العدد 167 -

السنة الخامسة عشرة ذو الحجة 1421هـ – آذار 2000م

خُطْبة جُمُعة أُلقيَتْ في أحد مساجد بيت المقدس

          أما بعد أيها المسلمون:  أوصيكم بتقوى الله ولزوم طاعته، وأحذركم من عصيانه ومخالفة أمره، واعلموا أن التقوى وقاية، والمعاصي غواية، وأنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين. فاتقوا الله عباد الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. وبعد أيها الناس: لقد طفح الكيل، وبلغ السيل الزبى، وفاض نضح الخيانة في كافة ربوع فلسطين، وأزكمت رائحة التآمر أنوفَ المخلصين. فما بالكم لا تغضبون، وللخيانة والتآمر لا تستنكرون، أرضيتم ببيع فلسطين؟ أم تراكم مع البائعين متآمرون؟ ظني بكم أنكم على دينكم غيورون، وللباطل كارهون، وللتخلي عن الأقصى رافضون، فماذا دهاكم، فإني أراكم ساكتين؟ هل خُيِّل إليكم من سحرهم أنكم حررتم فلسطين، واسترجعتم السيادة على الأقصى الحزين؟ هل تنتظرون زعيم البيت الأبيض المدْبرَ ليزيل الاحتلال الجاثم فوق صدوركم وقبوركم، أم تراكم تأملون مِنْ خَلَفِهِ القادمِ أن يعيد إليكم اللاجئين ويسكنهم في إفرات ومعالي أدوميم؟ هيهات هيهات لما توعدون! إن هي إلا مؤامرة كبيرة، صنعت على عين بصيرة، ونفذت بأيدي شريرة، وأنتم تنظرون.

          أيها الناس:  إن دماء الشهداء ما جفت، وأقلامَ الاتفاقيات ما رفعت، ووفودَ التفاوض والتآمر كلما عادت من الوكر رجعت، واللقاءات السرية ما انقطعت، وجراحَ الجرحى ما التأمت، والإغلاقات ما رفعت، والأطواقَ الأمنيةَ ما كسرت، والاغتيالات البشعةَ رؤوسَ القوم قد طالت، وإلى ظعينة مسافرة وصلت. إجراءات مميتة، وتعقيدات متعمدة، وإخراج يقتل صبر المراقب، ويحبط آمال المنتظر، ولكنها قواعد اللعبة، ومقتضيات المسرحية، حتى تنطليَ الحيلة، ويقول الجميع ليس بالإمكان أبدع مما كان.

          أيها الناس:  خمسون عاماً ونيف ومسلسل الخيانة مستمر، والحكم الجبري مستقر، وأجيال النكبة تندب حظها العاثر. وأهل فلسطين في صمت مريب على ما يمارس ضدهم، وليسوا في ذلك أكثر من مراهنين على حصان خاسر اسمه السلام الذي لن يجلب عليهم إلا الدمار، وفوق الدمار الخزي والعار، ولعن الأجيال القادمة. هل يرضى الإسلام بالمساومة على أرض الإسراء؟ وهل يحل شرعاً تقاسم السيطرة على المسجد الأقصى بين الكفر والإيمان؟ وهل السيادة في الإسلام محل نقاش عند من بقي لديهم ذرة من إيمان؟

          أيها الناس:  إن الذين يراهنون على المفاوضات ويأملون أن تحقق لهم أميركا الوعود بالاستقلال وحق العودة وتقرير المصير، إنما استزلهم الشيطان ببعض ما اكتسبوا، وتلك نتيجة حتمية للجهل السياسي والضحالة الدينية والسير وراء السراب الخادع. ماذا جلبت علينا الإضرابات والوفود والمفاوضات وأعمال الاحتجاج من زمن الاحتلال البريطاني ومروراً بالحكم الأردني وانتهاءً بالاحتلال الإسرائيلي؟ وما الذي جنيناه من تضحياتنا بأبنائنا وأموالنا وجهودنا وأوقاتنا؟ إن الجواب الصادق على هذا السؤال يكمن في كلمات موجزة: إحتلال إسرائيلي للجزء الأكبر من فلسطين، واحتلال أميركي بغلاف فلسطيني لما تبقى، حتى إني سمعت أحدهم يذكر اقتراحاً أميركياً يطلب فيه خضوع منطقة المسجد الأقصى للقانون الفيدرالي الأميركي، حيث ستنتهي مرجعية حراس الأقصى عند بوابات البيت الأبيض، وإذا تنازعوا مع غيرهم فالمحكمة المركزية الفيدرالية الأميركية هي التي ستفصل في ذلك النزاع! ولسان حال المتآمرين يقول: وإن تنازعتم في شيء فردوه إلى البيت الأبيض ورجاله فهم الأقوى والأقدر على حل المشاكل. وأما المؤمنون فيقولون بقول الله جلت قدرته: ]وإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلاً[. أما اليهود فقد سعوا إلى بوابات الأقصى واحتشدوا عند مداخل البلدة القديمة من بيت المقدس ليرفعوا شعارات تقول بأن القدس لهم. وأما بنو قومنا فالمغنية اللبنانية النصرانية تغني لهم من وراء الحدود فتقول القدس لنا، والجنرال الباكستاني في بروازه الأميركي يزور سوريا والأردن ولبنان معلناً تضامنه مع شعب الانتفاضة وحقه في العودة إلى وطنه. فما هي القصة الحقيقية لمثل هذه التحركات المشبوهة في هذا الظرف بالذات؟ إن المسألة تكمن في ضغط أميركا على إسرائيل كي تقبل بالمقترحات الأميركية التي تسعى لرسم الشكل النهائي لحدود دولة إسرائيل من الشرق كما رسمتها بدقة من الجنوب والشمال، والخطوة الأولى تبدأ بتثبيت حدود للكيان الفلسطيني العتيد، ثم الانتقال إلى حدود كل منهما مع الأردن وسوريا. ويشكل هذا الأمر كابوساً على الساسة اليهود كونهم لا يريدون الوصول إلى صيغة نهائية تحجم وجودهم، فبدأ مسلسل المراوغة بما شهدته الساحة السياسية الإسرائيلية مؤخراً. وإذا فاز مرشح اليمين فإن العملية السلمية سترجع إلى مربعها الأول، ولذلك كان لا بد من التلويح بالنووي الإسلامي الباكساني، كما تم من قبل التلويح بالشهاب الإيراني.

          أيها الناس:  لو قرأ أعضاء الوفد المفاوض قول الله سبحانه وتعالى: (أوَ كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون) وحملوه على محمل الجد لحزموا حقائبهم وعادوا إلى بيوتهم، ولتحولوا فوراً إلى العمل البديل والوحيد، وهو الانخراط في صفوف العاملين المخلصين لإقامة دولة خلافة المسلمين. ولكنهم، مع الأسف، جزء من هذه المؤامرة الخبيثة التي ستودي بحياة فلسطين ومقدساتها وسكانها إلى الهاوية. وسيبقى اللاجئ لاجئاً، والنازح نازحاً، والمهاجر مهاجراً، حتى إشعار آخر، فإما التعويض وإما التوطين. أما ما يتشدقون به من حق العودة وأنه ثابت من الثوابت الوطنية وغير ذلك من الشعارات الرنانة، فتلك شنشنة نعرفها من أخزم، وقد عرفنا جيداً ماذا حصل في ثوابتهم التي لا تختلف عن ثوابت إخوانهم العرب، فلا صلح ولا مفاوضات ولا سلام، واليوم صلح ومفاوضات واستسلام، وقد عفا الزمن على الميثاق الوطني.

          أيها الناس:  لست أدعي ملكية المسجد الأقصى ولستم تدعون ذلك، بل هو ملك للمسلمين، وينبغي أن لا يقل أحد غَيْرةً عليه مني أو منكم، ولست أزعم أني مكلف وحدي ببيان الحكم الشرعي في خيانة العصر وأُم الخيانات، ولا أنتم تزعمون ذلك، بل إنه واجب على كل مسلم غيور على دينه وأمته أن يرفع عقيرته ويصيحَ بأعلى صوته في وجوه الخونة من أبناء فلسطين ومن يساندهم من حكام العرب والمسلمين قائلاً: رويدكم أيها المهرولون، فأنتم تسيرون بشعوبكم نحو التهلكة، وإنا والله لكم لمن الناصحين. فإن قبلتم نجوتم ونجونا معكم، وإن رفضتم النصيحة هلكتم وأهلكتم السائرين معكم والمتفرجين عليكم، وما نحن من بلائكم ناجون، ولا يجوز لنا تأخير البيان عن وقت الحاجة. ولا ينطبقن عليكم قولُ الشاعر:

أمرتُهمُ أمري بمنعرج اللوى                  فلمْ يستبينوا الرُّشْد إلا ضحى الغدِ

          وإنا وإياكم ينطبق علينا ما رواه البخاري وغيره عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوْا ونجوْا جميعاً». أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فادعوا ربكم يستجب لكم.

          الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قاصم الجبارين، ومبيد الظالمين، ومذل المستكبرين، وماحقُ الخونة والمتآمرين، وناصر المستضعفين من المؤمنين ولو بعد حين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين، وبعد ،

          أيها الناس:  إن اجتماعات القاهرة وغزة السرية والعلنية ليست للتفاوض وتبادل الآراء حول المواقف والمستجدات، ولو أنها كانت كذلك لكان أعضاؤها من السياسيين، ولكن لما كان أعضاؤها من رجال المخابرات فإن ذلك يعني أنهم يبحثون ترتيبات التنفيذ لما تم الاتفاق عليه عبر سلسلة طويلة من اللقاءات السياسية. فما هو هذا الذي تم الاتفاق عليه؟ إنه إجراءات عملية وسريعة لإنهاء الصراع مع يهود، واستغلال الدماء الزكية التي أريقت على الأرض المباركة، وحالة القهر والحرمان والجوع التي وضع فيها الناس عن قصد من قبل اليهود وبالتعاون مع السلطة بغرض تصفية القضية الفلسطينية وتثبيت كيان يهود. وبالتواطؤ الرخيص من قبل حكام العرب والمسلمين الذين أعطوا الفلسطينيين تفويضاً رسمياً من خلال مؤتمرات قممهم الأخيرة واجتماع وزراء خارجيتهم في القاهرة للسير في الحلول التصفوية. وعلى هذه الخلفية التآمرية تم الاجتماع بين أجهزة المخابرات الأربعة في مصر برئاسة رئيس جهاز المخابرات المركزية الأميركية CIA.

          أيها الناس:  يجب أن تتذكروا أن كل ما يطرح من تصريحات على لسان الحكام ورجالات السلطة والسياسيين هو لتضليل الأمة، خصوصاً ما يتعلق منها بموقف جهابذة التفاوض من أبناء فلسطين بأنهم لن يقبلوا أي اتفاق إلا إذا شمل حق العودة والسيطرة على القدس والمقدسات وكامل أراضي الضفة الغربية وغزة، فإن كل ذلك للاستهلاك اليومي وسيصبح هشيماً تذروه الرياح. وحتى لو تم لهم ذلك فإن مجرد التوقيع على اتفاق يعطي إسرائيل الشرعية على أي بقعة من أرض المسلمين هو خيانة لله ورسوله والمؤمنين، وتفريط في أرض الإسلام وبيع صريح لفلسطين. وليعلم الجميع أن خيانة الله ورسوله وجماعة المؤمنين أشد وأفظع مما يسمونه خيانة الوطن أو الخيانة العظمى. أما أنتم يا رجال السلطة، ويا أبناء فتح على وجه الخصوص، فإن مسؤوليتكم أمام الله وأمام الناس كبيرة إن سكتم عن هذه المهزلة. وأما أنتم يا أبناء الحركات الفلسطينية وطنيها وإسلاميّها فلا يصح أن تنطليَ الحيلةُ عليكم، وأنتم تزعمون أنكم طلائعُ هذا الشعب، والنخبةُ الفاعلة فيه، فكونوا على مستوى المسؤولية، واضغطوا على زعاماتكم وقياداتكم ليعلنوا رفضهم الصريح لجميع الاتفاقيات التي عقدت وستعقد، فإن فعلوا فبها ونعمت، وإلا فأعلنوا أنتم لهم رفضكم بكل صراحة ووضوح وجرأة، وقوموا فوراً بالانسحاب من تلك الحركات، وذروا الذين يتفاوضون ويوافقون في غمرة ساهون حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون.

          أيها الناس:  لقد آن أوانُ المفاصلة مع المفرِّطين، وآن أوانُ رفض هذه الجريمة النكراء، فإن ذلك فوق كونه واجباً شرعياً، فهو مطلبٌ إنساني مُلِحٌّ وعاجل، فإذا فاتكم القيام به ومرت الجريمة ـ لا سمح الله ـ فسينالنا غضب من الله عظيم، وسيحل بنا ندم شديد أن مكنّا للعلمانيين أمرهم ونحن نشهد أن لا إله إلا الله  محمد رسول الله، وعندها لن ينفعنا مال ولا بنون.

          فاللهم اشهد أنا نبرأ إليك من خيانة الخائنين وتآمر المتآمرين، اللهم إنا مغلوبون فانتصر لنا، اللهم إنا مقهورون فخذ لنا ممن قهرنا، اللهم إنا مظلومون فعليك بمن ظلمنا وآذانا، اللهم اجعل جمعنا مرحوماً مغفوراً، واجعل تفرقنا من بعده معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا شقياً ولا محروماً. اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم عجل لنا بفرجك وبنصرك وبقيام دولة الإسلام التي فيها حكمك، إنك يا مولانا على ما تشاء قدير، وبإجابة دعائنا قريباً جدير، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *