العدد 218 -

السنة التاسعة عشرة ربيع الأول 1426هـ – نيسان 2005م

الجامعة العربية… النشأة والرابطة والأهداف

الجامعة العربية… النشأة والرابطة والأهداف

أحمد الخطيب

بعد ستين عاماً مرت على إنشاء الجامعة العربية، وبعد ثلاثين قمة عربية انعقدت في أكنافها، ابتداءً من قمة أنشاص بمصر عام 1946م، وانتهاءً بقمة الجزائر عام 2005م، بعد هذه السنين الطوال، من حق كل مسلم أن يطرح السؤال الطبيعي التالي: ما الذي حققته هذه الجامعة، وتلك القمم؟ وما النتائج التي آلت إليها؟

لقد كانت الوحدة العربية قبل إنشاء الجامعة على مرمى حجر، لكنها بعد ستين عاماً من إنشائها أصبحت في خبر كان، وكانت مظاهر الاتحاد والتضامن بين العرب موجودة بشكل طبيعي قبل وجود الجامعة، ولكن بعد هذا العمر المديد التي وصل بها إلى أرذل العمر أصبحت هذه المظاهر بعيدة المنال بالرغم من مناداة الجامعة بها ليل نهار.

إن الجامعة العربية قد تحولت بعد هذه التجربة الطويلة من الفشل والعجز إلى مادة للتندر تلوكها ألسنة العامة، إنها أصبحت بالفعل تمثل الصخرة الكأداء التي تتحطم عليها أعرض الآمال العربية، فلا يوجد أفضل منها من يستطيع تكريس واقع التنازع والتشرذم والتفتت، وهذا بالضبط ما أراده الغرب المستعمر لمستقبل الشعوب العربية، فالجامعة العربية أثبتت عملياً وبالبراهين القاطعة بأن دعوتها إلى الوحدة العربية ما هي سوى أكذوبة كبرى وملهاة عبثية ألقى بها الاستعمار على عملائه حكام البلاد العربية لإشغال شعوبهم بحكايات وحدوية عروبية مخدرة للعامة، لا تختلف كثيراً عن حكايات ألف ليلة وليلة وعنترة بن شداد والزير سالم. فبدلاً من أن تنشغل هذه الشعوب بمعالجة مشاكلها الجوهرية وقضاياها المصيرية، انشغلت بالحديث عن دسائس الحكام، وقصصهم السخيفة، واهتماماتهم التافهة، ومنازعاتهم الصبيانية، وخياناتهم المكشوفة، وعمالاتهم المفضوحة.

فمن حيث النشأة تعتبر الجامعة العربية بحق وليدة أفكار السياسيين الإنجليز في أربعينات القرن العشرين، ففي الرابع والعشرين من شهر شباط من عام 1943م ألقى وزير الخارجية البريطاني أنطوني إيدن خطاباً في مجلس العموم قال فيه بأن الحكومة البريطانية: «تنظر بعين العطف إلى كل حركة بين العرب ترمي إلى تحقيق وحدتهم الاقتصادية والثقافية والسياسية»، وبعد شهر من إلقاء هذا الخطاب قام مصطفى النحاس رئيس الحكومة المصرية التي كانت تخضع للاحتلال البريطاني بالتشاور مع الحكومات العربية لاستطلاع آرائها في موضوع الوحدة، ثم بدأت سلسلة من المشاورات الثنائية بين مصر من جانب وممثلي كل من العراق وسوريا ولبنان والسعودية والأردن واليمن من جانب آخر. واستمرت الاجتماعات والتحضيرات بين هذه الدول السبع إلى أن تمخضت عن توقيع بروتوكولات تأسيس الجامعة، وتوجت هذه البروتوكولات بالتوقيع على ميثاق جامعة الدول العربية من قبل مندوبي الدول العربية في 22/03/1945م، وتحول يوم 22/3 من كل عام عيداً سنوياً لهذه الجامعة العربية البائسة.

انعقدت قمة أنشاص في مصر، ثم تتابعت القمم العربية حتى وصلت مع قمة هذا العام التي عقدت في الجزائر إلى ثلاثين قمة عربية، لم ينتج عنها إلا المزيد من الفرقة والانفصال والتباعد والتباغض بين الأقطار العربية، ولم تحصد الشعوب منها سوى المزيد من الخيبات والصدمات والنكسات، وكان هذا الحصاد المر لمسيرة الجامعة وقممها ما هو إلى نتيجة منطقية وطبيعية لجامعة عربية بنشأة إنجليزية استعمارية.

لقد اعتمد الإنجليز في إنشاء الجامعة على فكرة القومية العربية، تلك الفكرة التي استخدمتها بريطانيا والدول الأوروبية كأداة هدم ومعول تحطيم لكيان الدولة العثمانية الإسلامية بوصفها آخر دولة خلافة إسلامية، وبدأت الشرارة القومية بالثورة التي أطلقها الخائن الأكبر شريف مكة الحسين بن على ضد الدولة العثمانية بتوجيه وتخطيط وإسناد من بريطانيا، وفي هذا يقول الضابط الإنجليزي لورنس العرب وهو القائد الحقيقي للثورة العربية في الحجاز في كتابه أعمدة الحكمة السبعة: «لقد كنت أؤمن بالحركة العربية إيماناً عميقاً، وكنت واثقاً قبل أن أحضر إلى الحجاز أنها هي الفكرة التي ستمزق تركيا شذر مذر».

فالقومة العربية والقومية الطورانية وسائر القوميات الأخرى هي التي ساهمت بشكل أكيد في تمزيق الخلافة العثمانية، وكان تبني الدول الأوروبية لها واحتضانها لدعاتها الأثر الأكبر في إعطائها الحياة، ولولا أوروبا لما عرف المسلمون معنى القومية، واستخدمت أوروبا فكرة القومية بوصفها أفضل أداة أدَّت إلى تمزيق الدولة العثمانية وتشتيت الشعوب الإسلامية.

على أن طبيعة الفكرة القومية من حيث هي فكرة من شأنها أن تؤدي إلى التطاحن والتنافس بين الشعوب، وذلك بسبب مظهر السيادة الغريزي الكامن في فطرة الإنسان، فالقومية رابطة غريزية تتعلق بغريزة حب البقاء، ولا تصلح في حالة الاستقرار، ولا في حالة وجود ارتقاء فكري عند الشعوب، فهي رابطة بدائية لا دور فيها للعقل ولا تحمل في طيّاتها أية أنظمة للحياة تنبثق عنها، وإذا جعلت أساساً للربط بين أفراد الشعب الواحد فإنها ولا شك سوف تعصف بوحدة ذلك الشعب، وتمزقه شر ممزق، أما في حالة الأمة التي تشتمل على مجموعة شعوب فإن اتخاذ القومية رابطة لها سيؤدي حتماً إلى تفكيك الأمة إلى أمم، والدولة إلى دول؛ لأن شعوب الأمة لا يمكن أن تتوافق على عرق واحد من الأعراق يسمو على سائر الأعراق الأخرى، ولكنها تتوافق على فكرة تختارها هذه الشعوب، وترتضيها بمحض إرادتها كفكرة الإسلام، لأن اختيارها في هذه الحالة عائد إلى القناعات والاعتقاد بصحتها.

وفي الثامن والعشرين من أيار عام 1946م

ولا يوجد أرقى من اختيار الرابطة عن طريق العقل بالاقتناع، ثم إن اختيار القومية كرابطة يعني اختيار شكل من أشكال العصبيات التي تلجأ إليها الشعوب الهابطة فكرياً لجوءاً غريزياً، أما وقد أكرم الله سبحانه وتعالى شعوب الأمة الإسلامية بالإسلام، فلا يصح أن ندع ما أكرمنا الله به، ونرتكس بالقومية إلى حمأة الطين.

والله سبحانه قد خاطب عباده بما يليق بتكريمهم بهذا الدين، فلقد صُدِّرت عشرات الآيات بـ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ولم يخاطبهم بأي وصف قومي أو قبلي أو عرقي أو وطني، وهذا وحده يؤكد عل حقيقة هذه الرابطة الإيمانية الراقية التي اختارها الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين المسلمين.

والإسلام في الوقت الذي جعل رابطة العقيدة والإيمان والتقوى هي الرابطة التي يجب أن يلتزمها كل مسلم، نهى المسلمين بصراحة عن اتخاذ القومية، وسائر الأواصر العصبية الجاهلية الأخرى رابطة لهم، قال تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [المجادلة 22] وقال: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة 4]. والرسول صلى الله عليه وسلم قال في حديث رواه الترمذي وأبو داود: «ليتهين أقوام يفخرون بآبائهم الذين ماتوا، إنما هم فيح من فيح جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعل يدهده الخراء بأنفه، إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية، وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم وآدم من تراب». وروى البخاري عن جابر بن عبد الله قال: «كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعوها فإنها منتنة» وفي رواية: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم». روى أحمد والنسائي حديثاً للرسول صلى الله عليه وسلم قال فيه: «من تعزى عليكم بعزاء الجاهلية فأعضوه بهني أبيه ولا تكنوا».

فالإسلام إذاً يحكم بشكل قطعي على الرابطة القومية بالحرمة والجاهلية، والعقل الواعي السليم يحكم عليها بفسادها وضررها، لذلك لم يكن اعتماد الأوروبيين للقومية عبثاً، فهم أدركوا تماماً مدى ضررها على الأمة، وتناقضها مع الإسلام؛ لذلك أقاموا الجامعة العربية على أساسها، فكان ما كان من هزال شأنها، وقتلها لآمال العرب بالوحدة، ووجودها ما هو إلا تكريس للرابطة القومية ضمن قانون يصعب التخلص منه، وهذا ما أدّى إلى وجود هذه الحالة المستعصية من الخصام والعداء بين الدول العربية، ووجودها فاقم أيضاً حالة التفتت والتشرذم التي تدب في أوصال العرب والتي رعاها الاستعمار قبل إنشاء الجامعة، وبوجودها أيضاً وجدت حالة العداء الشديد لدى المجموعات الحاكمة للحركات الإسلامية.

هذا من حيث نشأة الجامعة واتخاذها للقومية رابطة لأعضائها، أما بالنسبة لنتائج مؤتمرات القمة العربية فالناظر فيها يجدها تعكس تناقضات الأنظمة العربية نفسها؛ لذلك فالنتائج تخرج في الغالب باهتة مائعة غير قابلة للتطبيق، ولا يتأتى تطبيقها إلا في حالة فرض النتيجة من قبل الدول الكبرى فرضاً على جدول أعمال القمة؛ لذلك نجد هذه الأنظمة العربية التابعة البائسة التي لا تقوى على اتخاذ أية قرارات ذات قيمة، نجدها بشكل مفاجئ تتفق بشكل جماعي على بعض القرارات، وهذا الاتفاق لا يحصل إلا إذا كانت هناك مؤامرات جامعة بين تلك الدول على اختلاف مشاربها، أو كانت هناك خيانة مانعة من اختلافها، وذلك كما حصل في إجماع الدول العربية والتنازل ليهود عن ثمانين بالمائة من فلسطين، مقابل إقامة دويلة فلسطينية مسخ في الضفة والقطاع، في قمة بيروت في العام 2002م.

أما إذا كانت البيانات الختمامية لمؤتمرات القمم العربية لا تتعلق بالإجماع على الخيانات والمؤامرات فإنها لا تزيد عن كونها عبارات إنشائية لا قيمة لها، أو ثرثرة كلامية فارغة من أي مضمون.

لقد كان يُفترض بالجامعة العربية أن تتجه بالدول العربية نحو الوحدة ودفع الأعداء، ونحو التضامن والتآخي، ولكنها بدلاً من السير نحو هذه الأهداف التي وضعتها الجامعة في ميثاقها، ذهبت بعيداً في اتجاه الانفصال، وابتعاد الدول العربية وشعوبها من بعضها البعض، بدليل أن الجامعة التي ابتدأت بسبعة دول قبل ستين عاماً انتهت اليوم باثنتين وعشرين دولة، فتضاعف عددها أكثر من سبع مرات، وبدليل أن الأقطار العربية قبل تشكيل الجامعة كان لدى شعوبها صلات سكانية، ومظاهر وحدوية اقتصادية واجتماعية وسياسية كثيرة، نجد أن هذه الأقطار وبعد ستين عاماً من نشوء الجامعة قد افتقدت تلك الصلات، وتحولت إلى دول متنافرة متعادية غير متماسكة، وتهيمن عليها النـزعة الانفصالية تحت مسمى الاستقلال، فالأردنة، والمصرنة، والسعودة، والجزأرة، وهم جراً، قد باتت السمة الأكثر بروزاً على الأعضاء المنضوين تحت إطار هذه الجامعة.

أما بخصوص الدفاع عن الشعوب العربية والذي نصَّت معاهدة الدفاع المشتركة على الالتزام به في العام 1950م فنجده قد صار هباءً منثوراً، فالعدوان على فلسطين والعراق ولبنان والصومال والسودان وجزر القمر وأريتريا لم يتم دفعه.

وأما التجارة والاقتصاد والتي عزفت الجامعة كثيراً على لحنها، فأُبرمت اتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية في عام 1957م، واتفاقية تنمية التبادل التجاري العربي في عام 1953م، ومع ذلك فإن التجارة البينية للدول العربية لا تتجاوز الثمانية بالمائة.

على إن إخفاق الجامعة العربية لم يقتصر فقط على الأهداف الوحدوية التي فشلت الجامعة في تحقيقها، وإنما أخفقت أيضاً في حل أية مشكلة عربية عرضت عليها، فلا هي حلت مشاكل كبرى صعبة كالقضايا الفلسطينية واللبنانية والعراقية والصومالية والسودانية، ولا هي حلت مشاكل أصغر منها كمشاكل الصحراء المغربية وجزر القمر ومشاكل الخلافات الحدودية بين بعض الدول المتخاصمة، بحيث كانت جميع هذه القضايا والمشاكل تحل من خلال الدول الكبرى ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية ودول الإيغاد الأفريقية.

وهكذا، وبعد أن ظهر عجز الجامعة بالأدلة القاطعة على مدى ستين عاماً من إنشائها صار الأولى أن تزول وتندثر، فقد ثبت إخفاقها وفشلها في كل شيء، وأولى بالعرب أن يقوموا بإلغائها، وأن يمسكوا بأمر وحدتهم بأيديهم، وأن يختاروا الرابطة الحقيقية التي تصلح لوحدتهم، بل لا يصلح غيرها لجمعهم، ألا وهي رابطة العقيدة الإسلامية، والتي بها تتحقق الوحدة الإسلامية قطعاً، كما كانت في الماضي ولقرون طويلة، فتجربة الدولة الإسلامية التي عمرت ما يزيد عن الألف وثلاثمائة عام كانت وحدوية حقيقية وعملية للشعوب العربية والإسلامية، وأما تجربة الجامعة العربية في آخر ستين عاماً من حياة العرب فقد أثبتت عجزها عن تحقيق الوحدة، فضلاً عن عجزها في حل أية مشكلة.

فمسألة الوحدة، وحل مشاكل العرب والمسلمين الكثيرة، لن تتحقق، ولن تحل، إلا بتحكيم شرع الله في جميع شؤون الحياة مصداقاً لقوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) [النساء 59] .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *