم الذين زعموا أني أظلمهم حقوقهم، وإني أعوذ بالله أن أركب ظلماً، لئن كنت ظلمتهم شيئاً هو لهم وأعطيته غيرهم لقد شقيت، ولكن رأيت أنه لم يبقَ شيء يفتح بعد أرض كسرى وقد غَنَمَنا اللهُ أموالهم وأرضهم وعلوجهم، فقسمتُ ما غنموا من أموال بين أهله وأخرجتُ الخمسَ فوجَّهْتُه عَلَى وجهه وأنا فِي توجيهه.
وقد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها وأضع عليهم فيها الخراج وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئاً للمسلمين؛ المقاتلة والذرية ولمن يأتي من بعدهم.
أرأيتم هذه الثغور لابد لها من رجال يلزمونها، أرأيتم هذه المدن العظام- كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر- لابد لها من أن تُشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم، فمن أين يُعطى هؤلاء إِذَا قُسِّمت الأرضون والعلوج؟.
فقالوا جميعاً: الرأي رأيك، فنعم ما قلتَ وما رأيتَ، إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال وتجري عليهم ما يَتَقوون به رجع أهل الكفر إلى مُدُنهم.
فَقَالَ: قد بان لي الأمر، فمَن رجلٌ لَهُ جزالة وعقل يضع الأرض مواضعها، ويضع عَلَى العلوج ما يحتملون؟
فاجتمعوا لَهُ عَلَى عثمان بن حنيف وقالوا: تبعثه إِلَى أهل ذلك، فإن لَهُ بصراً وعقلاً وتجربة.
فأسرع إليه عمر فولاه مساحة أرض السواد فأدت جباية سواد الكوفة قبل أن يموت عمر رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ بعام مائة ألف ألف درهم، والدرهم يومئذ درهم ودانقان ونصف، وكان وزن الدرهم يومئذ وزن المثقَالِ». انتهى كلام أبو يوسف. ما حصل من الخليفة عمر بن الخطاب ما هو إلا توفيق من الله عزّ وجلّ، ففيه كان الخير والنفع لعامة المسلمين، إذ شُحِنَت الثغور وقوِيَت الجيوش على السير في الجهاد وأمِنَت المدن من رجوع أهل الكفر إليها، فالحمد لله الذي هداه إلى هذا الخير.

إنَّ الخراج على الأرض يُقدَّر ويُحدَّد حسب إنتاج الأرض التقديري، أي بقدر احتمالها، لا حسب الإنتاج الفعلي، حتى لا يُظلم لا صاحب الأرض ولا بيت المال، ويدفع كل سنة سواء أكانت الأرض مزروعة أم غير مزروعة، خصبة أم جدبة، فعن عمرو بن ميمون وحارثة بن مضرب قالا: «بعث عمر بن الخطاب عثمان بن حنيف على السواد وأمره أن يمسحه، فوضع على كل جريب عامر أو غامر مما يُعمل مثله، درهماً وقفيزاً»، وفي رواية أخرى عن الحجاج بن أرطأة عن ابن عوف: «أنَّ عمر بن الخطاب مسح السواد ما دون جبل حلوان، فوضع على كل جريب عامر أو غامر يناله الماء بدلو أو بغيره، زُرِعَ أو عُطِّلَ، درهماً وقفيزاً واحداً».

والقفيز عُشر الجُريب، ومساحة الجريب تساوي ما يعادل دونم وثلث الدونم

أمّا من حيث الوزن فالقفيز يساوي (12) صاعاً  والدرهم يساوي 4,25 غراماً

فلو أردنا أن نحسب خراج أرض مزروعة قمحاً لكان الناتج للدونم الواحد يساوي 19,116 كغم و 3,11 غرام فضة.

إن هذا التقدير هو من اجتهاد عمر وليس ملزِماً، بل يجوز للخليفة أن يزيد عليه أو يُنقِص منه حسب أوضاع  ومتعلقات الأرض وناتجها، وهذا يتطلب أن يكون واضع الخراج المنتدَب من الخليفة من أربابِ الخبرة حتى لا تُظلَم الأرض ولا تكلف فوق طاقتها، بدليل فعل عمر بن الخطاب،  فقد انتدب عثمان بن حنيف إلى الكوفة على شط الفرات، وانتدب حذيفة بن اليمان على ما وراء دجلة، فمسحا السَّواد وقدّرا ما يحتمل من خراج، وعندما رجعا سألهما: كيف وضعتُما على الأرض لعلكما كَلفتُما أهل عمَلكما ما لا يطيقون؟ فقال حذيفة: لقد تركتُ فضلاً، وقال عثمان: لقد تركتُ الضِعف، ولو شئتَ لأخذتُه.

وبالرجوع إلى مقدار ما بلغ من إيراد سواد الكوفة وحده قبل وفاة عمر، قلنا أنَّه بلغ مائة مليون درهم أي ما يساوي (425) مليون غرام فضة، فلننظر كم سيَرِد إلى بيت مال المسلمين في الدولة الإسلامية القادمة إن شاء الله من خراج إذا علِمنا أنَّ جميع أرض العراق ومنها الكويت وبلاد الشام ومصر والسودان وشمال أفريقيا وتركيا وإيران والهند وباكستان وأفغانستان وتركستان وبخارى وسمرقند وما يمكن أن يفتحه الله على أيدي الخلفاء القادمين من بلاد، كلها تعتبر أرض خراج، يُنفق خراجها على جميع المصالح في الدولة، ومنه تُدفع أرزاق الموظفين والجند والأعطيات، ومنه تُعّدُّ الجيوش ويُجَهَّز السلاح ويُنفَق على الأرامل والمحتاجين… هذا ما يتعلق بخراج الأرض.

أمّا ما يتعلق بإحياء الأرض وعمارتها: أخرج أبو يوسف في الخراج عن سالم بن عبد الله أنَّ عمر بن الخطاب قال على المنبر: «مَنْ أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لمُحتجِر حق بعد ثلاث سنين»، وقد قالها عمر وعمل بها على مرأى ومسمع من الصحابة ولم يُنكِر عليه أحد فكان إجماعاً.

فكل من أحيا أرضاً ميتة أي جعلها صالحة للزراعة أو عمّرها بأي شيء يدل على العمارة أصبحت ملكاً له، وهذا الحكم جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بعدة روايات تعطي نفس المعنى، فعن عائشة عن الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أعمر أرضاً ليست لأحد فهو أحق» وعنه أيضاً: «من أحاط حائطاً على أرض فهي له» ، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يضع شرطاً للتملك وهو استثمار الأرض خلال مدة ثلاث سنين من وضع اليد عليها بل وضعه عمر بن الخطاب في فترة خلافته ولم يُنكِر عليه الصحابة.

كذلك الأرض غير الميتة التي امتلكها الشخص بإقطاع الإمام له من أراضي الدولة التي وضعت الدولة يدها عليها بوجه شرعي، فإنَّه إن عطَّلها ثلاث سنين تؤخذ منه وتُعطى لغيره، مثل الأرض التي أقطعَها الرسول صلى الله عليه وسلم لبلال المَزني ثم استرجع عمر ما أهمله منها بعد ثلاث سنين وأقطعها لغيره من المسلمين، فقد أخرج أبو عبيد في الأموال عن بلال بن الحارث المزني: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعه العقيق أجمع، قال: فلما كان زمان عمر قال لبلال: «إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُقطِعْكَ لتَحجُره على الناس إنَّما أقطعك لتعمل، فخُذْ منها ما قدرتَ على عمارته ورُدَّ الباقي».

وبحساب الزمن بين فترة إقطاع الرسول صلى الله عليه وسلم الأرض لبلال وبين أخْذِ عمر لِما لمْ يقدِر على عمارته من الأرض في زمن خلافة عمر مروراً بخلافة أبي بكر تكون المدة قد تعدَّت الثلاث سنوات.

إنَّ ما سار عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان على مرأى ومسمع من الصحابة ولم يُنكره عليه أحد فكان إجماعاً، وينطبق ذلك على جميع الأراضي الممتلكة عن طريق الميراث أو الشراء أو الهبة إذا توفرت فيها علة التعطيل والإهمال، فالشرع جعل ملكية الأرض لزراعتها، فإن عُطّلت المدة التي نصّ عليها الشرع ذهب معنى ملكيتها عن مالكها، ففقد ملكيته لها.

ثمّ إنّ عمر بن الخطاب لم يهتمّ فقط بالطلب من مالكي الأراضي بعدم تعطيلها، بل إنه قد أعان مالكيها الفلاحين بإعطائهم من بيت المال حتى يتمكنوا من زراعتها، فإنه لما فتح العراق وترك الأرض بيَدِ أهلها على أن يدفعوا خَراجها، أعطى الفلاحين مالاً من بيت المال يتقَوون به على زراعة أرضهم مع أنَّهم لم يكونوا قد أسلموا بعد، وكذلك لم يكونوا فقراء ليستحقوا من بيت المال، وهذا أمرٌ مما يُنكَر مثله لمخالفته أحكام بيت المال، إلا أنه لم ينكِره عليه أحد من الصحابة فكان أيضاً إجماعاً.

كل هذا كان من أجل دوام واستمرارية زراعة الأراضي واستغلالها، مما يعود بالفائدة الكبيرة على الأفراد من مالكي الأراضي وزيادة دخلهم وعلى الدولة ونموّها وازدهارها.

أما ما يتعلق بعشور التجارة، أي ما يدفعه تجار أهل الحرب ضريبة على تجارتهم التي يمُرّون بها على حدود الدولة الإسلامية من باب المعاملة بالمثل، فهي أيضاً استُحدِثَت في عهد خلافته رضي الله عنه، فقد كتب أبو موسى الأشعري إليه يقول: «إن تجاراً من قبلنا من المسلمين يأتون أرض الحرب فيأخذون منهم العشر، فكتب إليه عمر: وخذ أنت منهم كما يأخذون من تجار المسلمين» رواه أبو يوسف في الخراج.

وكتب أهل مَنبِج – وهم نصارى في شمال الجزيرة – إلى عمر بن الخطاب يقولون: «دعنا ندخل أرضَك تجاراً وتَعْشُرَنا، فشاور عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأشاروا عليه به» أي وافقوه

إنَّ العُشور لا يدفعها إلا التجار الحربيون، أما أهل الذّمّة فليس عليهم ذلك إلا إذا صولحوا على أن يدفعوا مقداراً معيناً، وقد صالحهم عمر بن الخطاب على أن يدفعوا نصف العُشْر، حيث إنه عندما بعث عثمان بن حنيف إلى العراق، جعل في أموال أهل الذّمّة التي يدخلون بها إلى بلاد الإسلام من كل عشرين درهماً درهماً، وجعل على رؤوسهم الجزية، وبيّن أن هذا حق للمسلمين عليهم.

وبناء على ذلك يُؤخَذ منهم على تجارتهم المارَّة على الثغور نصف العشر على حسب الصلح والاتفاقيات التي عُقِدت معهم أيام عمر بن الخطاب، فإن عُقدت في الدولة الإسلامية القادمة إن شاء الله اتفاقياتٌ جديدةٌ مع أهل الكتاب ومع غيرهم، بمقدار العُشر أو الربع أو الثلث، قليلاً كان أو كثيراً، فإنه يجب الالتزام بما تمَّ الاتفاق عليه.

اللهم اجزِ الخليفة عمر بن الخطاب عنا خير الجزاء، وارزقنا قريباً خلفاءَ راشدين عُدولاً كأمثال عمر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *