العدد 162 -

السنة الرابعة عشرة رجب 1421هـ – تشرين الأول 2000م

الرّبـا جـريمـةٌ كبـرى

          (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون(275) يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كلّ كفار أثيم(276) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون(277) ) البقرة.

          بعد أن بين الله سبحانه أجر المنفقين حلالاً طيباً في سبيل الله، بين في هذه الآيات مصير أولئك المنفقين حراماً وعصياناً لله سبحانه ولرسوله صلوات الله وسلامه عليه.

          وذكر الله سبحانه في هذه الآيات (الربا) وبين عظم جريمته وسوء صنيع أهله والعقاب الشديد والعذاب الأليم على هذه المعصية الشنيعة والمنكر العظيم:

  1. فقد ضرب الله مثلا للذي يأكل الربا كمن يتخبط من الصرع، يقف ويقع فيضطرب في مشيته ووقوفه وجلوسه فالجنون قد أخذ منه كل مأخذ، وذلك لأنه يعتبر الربا كالبيع، والله قد حرم الربا وأحل البيع.

          ثم يعفو الله سبحانه عما مضى من ربا الجاهلية، ويبين للمؤمنين أن عليهم بعد نزول تحريم الربا أن يلتزموا، ويطيعوا الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن تعامل بالربا بعد نزول التحريم مستحلا لما حرمه الله فقد استحق العذاب الأليم، وكان من أصحاب النار خالداً مخلداً فيها.

          (الذين يأكلون الربا) أي يأخذونه، ويعمّ كل انتفاع به. وقد استعملت (يأكلون) في القرآن الكريم للدلالة على الذم (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنماً يأكلون في بطونهم ناراً) النساء/ آية10 (يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم) محمد/ آية12 وهي هنا كذلك.

          (لا يقومون) أي يوم القيامة.

          (إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) أي أنهم يبعثون من قبورهم، يقومون كما يقوم المتخبط المصروع في الدنيا ـ أي المجنون ـ وذلك خزي لهم يومئذ وهي قرينة على النهي الجازم عن الربا والذي تكرر تأكيد تحريمه في هذه الآيات.

          (من المس) أي الجنون، يقال: مُسّ الرجل فهو ممسوس إذا جن. والخبط هو الضرب على غير استواء كخبط العشواء.

          وقد وردت روايات في تفسير (كالذي يتخبطه الشيطان من المس) والراجح منها أن الإنسان حين يصاب بالجنون يصبح للشيطان تأثير أكبر عليه من ضلال وسوساته، فيخيل إليه أمور كثيرة تؤدي بالمجنون للتخبط.

          أما القول بأن الشيطان هو الذي يصرعه أو يؤدي به إلى الجنون فالآية لا تنطق بهذا، فالله سبحانه لم يقل (يتخبطه الشيطان بالمس) أي يصيبه الشيطان بالجنون وإنما الآية (يتخبطه الشيطان من المس) أي يتخبطه الشيطان بسبب جنونه، أي أن الجنون سابق لتخبط الشيطان.

          كذلك فإن القول بأن (يتخبطه الشيطان من المس) من باب الكناية والمجاز حسب أساليب العرب في إطلاقهم على المصروع أن الجن قد مسته أي أصابته بالجنون ـ فهم قد اشتقوا الجنون من الجن ـ فإن ذلك مرجوح لأنه لا يعمد للكناية والمجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة، والحقيقة هنا لا تتعذر فلا يتعذر أن يوسوس الشيطان للمجنون بتخيلات عدة يجعله يتخبط فيقال (تخبطه الشيطان). ولعل الذين تأولوا أساليب العرب من الكناية والمجاز كانوا يردون على من قال إن الشيطان هو الذي يصرع الشخص ويصيبه بالجنون، ولأنهم يرون أن الشيطان لا سلطان له بإصابة المرء بالجنون (وما كان لي عليكم من سلطان) إبراهيم/ آية22، فقالوا ما قالوه.

          وقول كليهما مرجوح، والراجح ما قلناه وكما بيناه.

          والغريب ما تجده في تفاسير الفريقين من تحامل على بعضهما لمخالفته رأيه في الموضوع حتى ليكاد بعضهم يخرج الآخر من الملة في الوقت الذي لا تقطع الآية برأي أي منهما.

          كما إني لم أطلع على حديث صحيح في تفسير الآية إلا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حادثة الإسراء والمعراج وهو لا يقطع برأي أحدهما: “فانطلق بي جبريل فمررت برجال كثير كلّ منهم بطنه مثل البيت الضخم…» إلى أن يقول: «فإذا أحس بهم أصحاب تلك البطون قاموا فتميل بهم بطونهم فيصرعون، ثم يقوم أحدهم فيميل به بطنه فيصرع…» إلى أن يقول: «قلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس»(1) فهي تشبه آكلي الربا الذين يصرعون لتمايل بطونهم به لثقلها بالذي يتخبطه الشيطان من المس.

          وعليه فلا آية ولا حديث يقطع برأي أحدهما في تفسير الآية.

          وما دام الأمر كذلك، أي لا حقيقة شرعية في تفسير الآية بقي أن نعمد إلى اللغة، فالقرآن نزل بلغة العرب فنجد الراجح ما قلناه: إن مثلهم كمثل الذي يتخبطه الشيطان من المس أي بسبب الجنون، أي أن الجنون يسبق تخبط الشيطان للشخص فيجن الشخص بسبب من الأسباب ثم يتخبطه الشيطان بوسوساته وتخيلاته.

          فلم يصرع الشيطان الشخص أي لم يجعله مجنوناً وإلا لكانت الآية الكريمة (كالذي يتخبطه الشيطان بالمس) والباء تفيد الإلصاق أي بالجنون أي يصيبه بالجنون، وفي نفس الوقت لا يلجأ إلى الكناية والمجاز فيصرف معنى الشيطان عن حقيقته لأن الحقيقة لا تتعذر.

          وفي جميع الحالات نقول: إن هذا ما نرجحه ولا نقطع به، ومن كان لديه ترجيح أقوى حسب أبحاث اللغة وأقسام الكتاب والسنة يتبع.

          وهذا المثل تصوير حسي فظيع لشدة جريمة آكلي الربا، وهذه النتيجة قائمة عند جميع المفسرين على اختلاف فهمهم للمثل المضروب.

          ويغفر الله لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان على ما كتبوه عن بعضهم في تفاسيرهم والله المستعان.

          (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا) أي أن المثل الفظيع الذي ضرب لهم لشدة جريمتهم (كالذي يتخبطه الشيطان من المس) هو بسبب استحلالهم للربا واعتبارهم إياه كالبيع، وفي هذا دلالة على ما يصيبهم من خزي وعذاب في الدنيا والآخرة.

          (وأحل الله البيع وحرم الربا) جملة مستأنفة من الله تعالى رداً عليهم وإنكاراً لتسويتهم بين الربا والبيع.

          (فمن جاءه موعظة من ربه) فمن بلغه وعظ بأن الربا حرام أي من بلغه التحريم، و(من) شرطية وسقطت علامة التأنيث في (جاء) لأن تأنيث الموعظة غير حقيقي بل هي بمعنى (وعظ) فذكر الفعل لأجل ذلك.

          (فانتهى) عطف على (جاءه) واقتران الفاء به للدلالة على سرعة الاتعا ظ عند بلوغه النهي بلا تراخٍ.

          (فله ما سلف) الفاء داخلة على جواب الشرط، والمراد لا يسترد منه ما تقدم أخذه واكتمل قبل التحريم، أما المعلق منه فيطبق عليه (فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون).

          (وأمره إلى الله) أي أمر هذا الذي انتهى فله ما سلف، أمره في مستقبله إلى الله فهو سبحانه الذي يعلم مدى التزامه بالانتهاء عن الربا.

          (ومن عاد) أي من عاد إلى سالف عهده يقول البيع مثل الربا أي يعود إلى استحلال الربا، (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) لأنه بعودته لاستحلال الربا يكون قد كفر وارتد عن الإسلام، والكافر يخلد في النار.

  1. ثم يبين الله سبحانه في الآية التالية عاقبة المرابي وعاقبة المتصدق، فالله لا يبارك مال الربا في الدنيا، ويعد لصاحبه عذاباً أليماً في الآخرة.

          وهو سبحانه يبارك الصدقة ويعد لصاحبها أجراً عظيماً في الآخرة.

          ثم يختم الله الآية الكريمة بأنه سبحانه يبغض الكفار الآثمين، وفي هذا دلالة تنبيه وإيماء بأن الذين يعودون لتحليل الربا ومساواته بالبيع هم كفار آثمون.

          (يمحق الله الربا) أي يذهب بركته وإن كان كثيراً. روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الربا وإن كثر فعاقبته إلى قل»(2).

          والمحق: النقص والذهاب، ومنه محاق القمر وهو انتقاصه.

          (ويربي الصدقات) ينميها في الدنيا بالبركة ويضاعف ثوابها في الآخرة. أخرج مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: «إن صدقة أحدكم لتقع في يد الله فيربيها له كما يربي أحدكم فُلُوَّه أو فصيله حتى يجيء يوم القيامة وإن اللقمة على قدر أحد»(3).

          (والله لا يحب كلّ كفار أثيم) أي كل كفار باستحلال الربا، أثيم بالتمادي في أكله وعصيان الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم. واختيار صيغة المبالغة في كفّار أثيم للدلالة على فظاعة جريمة الربا.

  1. وفي الآية الثالثة يعد الله سبحانه الذين اعتقدوا الإسلام والتزموا أحكامه الشرعية بأن لهم أجراً عظيماً عند الله ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

          (إن الذين آمنوا) أي آمنوا بالله ورسوله وكتبه واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله سبحانه كما بيناه سابقاً.

          (وعملوا الصالحات) أي التزموا الأحكام الشرعية وطبقوها على وجهها المبين في كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

          (وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) هذا في باب ذكر الخاص بعد العام لأهميته، فالصلاة والزكاة داخلتان في قوله سبحانه: (وعملوا الصالحات) وذكرهن بعد ذلك للتنبيه على عظم فضلهما q

)يتبع(

ــــــــــــــ

(1) أحمد: 2/353، 363، مسند الحارث بن أسامة: 1/17، ابن ماجه: 2/763 رقم: 2273.

(2) ابن ماجه: 2270، أحمد: 1/395، 424.

(3) البخاري: 1321، مسلم: 1685.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *