العدد 203 -

السنة الثامنة عشرة ذو الحجة 1424هـ – شباط 2004م

حقيقة موقف فرنسا من الحجاب

حقيقة موقف فرنسا من الحجاب

بلغت الحملة على الإسلام في فرنسا مرحلة متقدمة، وهي تنذر بالمزيد. وهذه الحملة وإن أخذت مظهر الهجوم على الحجاب، ولكنها أعمق من ذلك بكثير. إن فرنسا التي تعتبر نفسها حامية حمى العلمانية، ترى أن علمانيتها باتت مهددة من الإسلام الذي يشكل خطراً على قيمها ووجودها، وهي ترى أنها إن لم تحزم أمرها، وتقوم بخطوات عملية ملموسة، فإن انتشار الإسلام الواسع سيكون مقلقاً لها في السنوات القليلة القادمة، وإن فرنسا ذاتها ستكون مهددة بالتحوّل إلى دولة يحكمها المسلمون.

إن المجتمع الفرنسي، شأنه شأن كل المجتمعات الغربية الرأسمالية المرفهة، تزيد نسبة الوفيات فيه على الولادات، ونسبة كبار السن فيه هي الطاغية، وهو من هذا الاعتبار معرض للاضمحلال. لذلك تلجأ أمثال هذه الدول إلى التعويض بفتح باب الهجرة والتجنيس أمام الشباب من العمال والطلاب، من مختلف الجنسيات. ولما كانت دول شمال أفريقيا تشكل الحدود الجنوبية للقارة الأوروبية بما فيها فرنسا، ولا يفصلها عنها إلا مساحة ضيقة من البحر المتوسط، ولما كان لفرنسا بالذات تاريخ استعماري مع هذه الدول، وكانت اللغة الفرنسية تتكلم بها شعوبها، كان من الطبيعي أن يكون جلّ المهاجرين هم من شعوب هذه الدول التي يدين معظم أهلها بالإسلام.

لقد كانت خطة فرنسا حتى تبقى مستقرة، وذات لون فكري واحد، أن تقوم بعملية استيعاب لهؤلاء المهاجرين أو المجنسين الجدد، وإدماجهم في المجتمع الجديد. أي إنها كانت تقوم بعملية صياغة عقلية ونفسية هؤلاء، حتى تصبح متجانسة مع ما في المجتمع من قيم، ومفاهيم، ومقاييس، وطريقة عيش. وكانت تعتمد سياسة الصبر على هؤلاء في عملية الإدماج هذه؛ لأنها تعلم أنها لا تستطيع أن تجعلها سريعة. وكانت تنفق على المهاجرين والمجنسين من الجيل الأول، وتؤمن لهم مختلف التقديمات الاجتماعية، بهدف إبقائهم عندها، طامعة في تغيّر أبنائهم من الجيل الثالث فما فوق، حيث تنقطع صلتهم ببلدهم الأصلي، ولا يبقى لهم من دينهم إلا الاسم، وينصهرون في المجتمع الذي تربوا فيه… بهذه الخطة أرادت فرنسا أن تعدّل الخلل السكاني لديها.

ولكن عملية الإدماج والاستيعاب هذه لم تنجح، ووجد الفرنسيون أنفسهم أمام مشكلة كبيرة، ولا يمكن معالجتها إلا بعملية جراحية، وجدوا أنفسهم أمام أكثر من خمسة أو ستة ملايين مسلم، نسبتهم أكثر من 10% من عدد السكان، وصار الإسلام هو الدين الثاني في فرنسا، ومعظم هؤلاء المسلمين لم يتأقلموا مع المجتمع الفرنسي. ولم يندمجوا فيه، وبدأوا يظهرون كقوى فاعلة في المجتمع الفرنسي، وبدأت المظاهر الإسلامية تظهر بوضوح، وتفرض نفسها على نسيج المجتمع الفرنسي. وتزداد المشكلة تعقيداً لدى الفرنسيين عندما يرون أن نسبة الفرنسيين المسلمين تزداد بينما نسبتهم تنقص، فقد ذكرت الإحصائيات أن الفرنسيين المسلمين سيتضاعف عددهم كل عشر سنوات. فمن هذا المنطلق ينظر السياسيون والمفكرون الفرنسيون.

وعن بدء الشعور بهذه المشكلة لدى الفرنسيين، يذكر الكاتب شريف الشوباشي في كتابه: (هل فرنسا عنصرية: إشكالية الهجرة العربية والإسلامية في أوروبا) فيقول إن الفرنسيين شعروا بكثافة الوجود العربي ­- الإسلامي في فرنسا سنة 1982، خلال الإضرابات العمالية التي اجتاحت بلادهم، وشملت المؤسسات الصناعية الكبرى، التي تعتبر ركائز داخل البنية الاقتصادية الفرنسية… وظهر العمال العرب المسلمون، وغالبيتهم من شمال أفريقيا، بكثافة في هذه الإضرابات، وكانت النقابات العمالية الفرنسية تدفع العرب إلى رئاسة (لجان الإضراب)، فبدوا أمام الرأي العام الفرنسي، وكأنهم جاؤوا إلى فرنسا لكي يخربوا ويدمروا الاقتصاد. ومعلوم أن هذا يعتبر مؤشراً خطراً، ونذيراً مقلقاً لدى رجال السياسة والفكر والاقتصاد في فرنسا، وينبئ باتجاه الأمور أتجاهاً يهدد فرنسا وجوداً وسياسةً واقتصاداً. يقول الكاتب شريف الشوباشي: (إن أكثر التعليلات شيوعاً لهذا الجو المشحون ضد الأجانب هو الزيادة المطردة للوجود غير الفرنسي الذي يهدد بتغيير الملامح الأساسية للمجتمع، والأسس الثقافية والحضارية التي تقوم عليها فرنسا منذ بضعة قرون).

في هذا الظرف، برز حزب (الجبهة الوطنية) الفرنسي العنصري، الذي ينادي بطرد الأجانب من فرنسا، ويستخدم أيديولوجية عنصرية متطرفة، مقترنة بلغة وخطاب سياسيين صريحين يصلان إلى حد الابتذال والسوقية، ويطرح أهدافاً معادية للعرب المسلمين المقيمين في فرنسا، ففي عام 1988، دعا باسكال أريجي، نائب الجبهة الوطنية الفرنسية، أثناء زيارة له إلى فلسطين المحتلة، إلى (وقف الهجرة إلى فرنسا)، وحذر النائب الفرنسي من (أن عدد النساء اللاتي يرتدين الحجاب في مرسيليا يزداد باستمرار، وأن تعاليم الأئمة في فرنسا خطيرة، وأن الإسلام يشكل بالتأكيد خطراً بالنسبة لفرنسا، وبالنسبة للعالم كله). كذلك راحت وسائل الإعلام الفرنسي تظهر أن الإسلام مرادف للإرهاب، وأن عمليات الإرهاب في العالم من صنع إسلامي وتصرح على صفحاتها (أن كوليرا الأصولية السوداء مرض معدٍ ومن ذات فصيلة الطاعون الرمادي للفاشية) وتتهم الأصولية بأنها (تتبع منطقاً أممياً) وانتشرت عبارات العنصرية من مثل: (إذا كان لا يعجبك هذا البلد فعد من حيث جئت)… وهذا ما جعل العنصرية الفرنسية تعبر عن نفسها بقوة.

وهناك عامل آخر، دفع الرأي العام الفرنسي إلى اعتبار العرب المسلمين تهديد حضاري لمجتمعهم ولأمنهم ولاستقرارهم، يتلخص في ظهور الصحوة الإسلامية، التي كان من خيرها تشبث المسلمين الفرنسيين بهويتهم الحضارية الإسلامية.

وعن حقيقة الموقف الفرنسي من هذه المشكلة، فقد نشرت صحيفة (لوكوتيديان دي باري) في 25/9/91 مقابلة مع رئيس مصلحة الهجرة الفرنسية جان كلود بارو (كاهن كاثوليكي سابق ترك الكهنوت لكي يتزوج، وهو أيضاً مستشار سابق للرئيس الفرنسي ميتران) فقال مهدداً بطرد المسلمين من فرنسا بصفته رئيس مصلحة الهجرة: “يجب التوقف عن إخفاء المشكلة عن أنفسنا… الاستيعاب الناجح يمر عبر التخلي عن ممارسة الإسلام الذي هو دين سياسي بعيد عن العلمانية”. وفي 26/9/91 قال للإذاعة الفرنسية: “من أجل استيعاب المهاجرين المسلمين، في المجتمع الفرنسي، لا بأس إذا مارسوا شعائر دينية في إطار قوانين الجمهورية، ولكن يجب أن يبتعدوا عن الشريعة الإسلامية” وقال: “إن الديانة الإسلامية شبيهة في كثير من جوانبها بالماركسية التي انهارت أخيراً” وقال: “إن الإسلام لم يتطور، وفيه جوانب بالية”.

وفي سبيل حل هذه المشكلة التي راحت تبدو مستعصية على المسؤولين الفرنسيين، طالب الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان بإعطاء الجنسية على أساس (حق الدم) وليس (حق التراب).

إنه يمكن القول إنه حتى عام 1989 لم يكن الرأي العام الفرنسي قد تبدل، فقد ذكرت رويترز أن استطلاعاً للرأي العام أذيعت نتائجه في 29/10/89 أعلن أن 72% من الشباب الذين تم سؤالهم لم يعارضوا الحجاب. كذلك أصدر (مجلس الدولة) الفرنسي، وهو أعلى محكمة إدارية فرنسية، وفي السنة نفسها، قراراً جاء فيه: (إن ارتداء الحجاب الإسلامي في الصفوف المدرسية لا يتنافى مع العلمانية، كما إنه يمثل ممارسة لحرية التعبير، ويعد مظهراً من مظاهر التعبير عن العقيدة الدينية). ولكن المدارس كانت تأخذ قرارها بطرد المسلمات المتحجبات منذ سنة 1982 بمبادرات فردية، والمسؤولون الفرنسيون يؤيدون قرارات الطرد، ولكن من غير وجود قانون صريح يسمح للمدارس وللدولة بسلوك هذا المسلك. ثم أخذت وتيرة الطرد تزداد، ووتيرة تصريحات المسؤولين الفرنسيين تتصاعد، وتكشف عن نواياها أكثر فأكثر، إلى أن وصلت إلى الذروة.حتى «مجلس الدولة» تغيرت أحكامه إذ صار يؤيد قرارات الطرد…

ففي 4/5/2003 قال رئيس الوزراء الفرنسي جان بيار رافاران: “إن حكومته قد تسعى إلى منح المعلمين سنداً قانونياً لطرد الطلبة الذين يخالفون التقاليد العلمانية للدولة. وذلك بعدما أثار ارتداء الحجاب نقاشاً محموماً في فرنسا”. وقال في حديث لإذاعة (أوروبا-1): “إن حكومته كلفت الأستاذ الجامعي دانيال ريفيه بمهمة التفكير في تدريب الأئمة في فرنسا”، وقال: “إن فرنسا تعير اهتماماً خاصاً لمسألة تدريب الأئمة”. واعتبر وزير الداخلية نيكولا ساركوزي أن وضع الأئمة وتدريبهم من أهم الملفات التي سيعكف عليها المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، وشجع الأئمة على تعلم الفرنسية، وترتكز خطة ساركوزي إلى إنهاء انتداب الأئمة من دول عربية أو إسلامية، للاعتماد على أئمة يخرجون من وسط الجالية نفسها….

على هذه الخلفية جاءت توصية الرئيس الفرنسي جاك شيراك في 17/12/2003م دعمه لحظر ارتداء المسلمات الحجاب في المدارس والمؤسسات الحكومية في فرنسا، حيث قال: “إنه يجب عدم السماح بارتداء أي زي ديني في المؤسسات الحكومية الفرنسية” ودعا البرلمان الفرنسي (لسرعة تبني القانون الخاص بمنع العلامات الدينية المميزة في المدارس وأماكن العمل قبل حلول العام المقبل)، وقال: “إن المدارس يجب أن تحترم مبدأ المساواة بين الجميع دون أي تمييز ديني” وقال: “إنه يجب تكريس واحترام العلمانية التي تقوم عليها الجمهورية لحماية القيم الفرنسية” وأشار إلى أن (فرنسا تحترم الإسلام كدين له مكانة كبرى بين جميع الديانات، إلا أنه يجب عدم توظيف الحرية الدينية بشكل خاطئ لتصبح مصدراً للتمييز والاعتداء على حرية الآخرين) ومن أجل هذا، دعا شيراك البرلمان في بلاده إلى اعتماد قانون يقضي بحظر العلامات الدينية الظاهرة في المدارس العامة بحيث يكون جاهزاً للتطبيق في بداية الموسم الدراسي المقبل وذلك باسم العلمانية التي أكد شيراك أنها مبدأ (غير قابل للتفاوض) ولا (لإعادة الصياغة) واعتبر أن على الإسلام الذي وصفه بأنه (دين مستجدّ في فرنسا أن يتكيف مع الجمهورية، التي تمد يد العون له من دون أن تكون خصوصياته ملزمة لمؤسساتها) وأبدى شيراك حرصه على الاختلاط، وحماية حقوق النساء (لأن درجة تقدم المجتمع رهن بمكانة المرأة في إطاره) ودعا إلى إعداد (مدونة علمانية) تكون ملزمة لجميع الموظفين الذين يلتحقون بالإدارات العامة…

هذه النقول عن الرئيس الفرنسي تعدّ من أصرح ما قيل حتى الآن في الموضوع. ومثل هذه التصريحات ليست جديدة على شيراك، فقد شارك في الحملة على الوجود الإسلامي في فرنسا، منذ كان عمدة باريس، فقد تحدث سنة 1991 عن المهاجرين المسلمين في فرنسا واصفاً إياهم (بالأصوليين المتطرفين الذين تنبعث الرائحة الكريهة من أحيائهم).

يتبين من هذا العرض، أن مسألة الحجاب التي أثيرت في فرنسا، إنما هي مظهر لمسألة الوجود الإسلامي في فرنسا، الذي يرفض المسلمون فيه التخلي عن أحكام دينهم، والتي تشعر فرنسا معه أنها مهددة فعلياً. والسؤال الذي يفرض نفسه الآن: لماذا الحجاب؟

لأن الحجاب هو الحاجز الذي يمنع الفتاة المسلمة، وبالتالي العائلة المسلمة، من أن تندمج في المجتمع الفرنسي، ولأنه يعني التمسك بالإسلام وتعاليمه، ولأنه يعني رفض العلمانية القائمة على فصل الدين عن الحياة، لأنه عنوان العفة ورمز الطهارة، والبعد عن حياة التهتك والإباحية السائدة في المجتمع الفرنسي العلماني…. وكأني بموقف فرنسا هذا يشبه موقف آل لوط، الذين كانوا يأتون الذكران من العالمين، عندما لم يعجبهم مسلك نبي اللَّه لوط عليه السلام ومن آمن معه فقالوا كما ذكر القرآن الكريم: ]أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ[[الأعراف/82] q

أحمد المحمود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *