العدد 167 -

السنة الخامسة عشرة ذو الحجة 1421هـ – آذار 2000م

آيةُ الدَّيْن (2)

          (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأبَ كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأبَ الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضارّ كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم(282))  [البقرة].

          (وليكتب بينكم كاتب بالعدل) (الباء) إما متعلقة بـ (وليكتب) أو بـ (كاتب).

          فإن كانت على الأول أي وليكتب بالعدل بينكم كاتب، أي أن المطلوب أن تكون الكتابة بالعدل وإن لم يكن الكاتب عدلاً أي لو كان غير مسلم وكان جيداً في الكتابة غير متحيز مأموناً، فإن ندب الكتابة يتحقق به.

          وإن كانت على الثاني ـ أي تعلقت الباء بالكاتب ـ فإن المعنى يكون: وليكتب بينكم كاتب عدل: أي أن يكون الكاتب عدلاً وهذا يعني مسلماً غير ظاهر الفسق، يتقي الله في كتابته، يفقه ما يكتب ويحسنه.

          والراجح هو الثاني بقرينة ما جاء بعدها (ولا يأبَ كاتب أن يكتب كما علمه الله) والذي لا يرفض أن يكتب لأن الله علمه الكتابة ومنّ عليه من فضله هو المسلم العدل.

          ولذلك يكون المعنى (وليكتب بينكم كاتب صفته أنه عدل، أي مسلم غير ظاهر الفسق فقيه لما يكتب مأمون فيه).

          وأما ذكر (بينكم) للدلالة على أن الكاتب مختار من الطرفين غير متحيز لأحدهما وأن يكون غيرهما، أي أن لا يكون الكاتب أحد الطرفين ولا مرتبطاً أو متحيزاً لأحد الطرفين، بل يكتب (بينكم) فهو كاتب محايد.

          (ولا يأبَ كاتب أن يكتب كما علمه الله) لا يرفض الكاتب أن يكتب، والرفض هنا على الكراهة لأن النهي عن رفض الكتابة لم تصحبه قرينة جازمة فهو نهي غير جازم أي مكروه.

          (كما علمه الله) أي لا يرفض الكتابة بل يكتب بسبب أن الله منّ عليه بتعليم الكتابة، فيساعد الآخرين بالكتابة لهم شكراً لله على توفيقه له بتعلم الكتابة بعد أن لم يكن يعلمها، وهذه كما قلنا قرينة على أن الكاتب المخاطب مسلم عدل يدرك نعمة الله عليه بتعليمه الكتابة، ولذلك فعلى الدائن والمدين أن يختارا كاتباً عدلاً للكتابة بينهما.

          (فليكتب) أمر بالكتابة، وهو على الندب بدلالة ذكر الله قبلها (أن يكتب كما علمه الله) أي كما علمه الله الكتابة بعد أن لم يكن يعلمها فليحسن للآخرين بالكتابة إليهم إن كانوا في حاجة إليه.

          (وليملل الذي عليه الحق) وهو كذلك مندوب لأن الكتابة بناء عليه.

          (فليكتب وليملل الذي عليه الحق) وتذكيره بالتقوى يؤكد الندب كذلك (وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً).

          (وليملل) من الإملال أي الإلقاء على الكاتب ما يكتبه، وفعله أمللت.

          (الذي عليه الحق) أي المدين فهو الذي يذكر للكاتب الدين الذي عليه زيادة في التوثيق، فاعتراف المدين بالدين أقوى من ادّعاء الدائن أن له ديناً، فالمدين هو الذي يملل على الكاتب.

          (وليتق الله ربه) تذكير له بتقوى الله وحثّ له على الصدق في القول وتحري الحقّ فيما يقول.

          (ولا يبخس منه شيئاً) أي لا ينقص من الحق شيئا، وذكر (شيئاً) وتنكيرها للدلالة على عدم تنقيص أي جزء من الحق مهما كان قليلاً.

          (فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً) أي إذا كان المدين (سفيهاً) والسفيه الجاهل خفيف العقل بذيء اللسان، وهي هنا (بذيء اللسان) وهو الذي إن ترك له الإملال على الكاتب سيأتي كلامه سيئاً.

          يقول: سافهه: شاتمه، ومن المثل: سفيه لم يجد مسافهاً، فالسفيه بذيء اللسان.

          (أو ضعيفاً) أي ضعيف الرأي لا يستطيع ترتيب الأمور أو إخراج الكلام على نسق، فإن ترك له الإملال فقد يقدم أو يؤخر أو يأتي بالكلام مضطرباً فيفسد المعنى.

          (أو لا يستطيع أن يملّ هو) أي لا يمكنه الحديث الواضح لعيّ في لسانه أو خرس كما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.

          وما قلناه سابقاً هو الراجح لدينا وذلك لأن الآية تفيد:

          أ. إن الأصناف التي تمنع من الإملال لا يمنع تعاملها بالدين لأن الآية تبدأ (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين) فتعاملهم بالدين صحيح شرعاً، وعليه لا يصحّ أن يكون في تفسير (سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو) مثل المجنون أو المحجور عليه أو الصغير الذي لا تصح عقوده أو أمثالهم.

          ب. كذلك فإن تفسير هذه الأصناف بالغائب مرجوح كذلك لأن الآية ترجح وجود المدين لكنه لا يستطيع الإملال (وليملل الذي عليه الحق فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليه بالعدل).

          ج. لا يصحّ تفسير الأصناف الثلاثة أو صنفين مثلاً بمعنى واحد لأن الآية تدل على أنهم أصناف ثلاثة، وكلّ صنف غير الآخر (سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو).

          د. أن يكون للتفسير أصل في اللغة.

          وبناء عليها أقول: إن ما ذكرته في التفسير هو الراجح فيها.

          وهذه الأصناف الثلاثة تمنع من الإملال على الكاتب ويملي على الكاتب بدلاً منها وليهم.

          وعلى الولي في هذه الحالة أن يملي بالحق عمن ولاه فلا يغير شيئاً من الحق الذي على وليه لا بالزيادة ولا بالنقصان بل يملي بالحق، والحق وحده فهو قائم مقام المدين.

          (وليملل وليه بالعدل) (وليه) الضمير هنا عائد إلى من عليه الحق أي المدين، فهو يعني (ولي المدين).

          (بالعدل) يعود على الإملال لأن الولي وبخاصة الشرعي منه محدد في الشرع كأبيه أو ابنه أو أخيه أو ما يقرره الشرع، وحيث قد عين الولي فيصبح المطلوب أن يملل هذا الولي على الكاتب بالعدل أي بالحق والصدق.

          (واستهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى).

          يبين الله سبحانه أن يُشهد الطرفان على الكتابة رجلين أو رجلاً وامرأتين لتذكر إحداهما الأخرى إن نسيت بعض الوقائع.

          وأن يكون الشهداء عدولاً وذلك بدلالة (من رجالكم) أي منكم وبدلالة (ممن ترضون من الشهداء) وحيث إنَّ الخطاب من بدايته للمؤمنين أي أن يكون الشهداء ممن يرضاهم المؤمنون، وهذا يعني أن يكونوا عدولاً مسلمين أي أن الإسلام ظاهر عليهم في تصرفاتهم، وأن يكون الفسق ـ مخالفة أحكام الإسلام ـ غير ظاهر عليهم فهم بذلك يكونون عدولا تقبل شهادتهم.

          (فرجل وامرأتان) رجل رفع على الابتداء (وامرأتان) معطوف عليه، والخبر محذوف أي إن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان يقومون مقامهما وهي تفيد كذلك أن شهادة امرأتين مع رجل تقبل سواء كان هناك رجال أم لا، أي إن لم يأتِ الطالب برجلين فليأتِ برجل وامرأتين، فإن أتى بأي الحالتين جاز وليس المعنى أن جواز شهادة رجل وامرأتين لا تصح إلا مع عدم الرجال لأنها لو كانت كذلك لكانت الآية (فإن لم يكن رجلان فرجل وامرأتان) وتكون (كان) تامة بمعنى إن لم يوجد لكن (فإن لم يكونا رجلين) أي إن لم يأتِ بشاهدين رجلين فله أن يأتي بشهود رجل وامرأتين.

          (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) أي إن شهادة امرأتين مكان واحدة لأجل أن تذكر الواحدة الأخرى لو نسيت جزءاً من الوقائع.

          (أن تضل) في محل نصب مفعول لأجله.

          وتكرار إحداهما بدل القول (أن تضل فتذكر الأخرى) وذلك للمبالغة في الاحتراز عن توهم اختصاص الضلال ـ بإحداهما ـ بعينها والتذكير بالأخرى بل المقصود أن التي تنسى تذكرها الأخرى وقد تكون هذه أو تلك.

          (أن تضل) أي أن تنسى، والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء ويبقى المرء حيران بين ذلك ضالاً، ومن نسي الشهادة جملة فليس يقال ضلّ فيها.

          ومن الجدير ذكره أن قبول شهادة النساء في المعاملات المالية جعلها الله سبحانه بهذه الكيفية اثنتين مقام واحد من الرجال، ودلالة الآية (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) تفيد أن احتمال نسيان النساء كشاهدات في وقائع المعاملات المالية أكبر من احتمال نسيان الرجال ولعل ذلك بسبب قلة تواجد النساء في المعاملات المالية، فحضورهن لجميع الوقائع المالية أقل من تواجد الرجال وحضورهم، فكانت اثنتان تكملان شهادة بعضهما إن نسيت واحدة بعض الوقائع أو فاتها الحضور الكامل لها ذكرتها الأخرى وأكملت الشهادة، وهي في هذه الحالة كأنها بعدم متابعتها أحداث الواقعة المالية بحذافيرها تقومان مقام رجل واحد لمتابعته أحداث الواقعة بدرجة أكبر وذلك بسبب اختلاف واقع تواجد الرجال والنساء كشهود على الوقائع المالية الجارية، لأن الشهادة يجب أن تكون بناء على حضور واضح لا لبس فيه للواقعة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن الشهادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ترى هذه الشمس، فاشهد على مثلها أو دع”(1).

          ويؤكد ذلك أن شهادة النساء واحدة أو أكثر في الأمور التي تتواجد فيها النساء عادة كالولادة والإرضاع وأمثالها هي المعتمدة .

[يتبع]

ــــــــــــــ

(1) تفسير القرطبي: 3/39، ضعفاء العقيلي: 4/69، نصب الراية: 4/82، وقال ضعفه الذهبي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *