العدد 306-307-308 -

العدد 306-307-308 ، السنة السابعة والعشرون، رجب وشعبان ورمضان 1433هـ

الهمّة في كشف الغمّة

الهمّة في كشف الغمّة

 

آيه عمر / فلسطين

منذ أن انبثق فجر الإسلام والصراع عنيفٌ دائم بين الحقّ والباطل، بين أفكار الإسلام وأفكار الكفر، بين المسلمين والكافرين؛ ليدفع الله الناس بعضهم ببعض، وليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره الكافرون، قال تعالى (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ).



وقد بدأ هذا الصراع فكرياً، قورعت فيه أفكار الكفر والجاهلية المنتنة، وحيث كانت بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، لاقى في سبيل حمله للإسلام كدعوة جديدة لم يألفها أهل قريش، لا سيما المتكبرين من زعمائها، من العذاب ألواناً، ولكن الله أبى إلا أن يظهر دينه على ما سواه؛ فقامت في المدينة الدولة التي تحمي ذمار المسلمين وبيضة الإسلام تنشر الهدى بين الناس بالجهاد، فكشفت عن الأمة غمة طمتها، وحلَّ فيها من الخير والنور ما جعلها قائدة للعالم ما يزيد عن ثلاثة عشر قرناً…

ثم بعد أن تخلت الأمة الإسلامية عن واجبها في حمل قيادتها الفكرية، وأهملت الدعوة إلى الإسلام، وقصرت في فهمه، ووقعت تحت تآمر قوى الكفر وغزوه الفكري والتبشيري، انتكست ونكست رايتها، وهدمت دولتها فحلت بها غمّة مدلهمة.

لقد كان لزاماً على حامل الدعوة الذي نذر نفسه لإعادة عز الإسلام أن يسير في طريقه متحدياً كل الأهوال والعقبات، عاليةً همته، لا يفتر مهما طالت به الطريق.

ونحن نقف هنا وقفة مع ما يجب أن يكون عليه حامل الدعوة الحقّة من الهمة والعزم في العمل، والبحث عن أسباب سقوط الهمة، ومن ثم  كيفية الارتقاء بها…

فالهمة: هي العزم القويّ و”ما هُمَّ به من أمر ليُفعل”، فهي الباعث على الفعل، والنفس لا يجب أن تقف دون الله ولا تتعوَّض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلاً منه، ولا تبيع حظها من الله والقرب منه والأنس به بشيء من الحظوظ  الفانية.

يقول عمر الفاورق رضي الله عنه: “لا تصغرن همتك، فإني لم أرَ أقعد بالرجل من سقوط همته”.

وإنما تقصر بعض الهمم  في بعض الأوقات، فإذا حُثَّت سارت، ومتى رأيت في نفسك عجزاً فاسأل المنعم، أو كسلاً فالجأ إلى الموفِّق، فلن تنال خيراً إلا بطاعته، ولا يفوتنَّك خير إلا بمعصيته.

وإن نفوس الدعاة وقلوبهم لا بد أن تكون ناراً متقدة عامرة بالإخلاص الخالص، منصرفة لما اتخذت من الغاية في هذه الحياة الفانية، ولعل الأخبار عن أصحاب الهمم العالية قد فاض بها التاريخ.. وفي البحث عن الحق كما فعل سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري رضي الله عنهما، وفي حمل الدعوة والجهاد في سبيل الله، ما يشحذ الهمم، وما أخبار أصحابها عنا ببعيد.

  • فها هي ذي همة ابن عباس رضي الله عنه، إذ قال: “لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: هلمَّ فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير، قال: واعجباً لك يا ابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم؟! قال: فترك ذلك وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحديث، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهوقائل فأتوسد ردائي على بابه تسفي الريح علي من التراب فيخرج فيقول يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك ؟ ألا أرسلت إليَّ فآتيك ؟ فأقول أنا أحق أن آتيك”.

  • وسعد بن الربيع رضي الله عنه، وهو في سَكَراتِ الموتِ ماذا يقول؟ فبعد معركة أحد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَنْظُرُ لِي مَا فَعَلَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَخَرَجَ يَطُوفُ فِي الْقَتْلَى، حَتَّى وَجَدَ سَعْدًا جَرِيحًا، قَدْ أَثْبَتَ بِآخِرِ رَمَقٍ، فَقَالَ: يَا سَعْدُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ لَك، أَمِنَ الأَحْيَاءِ أَنْتَ أَمْ فِي الأَمْوَاتِ؟ فقَال: فَإِنِّي فِي الأَمْوَاتِ، أَبْلِغْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنِّي السَّلامَ، وَقُلْ لَهُ: إِنَّ سَعْدًا يَقُولُ لَكَ: جَزَاكَ اللَّهُ عَنَّا خَيْرَ مَا جُزِيَ نَبِي عَنْ أُمَّتِهِ، وَأَبْلِغْ قَوْمَكَ عَنِّي السَّلامَ، وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ سَعْدًا يَقُولُ لَكُمُ: إِنَّهُ لا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ إِنْ خُلِصَ إِلَى نَبِيِّكُمْ وَفِيكُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ» ثم فاضت روحُهُ إلى بارئِها وماتَ شهيداً في سبيل الله”.

  • و معاذ بن جبل رضي الله عنه كان يقول وهو على فراش الموت: “اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا ولا طول المكث فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل وظمأ الهواجر في الحر الشديد، ولمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر”.

هكذا كان حال السلف الصالح. بيد أن الأمة، ومنذ هدم دولة الإسلام ، سقطت همتها، منذ ذهب ريحها، قال الله تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) قال جمع من المفسرين الريح الدولة، ولا شك أنه بسقوط الخلافة تمزقت الأمة الإسلامية وضاعت دولتها وقوتها، وأصبحت دويلات هزيلة، فقدت قرارها، وبسط العدو نفوذه على كثير من بلادها فأخذ ثرواتها، وزرع الشحناء والبغضاء بين أبنائها.

وسقطت الهمة عندما تم احتواء كثير من المحاولات والحركات التي سعت لإصلاح أو تغيير ما ألمَّ بالمسلمين، بل ورُسم خط سيرها من قبل قوى الكفر وعملائهم وإعلامهم… إلا من سار بفكرة واضحة نقية، وطريقة من جنس الفكرة، ولم ينافق أو يداجِ أو يداهن.

وسقطت الهمة  لما فقدت الأمة ثقتها في كل زعيم وحاكم وكل حركة وتكتل  بعد ان انكشف أمرهم وظهر زيفهم وتعرى قادتهم ، فأصبحت لا تلوي على شيء ولا تؤثر فيها الأفكار ولا تثيرها الأحداث والنكبات ، فسكتت عن كثير من الخيانات التي تزعمها حكام العرب والمسلمين ومن سار على نهجهم .

وسقطت همَّتها لما دبَّ الوهن فيها واستشرى، وركن أهلها إلى الدنيا، فمتى ما أحبت النفوس الدنيا وشهواتها ولذائذها انصرفت عن معالي الأمور وانشغلت بسفاسفها، وانصرفت عن الآخرة، روى الإمام أبو داود وغيره عن ثوبان قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم : «يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها»، فقال قائل: أومن قلة نحن يؤمئذ؟ قال: «بل أنتم يؤمئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن»، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت».

وسقطت همتها لما تغلغلت الأفكار الغربية الرأسمالية الهدَّامة، ولاسيما في مناهج التعليم، فأفسدت أبناء الأمة، وسارت بهم إلى مستنقعاتها القذرة إلا من رحم الله. ولربما كان لتوالي الضربات واستمرار اضطهاد المسلمين أثر على الهمة، لكن ذلك فقط فيمن لا يفقه حقيقة الابتلاء وسنن الله في خلقه.

رغم كل ذلك، فإن الأمة الآن أصبحت أكثر إدراكاً ووعياً لما يجري حولها. فبينها من يَصِلون ليلهم بنهارهم ليرجعوا لها الثقة بنفسها وبدينها، وبقدرتها على أن تعود أكرم وأعظم أمة إن هي لاذت بشرع بارئها واحتكمت إليه. وفي ثورات هذه الأيام أخذت تلتمس طريقها نحو الحرية حاشدة جل الطاقات لإسقاط الطغاة فاستحقت براءة اختراع في ذلك، وكان على حملة الدعوة أن يغذوا السير في هذه الأيام الفاصلة للأخذ بيد الأمة الثائرة مؤازرين لها، شادِّين عليها حتى تعلو راية الإسلام فوق كل الرايات بهمةٍ وعزمٍ قويين…

و لعل من أبرز ما يرقى بالهمم:

·   صفاء بذرة التوحيد في نفوس العاملين؛ حتى يستطيعوا إلقاءها للناس كما هي لديهم، صافية الجوهر، نقية من كل شائبة، بسيطة كل البساطة وبعيدة عن التعقيد؛ فتفتح لها عقولهم وتتشربها نفوسهم، حتى ترجع الأمة الإسلامية خلقاً جديداً وتنشأ نشأة جديدة؛ لتعود كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.

·   حسن التوكل على الله (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)، فإنَّ تَمَكُّنَ التوكل من نفوسهم يجعلهم لا يعرفون الهزيمة ولا يرضونها، ولا توهن عزائمهم، بل يحفزهم كل ما يصيبهم في أموالهم وأنفسهم وأهليهم على مضاعفة الجهد، والاستهانة بكل صعب، فيجعل التوكل في النفس قوة غير عادية، وقادرة على الاضطلاع بالمهام العظام.

·   المسارعة في الخيرات فالله جل وعلا جعل السابقين في منزلة أعلى من أصحاب اليمين (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11))، وقالَ صلى الله عليه وسلم «إنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ لَيَتراءونَ أَهْلَ الغرَفِ مِن فَوْقِهِم كما يَتراءونَ الكَوكَبَ الدُّرِّيَّ الغابِرَ في الأفقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أو الْمَغْرِبِ؛ لِتَفاضُلِ ما بَيْنَهُم. قالوا: يا رسولَ اللهِ: تِلْكَ مَنازلُ الأنبياءِ لا يَبْلُغُها غيرُهُم، قال: بَلى، والذي نَفْسي بِيَدِهِ رجالٌ آمَنوا بِاللهِ وَصَدَّقوا المُرْسَلينَ». ولا بد إلى جانب ذلك من مجاهدة النفس، والعمل على الاشتغال بالحق، فمن لم يُشغل نفسه بالحق شغلته بالباطل.

·  الإكثار من قراءة أخبار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، وكيف أنهم كانوا رجالاً أبادوا عروش الشرك وفتحوا بدمائهم وتضحياتهم أرض الإسلام، والتحفوا ثياب الصبر عند مواجهة الأعداء وصهل الخيول وصليل السيوف وتطاير رؤوس الكفار.

·  وأيضاً الابتهال والتضرع إلى الله بالدعاء وطلب النصر والعون والثبات، فمنه وحده العون والتوفيق، وهو الناصر المؤيد، وهو ملاذ المستغيثين وملجأ الضارعين.

·  دوام إدراك حامل الدعوة خطورة دوره وأهميته بين أبناء الأمة، فهو صاحب مشروع عالمي للتغيير الحقيقي، وصاحب أمانة لا بد أن يكون أهلاً لها، يثريها ويغنيها، لا عبئاً عليها.. قد تنتابه لفحة ذبول أو تراخٍ، لكنها مؤقتة عابرة لا تعني أفوله، بل سرعان ما ينهض خائضاً صراعه الفكري وكفاحه السياسي بعزيمة الشجعان، ويرنو إلى هناك… إلى دولة تصدقها الحناجر وذرف العيون أن جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً.

·   بلورة مفهوم القضية المصيرية، فإما حياة لها وبها، أو موت دونها، وهذا يوجب العمل بجد واجتهاد وإخلاص، فالنصر مع الصبر، ولا يتحقق التغيير الحقيقي إلا للعاملين الصادقين، الذين يصدقون ربهم ودينهم وأمتهم، وقضاياهم المصيرية.

وإن حامل الدعوة لصاحب همٍّ وهب نفسه لدعوته ودينه، واضعاً نصب عينيه غاية الغايات، وهي نيل رضوان الله تعالى، هذه الغاية العظيمة التي لا تفارقه كلما همّ بأمر، وهي من أجلِّ ما يبعث الهمة والعزم في النفس
فتهوِّن على صاحبها كل مصائب الدنيا وتذلِّل مصاعبها، بل حتى إن حامل الدعوة يستعذبها  ويشق غمار الحياة من علي إلى أعلى بها، ينزع للكمال، وينقِّب عن الحقائق من غير كلل ولا ملل، ولا يأبه بقلة السالكين ووحشة الطريق، ويخلص لفكرته لا يشرك بها شيئاً من مصالحه أو مطامعه أوخوفه على حياته ورزقه، قال تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)).

اللهَ نسأل أن يعلي هممنا، ويشدَّ من أزرنا في طاعته وحمل دعوته، ويبلغنا ما تصبو إليه نفوسنا وتتوق له قلوبنا من العيش في ظل خلافة الإسلام الراشدة وحكم الله الرشيد… إنه سميع قريب مجيب. والحمد لله رب العالمين.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *