العدد 203 -

السنة الثامنة عشرة ذو الحجة 1424هـ – شباط 2004م

(الميثاق الإسلامي في لبنان) ميثاق استسلامي

(الميثاق الإسلامي في لبنان)

ميثاق استسلامي

عقد في بيروت في 14/12/2003، بدعوة من الجماعة الإسلامية في لبنان، مؤتمر للتوقيع على ما سمي بـ (الميثاق الإسلامي في لبنان) وقد بدا في هذه الميثاق استسلام واضح للهجمة الشرسة على الإسلام والمسلمين، وحوى أفكاراً تعارض القطعي من الإسلام. ولو أنه كان ميثاقاً خاصاً بمقدميه لما كتبنا عنه، ولكنه عام، ومعروض للعمل به باسم المسلمين في لبنان.

إن هذه المقالة لا تعدو أن تكون أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، فهي دعوة صادقة إلى المسلمين العاملين لأجل تحقيق أمر اللَّه، بأن تكون العبودية للَّه وحده، وأن تكون أفكار المسلمين ومواقفهم، وبخاصة العاملين منهم، مأخوذة من الإسلام، ومبنية عليه، وغايتها إرضاء اللَّه تعالى.

إن المطلوب من المسلمين هو المسارعة في دين اللَّه، وليس في الذين كفروا، والتذكير بالإيمان وثمراته، وبالإسلام وأحكامه، ورفع همم المسلمين ليدخلوا الصراع في مواجهة الكفر وطواغيته، ودفعهم ليعملوا مع العاملين على جمع طاقات الامة الهائلة، وتحويلها إلى قوى مؤثرة، ترهبها الشعوب والأمم، بدل أن يكونوا يائسين، متهالكين على إرضاء رؤوس الكفر، متذرعين بحالة الضعف، وبقصد المصلحة، ولو خالفت الشرع.

إن أي ميثاق يقبل به مسلم، يجب أن يكون مبنياً على الإسلام، او منبثقاً عنه. فالمسلمون لا يتواثقون على ما يخالف الشرع. فالميثاق لغة وشرعاً هو العهد، قال تعالى: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ)[الأعراف/169]. والميثاق المذكور ليس مبنياً على الإسلام، بل يتناقض معه تناقضاً قطعياً، ومليء بالمحرمات، وسنتجاوز عن كثير من المخالفات التفصيلية فيه ونركز على ثلاث نقاط فقط. فالعقلية التي يصدر عنها الميثاق غير إسلامية، بل مشبعة بالعقلية الغربية المبثوثة في كل فقراته وتفاصيله.

النقطة الأولى: وهي مما جعلها الميثاق من منطلقاته الفكرية، وذكرها تحت عنوان (قضية تطبيق الشريعة) فقد جاء في الصفحة الرابعة: (يتألف لبنان من ثماني عشرة طائفة، معترفاً بها، ومن البديهي أنه لا يمكن أن تفرض أية طائفة على الآخرين نظرتها، ونظامها وتشريعاتها، وديننا يأبى أن نفرض على الناس ما لا يريدون. والقرآن الكريم ينص بوضوح على أنه ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[البقرة/256] والدين في نظر الإسلام ليس مجرد العقيدة، بل يشمل كل أنواع التشريع للفرد والمجتمع).

إن هذا القول لا ينطلق من شرعية الإسلام، بل إنه يعطي الشرعية لنظام الكفر. فقوله (ثماني عشرة طائفة معترفاً بها) فما هو مصدر هذا الاعتراف؟ إنه بالتأكيد ليس الإسلام هو المصدر، ولا أحكامه هي المنطلق. ولو رجع أصحاب الميثاق إلى موقف الإسلام، وأحكامه المتعلقة بغير المسلمين، لوجدوا أن اللَّه سبحانه يأمرنا بتحكيم الإسلام على الناس مسلمين وغير مسلمين، رضوا بذلك أم لم يرضوا. قال تعالى: ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[آل عمران/85] وقال تعالى: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ)[المائدة/49].

إن ذكر ثماني عشرة طائفة في لبنان، لا وزن له في الإسلام، ولا يجوز أن يتخذ ذريعة للتنازل عن حكم وجوب تطبيق الإسلام، بل أكثر من ذلك هو تنازل عن وجوب تطبيق الإسلام على من يرفضه، وهذا ليس من الإسلام في شيء. فجعل هذا الأمر أساساً ومنطلقاً هو تسليم بالطاغوت، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا)[النساء/60]. فهل إذا كان الكفر مهيمناً، وقوى المسلمين مفككة، وشعوبهم مكبلة، وبلادهم محتلة… فهل يكون ذلك مبرراً للتسليم بأحكام الكفر واستبدالها بها؟ أم يكون دافعاً لتوعية الأمة على قضيتها، وهي إقامة سلطان الإسلام، والحكم بما أنزل اللَّه؟. وما الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، عندما كان مستضعفاً، أعزل من كل سلاح إلا سلاح الإيمان، والأصنام تطل من كل ناحية، والسلطة بيد الكفر والكفار؟ هل أقرّ بها، أو تعامل معها، أو خلط حقه بباطلهم، أم إنه تصدّى لكل ذلك، وأعلن حقه بكل جرأة ووضوح وصراحة وصبر وتوكل على اللَّه؟

إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم ما زال يدويّ في جنبات نفوس حملة الدعوة: «واللَّه يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يظهره اللَّه او أهلك دونه». وأي ترك لأحكام الإسلام أكثر من هذا! وهل عندما فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة، وهدم الأصنام، وطبق الإسلام، هل يدل فعله على أن ديننا يأبى أن نفرض على الناس ما لا يريدون؟ وماذا فعل الخلفاء الراشدون والصحابة الكرام عندما فتحوا البلاد؟ ألم يحكموا بالإسلام بغض النظر عمن يرضى ويسخط من غير المسلمين؟

وما معنى قول الصحابي الكريم ربعي بن عامر، عندما قال لرستم قائد جيش الكفر: إن اللَّه ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

لقد جاء في الميثاق عند تفسير الآية الكريمة (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) أن ديننا ينص بوضوح على عدم جواز تطبيق الشريعة الإسلامية على من لا يريد ذلك. إنه لا خلاف في أن الآية مقصود بها العقيدة فقط. أي لا يجوز إكراه غير المسلم على الدخول في الإسلام، فإن لم يفعل يكن كافراً، ومصيره إلى جهنم. وقد شرع الإسلام أحكاماً لمعاملته، فلا يكره على تغيير دينه، ويترك على عقيدته وعباداته، وعلى سائر ما تركهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بما يسمى اليوم بالأحوال الشخصية، أما سائر ما دون ذلك، فإن الكفار يخضعون لنظم الإسلام وأحكامه وبشكل كامل. وخلال ذلك يدعون إلى الإسلام بالحسنى، ومن خلال العيش في ظل حكم الإسلام وعدله، قال تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[العنكبوت/46]، فمسألة عدم الإكراه في الدين متعلقة بالاعتقاد. فلماذا صرفها عن معناها؟.

إن الميثاق ينفي عن نفسه صفة الإسلامي عندما يقول: إن ديننا يأبى أن نفرض على سائر الطوائف ما لا يريدون، وإنه لا بد من التوافق والتعايش بين الجميع في حدود لبنان، ولا بد من أنظمة وقوانين وتشريعات يختارونها بحرية، ويتوافقون عليها، وهي ليست إسلامية، لأن الإسلام يأبى ذلك، بحسب قولهم، فيصبح واجباً على المسلمين في لبنان، أن يخضعوا للأحكام التي تقرر بناء على ما يتوافق عليه الجميع، ويشرعونه في مؤسساتهم التشريعية. وفي هذا المعنى يقول الميثاق: (وإذا كنا جميعاً نلتزم أسلوب الحوار وآدابه، وأن يختار الناس القوانين التي تحكمهم من خلال مؤسساتهم التشريعية، فلن تكون هناك مشكلة حين ندعو إلى تطبيق الأحكام الشرعية، خاصة وأن هذه الأحكام أكثر ملاءمة لطبائعنا الشرقية، وأكثر انسجاماً مع مجتمعاتنا العربية). إن هذا الكلام يعارض قطعي القرآن، ويجعل الميثاق لا يمت إلى الإسلام بصلة، حيث يقول تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)[يوسف/40]. ثم إن الدعوة إلى تطبيق الأحكام الشرعية، كما ذكر الميثاق، ليس إلا ذراً للرماد في العيون؛ لأن الواقع قد تم التوافق فيه على قوانين أقرتها المؤسسات التشريعية، ولا يخفى ما في هذا الكلام من اعتراف بالقوانين غير الإسلامية، وبالمؤسسات التشريعية التي أقرتها، وكذلك بالدستور وبالدولة من خلال قولهم: (فنحن ننطلق من حرية الاعتقاد والتي كفلها الدستور، من أن لبنان دولة مدنية تحترم الأديان لندعو إلى تبني الأحكام الشرعية…) وكل هذا ليس من الإسلام في شيء.

النقطة الثانية:

إن في الميثاق فصل للشريعة وأحكامها عن أساسها الروحي، وهو أنها نظام من عند اللَّه، وأنها الحق وحدها، وبها يعرف الحق، وهي مقياسه، وأنها لا تستند إلى أي شيء سوى من اللَّه، لذلك لا يجوز الاعتراف بدستور أو قانون سواها، لا في لبنان، ولا في الأمم المتحدة، ولا تستند إلى كونها من تاريخنا ومن موروثاتنا، أو إلى أنها صارت أعرافاً وعادات مقبولة لدينا، أو أنها أكثر توصيلاً لمصالحنا، وإنما تستند فقط إلى أنها أمر من اللَّه تعالى، أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد». وفصل شريعة الإسلام عن أساسها الروحي، يجعل العبادة عادات، وتقاليد، ومجرد موروثات ثقافية، يذهب بها وبأجرها. وفي هذا المنهج إبعاد للإسلام عن واقع الحياة، وإحلال لعقيدة فصل الدين عن الحياة التي تنبثق عنها فكرة الحريات العامة. وفي هذا المعنى يذكر الميثاق عن الحريات بأنها (السمة المميزة لهذا العصر، وقد كرسها ميثاق الامم المتحدة، وهي تؤكد حقنا في أن نبلغ فكرتنا الإسلامية، وأن نعمل من أجل نشرها).

إن هذا الكلام يجعل لدينا جهة أعلى من الإسلام، تضفي عليه الشرعية وهي شرعة الأمم المتحدة وهي كفر. لهذا كان من الخطأ وصف الميثاق بالإسلامي إذ إن منطلقه منطلق فقد خصوصيته الإسلامية، ليلتقي مع غيره من غير المسلمين في عملية اندماج لا يقرها الشرع.

النقطة الثالثة:

وهي الخلط في معنى الحرية، فقد استعملها الشرع حيث وردت بمعنى ضد العبودية، وليس بمعنى الحريات بالمفهوم المعمول به في الغرب: أن يختار الدين الذي يريد، ويفعل ما يريد، ويفسق ويفجر كما يشاء، دون قيد أو ضابط.

لقد جاء في الميثاق ما يكشف بأنهم مع الحريات العامة بالمفهوم الغربي، وذلك بقولهم فيه: (لقد أتاح اللَّه تعالى للإنسان حرية الاختيار بين الإيمان والكفر). واستدلوا على ذلك بقوله تعالى ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ )، وبقولهم: (إن هذه الحرية الواسعة لجميع الناس أن يختاروا ما يريدون، حتى بالنسبة للإيمان والكفر، تستلزم حتى الاعتراف بنتائجها، والتعامل معها، وفق الضوابط الشرعية، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فلا معنى للحرية أصلاً).

وهذا القول مجانب للحق من زوايا ثلاث:

الأولى: إنه فسر عدم الإكراه بحرية الاختيار. والثانية: إنه وسع مجالها بحيث صارت تعني حرية أن يدينوا بغير الإسلام كله عقيدةً وأحكاماً. والثالثة: الرضى بالتعامل معهم بحسب أحكام كفرهم، لا بحسب أحكام الإسلام.

أما الحق في هذه الأمور الثلاثة فهو أن نفي الإكراه الوارد في الآية، يفيد النهي عنه، وهو موجّه إلى المسلمين أن لا يكرهوا أحداً من الكفار على الدخول في الإسلام، وذلك لأن الواجب عليهم أن يدخلوا الإسلام اختياراً. فالدخول في الإسلام واجب قطعي، والكفر به حرام قطعاً. أما توسيع مجالها فإنه مجانب للحق كذلك، فالآية ننعلق بمجال العقيدة فقط. أما سائر الإسلام، فقد دل فعل الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يتركوا وما يعتقدون وما يعبدون، وتترك أمور المطعومات، والملبوسات، والزواج والطلاق، بحسب أديانهم، وضمن النظام العام. أما التعامل معهم بحسب أحكام غير الإسلام، أو بحسب أحكام يرتضيها الجميع، ضمن دستور وقانون ومجالس تمثيلية غير إسلامية، أو بحسب أحكام الشرعة الدولية، فهذا كله حرام، وحرمته قطعية.

إننا ندعو بالمسلمين جميعاً، وأولهم من قدم هذا الميثاق، او وافق عليه، أن يتقوا اللَّه ولا يستمروا في ذلك، بل على الجميع أن يقفوا إلى جانب الإسلام في صراعه المحتدم مع الكفر الغربي القائم على فصل الدين عن الحياة، وأن يسفروا عن حقيقة موقفهم من هذا الصراع. فنصرة الإسلام اليوم مطلوبة أكثر من أي وقتٍ مضى. وأي موقف، مثل هذا الموقف، سيضعف موقف المسلمين، ويقوي الطرف الآخر.

فليحذر المسلمون، كل الحذر، من أن تلين لهم قناة في هذا الصراع، أو أن يقفوا في صف الأعداء، بحسن نية أو بسوء نية، فإن النتائج سواء، قال تعالى: ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النور/63].

إن المطلوب اليوم، أن يحزم المسلمون أمرهم، ويعملوا على استلام الحكم في بلادهم، وذلك بحسب طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بعد أن يملكوا أمرهم وقوتهم عليهم أن ينتقلوا إلى خوض الصراع الفكري والمادي ضد أعدائهم من الكفار الغربيين الذين أعلنوا عليهم الحرب بمسميات تضليلية، حيث سموا الحرب على الإسلام بالحرب على الإرهاب q

محمود عبد الكريم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *