العدد 203 -

السنة الثامنة عشرة ذو الحجة 1424هـ – شباط 2004م

(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)

(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ @ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ @ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ @ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [فصلت/33-36]

جاء في تفسير ابن كثير: يقول عز وجل: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ ) أي دعا عباد اللَّه إليه. (وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي وهو في نفسه مهتدٍ بما يقوله، منفعة لنفسه ولغيره…، وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، وينهون عن المنكر ويأتونه، بل يأتمر بالخير، يترك الشر، ويدعو الخلق إلى الخالق تبارك وتعالى. وهذه عامة في كل من دعا إلى خير، وهو في نفسه مهتد، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أولى الناس بذلك. عن الحسن البصري أنه تلا هذه الآية: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) قال: هذا حبيب اللَّه، هذا وليّ اللَّه، هذا صفوة اللَّه، هذا خيرة اللَّه، هذا أحب أهل الأرض إلى اللَّه، أجاب اللَّه في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب اللَّه من دعوته، وعمل صالحاً في إجابته، وقال إنني من المسلمين، هذا خليفة اللَّه. وقوله تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) أي فرق عظيم بين هذه وهذه. (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) أي من أساء إليك فادفعه عنك بالإحسان إليه. وقوله عز وجل: (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) وهو الصديق، أي إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إليه، إلى مصافاتك ومحبتك والحنو عليك، حتى يصير كأنه ولي لك حميم، أي قريب إليك من الشفقة عليك، والإحسان إليك، ثم قال عز وجل (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) أي وما يقبل هذه الوصية، ويعمل بها، إلا من صبر على ذلك، فإنه يشق على النفوس (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة. وعن ابن عباس في تفسير هذه الآية: أمر اللَّه المؤمنين بالصبر عند الغضب، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم اللَّه من الشيطان، وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم. وقوله تعالى: (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ) أي إن شيطان الإنس ربما ينخدع بالإحسان إليه، فأما شيطان الجن، فإنه لا حيلة فيه إذا وسوس إلا الاستعاذة بخالقه، فإذا استعذت باللَّه، كفّه عنك…

وجاء في ظلال هذه الآيات عند سيد رحمه اللَّه: ويُختم هذا الشوط برسم صورة الداعية إلى اللَّه… إن كلمة الدعوة حينئذٍ هي أحسن كلمة تقال في الأرض، وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء، ولكن مع العمل الصالح الذي يصدّق الكلمة، ومع الاستسلام للَّه الذي تتوارى معه الذات، فتصبح الدعوة خالصة للَّه، ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ.

ولا على الداعية بعد ذلك ان تتلقى كلمته بالإعراض، فهو إنما يتقدم بالحسنة، فهو في المقام الرفيع، وغيره يتقدم بالسيئة، فهو في المكان الدون. (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَة) وليس له أن يرد بالسيئة، فإن الحسنة لا يستوي أثرها مع السيئة. والاستعلاء على رغبة النفس في مقابلة الشر بالشر، يرد النفوس الجامحة إلى الهدوء والثقة، فتنقلب من الخصومة إلى الولاء (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) وتصدق هذه القاعدة في الغالبية الغالبة من الحالات، وينقلب الغضب إلى سكينة… على كلمة طيبة…، ولو قوبل بمثل فعله ازداد هياجاً، وأخذته العزة بالإثم.

غير أن تلك السماحة تحتاج إلى قلبٍ كبير يعطف ويسمح، وهو قادر على الإساءة والرد، وهذه القدرة ضرورية لتؤتي السماحة أثرها، حتى لا يصور الإحسان في نفس المسيء ضعفاً، ولئن أحس أنه ضعف، لم يكن للحسنة أثرها إطلاقاً.

وهذه السماحة كذلك قاصرة على حالات الإساءة الشخصية، لا العدوان على العقيدة، وفتنة المؤمنين عنها. فأما في هذا، فهو الدفع والمقاومة بكل صورة من صورها.

هذه الدرجة، درجة دفع السيئة بالحسنة… درجة عظيمة لا يلقاها كل إنسان، فهي في حاجة إلى الصبر، وهي كذلك حظ موهوب يتفضل به اللَّه على عباده الذين يحاولون فيستحقون: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) إنها درجة عالية إلى حد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو الذي لم يغضب لنفسه قط، وإذا غضب للَّه لم يقم لغضبه أحد، قيل له، وقيل لكل داعية في شخصه: (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) فالغضب قد ينزغ، قد يلقي في الروع قلة الصبر على الإساءة، فالاستعاذة باللَّه من الشيطان الرجيم حينئذٍ وقاية، تدفع محاولاته لاستغلال الغضب، والنفاذ من ثغرته .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *