نظام «الخلافة» أحكام شرعية لا ثغرات فيها
2004/06/01م
المقالات
2,062 زيارة
نظام «الخلافة» أحكام شرعية لا ثغرات فيها
هذا رد على مقال بعنوان («الخلافة».. ثغرات دستورية … موروثة!) للدكتور محمد عابد الجابري نشر في جريدة القدس في 24/3/2004م أُجمله من خلال النقاط التالية:
ــــــــــــ
أولاً: بالنسبة للمرجعية فلا يوجد أي اعتبار في الإسلام لغير المرجعية التشريعية، أما المرجعية التاريخية، فلا قيمة لها في استنباط الأحكام الشرعية، وبالتالي فلا يُنظر إليها إلا من خلال زاوية الإحسان في التطبيق أو الإساءة في التطبيق، وهذه النظرة من خلال هذه الزاوية تفيد في تصور التطبيق الإسلامي للحكم تطبيقاً واقعياً، ولكنها لا تعتبر مرجعية شرعية بأي حال من الأحوال.
ثانياً: الاجتهاد في الإسلام هو استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية لمعالجة المسائل العملية. والأدلة التفصيلية هي النصوص الشرعية سواء أكانت آيات قرآنية، أو أحاديث نبوية، أو إجماع صحابة، أو قياس. أما العقل فليس دليلاً شرعياً، ويقتصر عمله على الاستنباط، وينحصر دوره في فهم المعاني المأخوذة من النصوص لاستنباط الأحكام منها لإنزالها على الواقع. ولا شك بأن هذا دور للعقل عظيم، وعمل له كبير، لا يقوم به إلا الفقهاء ممن لديهم ملكة الاجتهاد.
ثالثاً: لا يصح القول بأن «فراغاً دستورياً كبيراً في نظام الحكم الإسلامي وجد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم»؛ لأن هذا يعني إما أن الإسلام لا يوجد فيه نظام حكم، وإما أن نظام الحكم في الإسلام نظام ناقص، وكلا القولين خطير، وفيه إجحاف وتجنٍ على الدين، وهو قول المستشرقين الحاقدين، وليس قول أهل الإسلام، لذلك يجب الحرص على عدم الوقوع في مثل إلصاق هذه التهم جزافاً بالإسلام، لا سيما من أبناء المسلمين الذين يفترض فيهم أن يدفعوا عن الإسلام مثل هذه الشبهات بالبحث والدراسة والتنقيب، بدلاً من أن يرددوا أقوال المغرضين بدون تمحيص.
رابعاً: أما الأدلة الشرعية على الخلافة فكثيرة ومستفيضة، أُورد بعضاً منها لعدم الإطالة، وهي أدلة من الكتاب والسنة والإجماع:
1- أما أدلة الكتاب، فيقول سبحانه وتعالى مخاطباً الرسول صلى الله عليه وسلم: (فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ ) وقوله تعالى: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ ) وخطاب الرسول خطاب لأمته ما لم يرد دليل يخصصه به، وهنا لم يرد دليل فيكون خطاب للمسلمين بإقامة الحكم، وهذا يعني قامة الخلافة. على أن الله تعالى فرض على المسلمين طاعة أولي الأمر، إي طاعة الحاكم الذي هو الخليفة، مما يدل على وجوب وجود ولي الأمر على المسلمين، أي وجوب إيجاد الخليفة. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) ولا يأمر الله بطاعة من لا وجود له، فدلَّ على أن إيجاد ولي الأمر واجب يترتب على وجوده إقامة أحكام الدين، ويترتب على ترك وجوده ضياع أحكام الدين.
2- أما أدلة السنة، فقد روى مسلم عن طريق نافع قال: قال لي ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من خلع يداً من طاعة الله لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهلية» فالنبي صلى الله عليه وسلم فرض على كل مسلم أن تكون في عنقه بيعة، ووصف من يموت وليس في عنقه بيعة بأنه مات ميتةً جاهلية. والبيعة في هذا الحديث لا تكون إلا للإمام أو الخليفة ليس غير، وقد روى مسلم عن أبي سعيد الخُدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»، وروى مسلم أيضاً عن عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه»، وروى مسلم كذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الإمام جُنة يُقاتَل من ورائه ويُتَقى به»، وروى أيضاً عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وأنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم». فهذه الأحاديث، وغيرها كثير، فيها إخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سيلي المسلمين ولاة، أي حكام خلفاء، وفيها وصف للخليفة بأنه جُنَّة أي وقاية، وفيها وجوب طاعة هذا الخليفة، وقتال من ينازعه، وغير ذلك من معان، وفي ذلك كله دلالة واضحة على وحدة الخلافة، ووحدة الدولة، ووحدة المسلمين في دولة الخلافة.
3- وأما إجماع الصحابة، فإنهم رضوان الله عليهم أجمعوا على لزوم إقامة خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته، فكان أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين، وقد ظهر تأكيد هذا الإجماع على إقامة الخليفة من خلال تأخير دفن الرسول صلى الله عليه وسلم عقب وفاته، واشتغالهم بتنصيب خليفة للمسلمين، وفي هذا دليل صريح وقوي على وجوب نصب الخليفة.
ومن هنا فإن الخلافة بحسب ما أوردناه من أدلة شرعية تعني: رئاسة عامة للمسلمين جميعاً في الدنيا لإقامة أحكام الشرع الإسلامي، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم، وهي عينها الإمامة، فالإمامة والخلافة هنا بمعنىً واحد.
هذه باختصار هي المرجعية التشريعية لنظام الحكم الإسلامي والذي هو نظام الخلافة أو الإمامة، وواضح أن أدلتها تدل دون لبس على وجود هذا النظام، ووجوب الالتزام بها، ويحرم تركها. وأما أساليب التنصيب أو المبايعة فتترك للمسلمين ليختاروا منها ما يناسبهم بحيث يحقق الطريقة ولا يتعارض معها، فاختلاف الأساليب أمر جائز، وهو يدخل في الإدارة لا في الحكم.
خامساً: إن ما دار في السقيفة من اختلاف وتنازع بين الصحابة، لم يكن يتعلق بالخلافة بوصفها فكرة وطريقة، وإنما تعلق بشخص الخليفة من يكون، وهذا جائز، وهو أمر صحي، وهو جزء من عملية الشورى والتشاور في الإسلام، وهو يجسد التطبيق العملي لفهم الصحابة رضوان الله عليهم لنظام الحكم فهماً واقعياً، لذلك لا يقال “إن الظروف كانت استثنائية وإن تعيين أبي بكر كانت فلتة” بمعنى أنه كان صدفة، لا يقال ذلك لأن كلمة فلتة هنا –إن صحَّت- فلا تعني الصدفة أو العشوائية، بل تعني اليسر، والتسهيل، والتوفيق، من الله العلي العظيم، أن حصل اختيار الخليفة الأول بمثل هذه السهولة، وهذا اليسر، وهذا التوفيق، من الله سبحانه وتعالى، خاصةً وأن الظروف كانت صعبةً جداً، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فتيسرت الأمور ببيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
أما القول بأن “عمر قد تلافى تكرار هذه الفلتة بتعيينه للستة” فهذا قول منافٍ للصواب، ومجانب للحقيقة، لأن من تشاوروا في السقيفة لم يرتكبوا خطأً حتى يتلافاه عمر، ثم إن العبرة بإجماع الصحابة وليس بقول عمر، ولا بقول أي صحابي آخر.
سادساً: ذكرنا أن الخليفة هو الذي يقود المسلمين وينفذ الأحكام الشرعية عليهم بالداخل، ويحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم الخارجي عن طريق الجهاد، وبذلك فلا مجال للقول إن “وظيفة الخليفة الأساسية هي قيادتهم في الجهاد والحروب فقط”، وكذلك لا مجال للقول بأن “عدم تحديد مدة للأمير كانت بسبب عدم معرفة كم ستدوم الحروب”، لأن الخليفة في الإسلام يستمر بعمله إذا كان قادراً على القيام بأعباء الحكم حتى يموت، فلا يوجد أي دليل شرعي يدل على تحديد مدة ولايته، لا من الكتاب ولا من السنة، وبالتالي فالحكم الشرعي يعطي للخليفة ولاية غير محددة بزمن، طالما كان يملك المقدرة على الحكم.
فهذا هو الحكم الشرعي في هذه المسألة، فيحرم تحديد مدة لحكم الخليفة من ناحية شرعية، ولا يجوز للعقل بعد ذلك أن يتدخل –محاكاةً لما عند الغرب- في هذه المسألة، ويقرر التحديد بخلاف ما قرره الشرع. علاوةً على أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على عدم إنهاء حكم عثمان رضي الله عنه، بالرغم من وجود الفتنة، وإجماعهم هذا حكم شرعي. ومن التجني على سيدنا عثمان رضي الله عنه القول “إن مدة ولايته طالت حتى ملَّه الناس”، فنحن لا يجوز أن ننزلق بمثل هذه الأقوال التي لا تستند إلى حجة شرعية، فضلاً عن أن قصة الفتنة اختلطت فيها الأمور، وكثرت فيها الأقاويل، والناس بشر يخطئون ويصيبون، وكل ابن آدم خطّاء وخير الخطّائين التوابون، فلا داعي للخوض في فتنة لم نشهدها، وعلينا أن نمسك لساننا عنها، ولا نسلط الضوء عليها فنعتبرها القاعدة مع أنها الاستثناء.
سابعاً: أما مسألة عدم تحديد اختصاصات للخليفة فليس سببه كما ادعيّت “النموذج الذي كان يهيمن على العقل السياسي العربي آنذاك، نموذج أمير الجيش…”، بل السبب هو ما أعطاه الشرع للخليفة من صلاحيات، فالمسالة ليست مسألة عقل عربي، بل المسألة مسالة حكم شرعي، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته» (رواه البخاري ومسلم وغيرهما)، فجعل الرعاية محصورة بالخليفة، وهذا هو سبب عدم الحد من صلاحية الخليفة في رعاية الشئون، فالسبب شرعي، والمسالة شرعية، ولا دخل للعقل العربي، ولا لغير العقل العربي بذلك.
وبهذا الرد يمكن القول بأنه لا توجد أية ثغرات دستورية في نظام الخلافة، فهو نظام شرعي مستمد من أدلة شرعية، وهو نظام عملي، طبِّق في الماضي، ويمكن تطبيقه في الحاضر بكل يسر وسهولة، وسيطبق –بإذنه تعالى- في المستقبل، والله سبحانه وتعالى وعدنا بذلك، ووعده حق، والرسول صلى الله عليه وسلم بشَّرنا بعودة نظام الخلافة لقوله: «… ثم تكون خلافة على منهاج النبوة».
وبعد، فلا يقال إن “الكُتاب والمؤلفين في الفكر الإسلامي المعاصر من معتدلين ومتشددين، يتجنبون الخوض في هذه القضايا، ويكتفون بطرح شعارات عامة كشعار الإسلام هو الحل”، لا يقال ذلك لأن هذه القضية قد أشبعت بحثاً، وتم الخوض في أدق تفاصيلها، من قبل الساعين لإعادة الخلافة الذين اعتبروا هذه القضية قضيتهم المصيرية، فإذا كنتَ لم تطّلع على آرائهم وأبحاثهم في هذه القضايا، فهذا ليس عذراً لباحث مثلك، ويسقط بذلك استدلالك، وتقام الحجة عليك.
وفي الختام آمل أن أكون قد وفقت في الرد على ملاحظاتك بالأسلوب الموضوعي المنهجي المدعَّم بالأدلة الصحيحة، وبكيفية الاستدلال السديدة، راجياً من الله سبحانه وتعالى التوفيق والسداد في القول والعمل .
2004-06-01