العدد 158 -

السنة الرابعة عشرة _ كانون الأول 1421هــ _ حزيران 2000م

أثر فساد الاقتصاد الغربي في البشرية (5)

«العلاج الصحيح»

          تحدثنا في الحلقة السابقة عن بعض مفاهيم العقيدة الإسلامية، وارتباط هذه المفاهيم بموضوع الاقتصاد. أما بالنسبة للأسس الاقتصادية التي انبثقت من هذه العقيدة الصحيحة، والمرتبطة برعاية شؤون المال، والتي جاءت الأحكام الفروعيّة العملية لتحقيقها في الدولة والمجتمع فهما أساسان، الأول: نظرة الإسلام إلى الاقتصاد، والثاني: سياسة الاقتصاد في الإسلام.

أولاً: نظرة الإسلام إلى الاقتصاد: لقد رأينا كيف خلط الرأسماليون في نظرتهم للاقتصاد، دون تمييز بين علم اقتصاد، يبيّن طرق تنمية الثروة، وبين نظام الاقتصاد الذي يبيّن طرق توزيع هذه الثروة بين الناس، فجعلوا البحث واحداً دون فصل بين الأمرين، مما أوقعهم في متاهات كبيرة، وزادوا المشكلة تعقيداً بدل حلّها .

          أما الإسلام، فنظرته للثروة، التي تحقّق المنافع لدى الإنسان، وهي المال وجهد الإنسان، نظرة إلى تمكين الناس من حيازة هذه الثروة، والانتفاع بها، عن طريق النظام الذي يحقّق ذلك بالعدل والاستقامة . ولم ينظر الإسلام في تكثير الثروة، إلا من زاوية واحدة وهي أنه دعا إلى ذلك وحث عليه، وذكر أن الكون بما فيه من ثروات مسخّر للإنسان لينتفع به. فلم يتدخل الإسلام في مسألة تكثير الثروة، بل تركها للناس ولإبداعهم الفكري. فنظرة الإسلام إلى الاقتصاد هي نظرة مبنية على أساسه الروحي، تضمن تمكين الناس من حيازة مادة الثروة والانتفاع بها في نظام اقتصادي فريد.

ثانياً: سياسة الاقتصاد في الإسلام: السياسة كما عرفنا معناها، هي الرعاية، (رعاية شؤون الناس داخلياً وخارجياً بالإسلام). وسياسة الاقتصاد في الإسلام لا تخرج عن هذا المعنى العام للسياسة، فسياسة الاقتصاد في الإسلام هي رعاية شؤون المال من قبل الدولة. فالدولة بوصفها الجهاز التنفيذي، الذي يتولى رعاية تطبيق الإسلام داخلياً وخارجياً، تقوم برعاية شؤون الأفراد المالية داخل هذه الدولة رعاية تحقق الأهداف التي قصدها الشارع من أحكام النظام الاقتصادي.

          أما الأهداف التي قصدها الشارع الحكيم من نظام الاقتصاد، فترمي إلى ضمان إشباع حاجات الأفراد الأساسية، وهي (المأكل، والمسكن، والملبس)، إشباعاً كاملاً غير منقوص، وتمكينهم كذلك من إشباع حاجاتهم الكمالية، وهي (فوق الحاجات الأساسية)، بقدر ما يستطيع، وبقدر ما يتوفر من أموال في الدولة. وهذه النظرة للفرد، والحاجات، ولإشباعها، هي ضمن الإطار العام للمجتمع.

          فالإسلام نظر إلى رعاية شؤون الأفراد فرداً فرداً، وفي نفس الوقت نظر لما يجب أن يكون عليه المجتمع من طراز خاص من العيش كمجتمع إسلامي، وليس أي مجتمع. فالنظرة الأولى في هذه السياسة كانت للناحية الإنسانية، أي بوصفه إنساناً، وذلك بمعرفة حاجاته الأساسية ما هي، وهي الحاجات التي تترتب عليها المشاكل في حال عدم إشباعها. ثم نظر إلى الإنسان بوصفه فرداً، أي نظر إلى إشباع حاجاته فرداً فرداً في المجتمع، وليس للمجتمع بشكل عام، كما هو  في المجتمع الغربي عندما قالوا: بأن إشباع حاجات الأفراد يتم تلقائياً إذا أشبعت حاجات المجتمع من الثروات وذلك عن طريق جهاز الثمن، فاشبعوا حاجات المجتمع ولكن المشكلة لم  تحل، إذ أن الأغنياء ازدادوا غنى من هذه الثروات، والفقراء ازدادوا فقراً على فقرهم.

          ثم نظر الإسلام نظرة ثالثة في سياسته لشؤون المال، وهي ما يجب أن يكون عليه المجتمع، أي راعت هذه السياسة أثناء الإشباع وضمانه، أو التمكين منه، أن هذا المجتمع له طراز خاص من العيش، وفق علاقات معينة، وتضبطه أحكام شرعية. أي أن الإسلام حدّد للأفراد كيفية كسب المال لإشباع حاجاتهم، فمنع الربا، وحرم الخمر، وحرم الغش والاحتكار…  أما بالنسبة  للثروات وإنتاجها، وتكثيرها في المجتمع، فقد حث الإسلام على ذلك في سياسته لأمور المال، وجعل السعي لكسب النفقة فرضاً للفرد ولمن تلزمه نفقتهم، قال تعالى: (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) (الملك 15)، وقال عليه السلام: «ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داوود عليه السلام كان يأكل من عمل يده» (البخاري). ومنع أن يعطى الفرد من مال الزكاة، وهو قادر على الكسب، ولا يعمل، قال عليه السلام: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي» (أبو داود).

          وهذا الحث على طلب الرزق الهدف منه، الكسب من الثروات كي ينفق على نفسه وعلى من تلزمه نفقتهم، وتكثير الثروة لدى الأفراد في المجتمع.

          وبالإضافة إلى الحث على تكثير الثروة، كذلك حث الإسلام على التمتع بهذه الثروة وفق حدود ما أباحه الله في أحكامه، أي وفق طراز خاص من العيش لمجتمع إسلامي، قال تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا، خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون) (32 الأعراف).

          وقد وضع الإسلام أسساً وقواعد وأحكاماً تضمن تحقّق هذه الأهداف لسياسة الاقتصاد في المجتمع، منها ما يتعلق بالبيان، ومنها ما يتعلق بالناحية العملية، أي بالدولة التي ترعى شؤون الناس. فالإسلام قد بين أولاً المصادر الرئيسية للثروة، وحصرها بأربعة مصادر، وهي الزراعة والصناعة، والتجارة، وجهد الإنسان. ثم بين الأحكام والقواعد التي تمكن الناس من حيازة الثروة من هذه المصادر، وتمكنهم التصرف والانتفاع من ذلك، وتضمن أيضاً توزيعها بينهم بشكل يحقق الأهداف العامة من سياسة الاقتصاد.

          أما القواعد الاقتصادية والأسس التي تمكن الناس من الانتفاع بالثروة، وحيازتها، وتضمن توزيعها بين الناس فهي: الملكية، والتصرف في الملكية، وتوزيع الثروة بين الناس. وهذه ثلاثة خطوط عريضة، تندرج تحتها فروعيات كثيرة تؤدي إلى تحققها في واقع الحياة لدى الأفراد والدولة والمجتمع.

          أما الناحية العملية للرعاية ـ أي ما يتعلق بالدولة ـ فإن الدولة كما قلنا هي الجهاز التنفيذي في الأمة التي تسوس الناس  بأحكام الإسلام: في الاقتصاد، والحكم، والاجتماع، والسياسة. ولا تطبق أحكام الاقتصاد بشكل كامل إلا في ظل هذه الدولة. فالدولة هي التي تضمن إشباع الحاجات الأساسية للأفراد، فرداً فرداً ، لكل من يحمل التابعية لهذه الدولة، وهي التي تمكن الناس كذلك من إشباع حاجاتهم الكمالية لجميع الأفراد، حسب طاقاتها، وهي التي ترعى وتوفر حاجة الناس في التعلم، وفي الطب.

          وقد رأينا عجز النظام الرأسمالي عن هذه الناحية، عندما ترك للأفراد رعاية شؤون أنفسهم عن طريق جهاز الثمن، باعتباره المنظم الوحيد للتوزيع، وكيف قامت المؤسسات الترقيعية على النظام لتسد الثغرات، فقامت مؤسسات الضمان الاجتماعي، والجمعيات الخيرية، وجمعيات مساعدة الفقراء…

          أما نظرة الإسلام فهي نظرة شاملة، تحقق العدل، والاستقامة، نظرت إلى الإنسان بوصفه إنساناً فيه حاجات لا بد من إشباعها، وبوصفه فرداً لا بد من إشباع هذه الحاجات عنده، وبوصفه فرداً يعيش في مجتمع له طراز خاص من العيش. فالناس في أي مجتمع بشري يوجد فيهم من لا يستطيع تحقيق إشباع حاجاته بنفسه بسبب عدم قدرته  على الكسب، وهناك أناس تلحق بهم جوائح كالحريق، والأعاصير، وهناك أناس يعملون ولا يستطيعون إيفاء حاجاتهم. وهؤلاء جميعا لا بد من وجود أحكام تعالج شؤونهم، لذلك كانت الرعاية من قبل الدولة في الإسلام لمثل هؤلاء الناس.

          وقد وضع الإسلام نظاماً اقتصادياً فريداً يمكن الإنسان من ضمان إشباع حاجاته الأساسية يبدأ أولاً بالفرد نفسه، وينتهي بالدولة. وقد ذكرنا ما يتعلق بالفرد من حيث الحث على النفقة والكسب، وجعل ذلك فرضاً على الفرد لقوله تعالى: (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) (الملك 15).

          والدولة ترعى هذا الأمر، فتمنع من جلس عن الكسب وهو قادر عليه، وفي نفس الوقت غير مستوف لحاجاته الأساسية، وغير قائم بالنفقه على من تجب عليه نفقتهم. فالدولة تحث الفرد على ذلك، وتسهّل له الأمور، وتقّدم له ما يمكّنه من العمل، من عون ماليّ أو إرشادي، ولا تقبل من الفرد أن يكون عالةً على غيره من الناس، أو أن يكون عالةً على الدولة. فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خير كسب المرء من عمل يده»، وقال: «إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها الصوم،ولا الصلاة، قيل: فما يكفرها يا رسول الله، قال: الهموم في طلب الرزق» (رواه أبو يضيم في الحلية).

          [وقد وبّخ الإمام عمر رضى الله عنه أناساً جلسوا عن طلب الرزق بحجة التوكل على الله، وعندما سأل من هؤلاء؟!، قالوا ـ أي الصحابة ـ: هؤلاء المتوكلون، قال: كلا هم المتأكّلون، يأكلون أموال الناس. ألا أنبئكم من المتوكلون. فقيل نعم فقال: هو الذي يلقي الحبّ في الأرض ويتوكل على الله]. والناظر في كلام عمر رضى الله عنه يرى فيه إنكاراً وتوبيخاً لهذا الصنف من الناس، ولم ينكر الصحابة رضوان الله عليهم عليه هذا الفعل. والإمام رضى الله عنه فعل ذلك بوصفه راعياً للشؤون.

          والأحكام الشرعية بوصفها تسوس أمور الاقتصاد بشكل كامل متكامل، فقد طلبت من الفرد الإنفاق على أناس معيّنين، وأوجبت ذلك، ورتّبت عقوبةً من الله تعالى، ومن الدولة، بوصفها ترعى الشؤون، إن قصر الفرد عن فعل ذلك وهو قادر. فقد طلبت الأحكام الإنفاق على الولد، وعلى الأقارب ممن يرثون الأقرب فالأقرب، وأوجب ذلك على الأصل وإن علا، وعلى الفرع وإن نزل، وجعل لذلك سبباً وهو عجزهم أو عدم قدرتهم عن ذلك، وفي نفس الوقت قدرة من تجب عليه النفقة على الإنفاق. قال تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف، لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده، وعلى الوارث مثل ذلك) (البقرة233). وقال: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) (6 الطلاق). وقال عليه السلام في نفقة القريب على قريبه: «إبدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا، وهكذا يقول فبين يديك وعن يمينك وشمالك» (رواه مسلم).

          وهذا النظام الفريد لا يوجد إلا في أحكام هذا الدين العادلة، فهو غير موجود في النظام المادي الرأسمالي القائم على المصالح، والمنافع الدينوية، غير المرتبط بالناحية الروحية إطلاقاً. فلو مات القريب جوعاً، لا يلتفت إليه قريبه الغني ولا يعرفه، ولا يتعرف الوالد على ولده بعد البلوغ، ولا الولد على والده إلا في مناسبات معينة في العام، ولا يعرف إن جاع، أو احتاج، أو غير ذلك من جوائح الدنيا.

          هذا بالنسبة لنفقه الفرد على نفسه، ونفقه الأقارب ممن تجب عليها النفقة، ورعاية ذلك بتقوى الله أولاً ومن قبل الدولة.

          أما إن حصل القصور من الفرد، وممن تجب نفقتهم، وذلك بسبب العجز المادي عن ذلك فإن الدولة بوصفها راعيةً للشؤون تضمن إشباع الحاجات الأساسية للأفراد، وتسعى لتمكينهم من إشباع حاجاتهم الكمالية حسب طاقتها. فقد قال عليه السلام مبينا رعاية الدولة: «الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته» (رواه البخاري)، وقال: «من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك كلاً فإلينا» (رواه مسلم)، ومعنى كلاً، أي ضعيفاً غير قادر على الكسب، ومعنى إلينا، أي إلينا تسند إعالته وكفاية أمره. وكان عمر رضي الله عنه يقول: “أنا أبو العيال” وذلك بوصفه خليفة للمسلمين.

          فالدولة تنفق على هؤلاء الناس، ممن عجزت حالهم عن الكسب، وممن عجز أقرباؤهم عن ذلك، تنفق عليهم من بيت مال المسلمين، فإذا لم يوجد في بيت المال ما يكفيهم، اقترضت الدولة أموالاً من أغنياء المسلمين، ثم تسدهم من بيت المال بعد ذلك، فإن تعذر عليها ذلك فرضت ضريبة في أموال الأغنياء بقدر الحاجة، لقول الرسول عليه السلام: «أيما أهل عرصةٍ بات فيهم امرئ جائع فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى» (رواه أحمد).

          وهذا الأمر من الرعاية العامة في دولة الإسلام لا يوجد في أنظمة الكفر الفاسدة، فقد تجد من يعيش على أكياس القمامة في أرقى ضواحي لندن، أو باريس، أو نيويورك، وتجد بجانب هؤلاء أصحاب الشركات العملاقة، وأصحاب رؤوس الأموال الضخمة، وحتى الدولة لا ترحمهم إذا استحق قسم منهم دفع الضريبة، وهو لا يملك، وقد تضعه داخل السجن بدل مساعدته، وسد عوزه. فالنظام الغربي هو نظام جباية، ومص لدماء الناس، وليس نظام رعاية كما هو الإسلام. لذلك حق لنا أن نقول، إن النظام الغربي نظام يولد الفقر، ودين الإسلام نظام يقضي على الفقر.

          هذا بالنسبة لرعاية شؤون الناس في الحاجات الأساسية والكمالية، أما بالنسبة لتوفير حاجة الناس في العلم والطب، فإن الدولة تطبق أحكام الإسلام التي تحارب الجهل، وتحافظ على الصحة العامة للرعية. وترعى هذا الأمر لجميع الناس، لأن الإسلام جعل رعايتها لجميع الناس من قبل الدولة، فقد قال عليه السلام: «إن من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويظهر الجهل» (رواه أحمد)، وفي هذا إشارة إلى حرب الجهل والأمر بالتعلم، وقال عليه السلام: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» البهيقي (شعب الإيمان). وقد وظف الإمام عمر رضي الله عنه المعلمين، يعلمون أبناء المسلمين، وكان يرزقهم كل واحد منهم خمسة عشر كل شهر ولم ينكر عليه أحد من الصحابة.

          أما بالنسبة للطب، فقد قال عليه السلام: «تداووا عباد الله، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو دواء غير داء واحد الهرم» (رواه الحاكم). وقد جعل النبي عليه السلام طبيباً أُهدي إليه من مصر، جعله عاماً بجميع المسلمين. وفي هذا اهتمام وتكريم من الحق تبارك وتعالى لهذا الإنسان المكرم.

          بقيت مسألة تتعلق بسياسة الاقتصاد وهي تحقيق التوازن الاقتصادي في المجتمع. فالإسلام في سياسته لأمور المال، يمكن الفرد من الانتفاع بالثروة، ومن حيازتها، ويضمن حاجاته في الدولة، كذلك يحقق التوازن الاقتصادي ويقضي على التفاوت الفاحش بين الناس.

          أما الأحكام التي شرعت وتتولى الدولة تنفيذها لتحقيق هذه الغاية فهي:- أولاً: جعل المال دُولة في أيدي الناس، وليس في يد فئة معينة. ومن أجل ذلك تعطي الدولة أفراداً معينين من أموال الغنائم، أو من الأملاك العامة للدولة، وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم  المهاجرين دون الأنصار من فيء بني النضير تطبيقاً لقوله تعالى: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم، وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب) (الحشر 7). ومعنى قوله كي لا يكون دولة، أي حتى لا يكون المال محصوراً بفئة دون أخرى.

          أما الحكم الثاني فهو منع الكنـز للمال وتحريمه. قال تعالى: (والذين يكنـزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) (34 التوبة). فوجود المال متداولاً بين أيدي الناس يعمل على اكتساب الثروة وزيادتها، وعلى رفع مستوى الدخل، وذلك أن المال هو أداة التبادل بين مال ومال، وبين  مال وجهد، وبين مال وسلع أو خدمات، وإذا اختفت الأموال من أيدي الناس وكدست وخزنت لغير حاجة، فإن ذلك يسبب قلة المشاريع والأعمال، وبالتالي يؤثر على المكتسبات المالية لدى الأفراد. فبقدر ما يكون المال متداولاً بين الأيدي، وعاملاً في المشاريع، بقدر ما يزداد الإنتاج بشتى أنواعه في البلد، وزيادة الإنتاج يؤدي إلى انخفاض الأسعار، وإلى زيادة الأجور للعمال، وهذا يؤدي إلى تقليل التفاوت بين الناس في الثروات.

          أما إذا حصل العكس، أي إذا خزن المال وأغلق عليه لغير حاجة، فإن التبادلات المالية تقل، والمشاريع تنقص، وبالتالي تقل الأيدي العاملة، وتنخفض الأجور لكثرة العمال وقلة المشاريع، وترتفع الأسعار، وهذا بالتالي يؤدي إلى انخفاض مكتسبات الناس المالية.

          وكما حرص الإسلام كل الحرص على وجود المال متداولاً، ومنع كنـزه، كذلك فإن الإسلام منع جميع التصرفات، والمعاملات، والعلاقات المالية التي تؤدي إلى تكدس المال لدى فئة من الناس دون أخرى، وتؤدي إلى الطبقية الفاحشة فحرم الإسلام الربا، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) (278 البقرة)، وحرم الاحتكار، قال عليه السلام: «لا يحتكر إلا خاطئ» (رواه مسلم). وحرم وجود التحكمات الاقتصادية سواء أكان ذلك عن طريق الأفراد أو عن طريق الدولة. فلا وجود في الدولة لشركات ضخمة على حساب الامتيازات الخاصة من الدولة لأناس معينين دون آخرين، كما هو الحال في النظام الرأسمالي، لتقوم بعد ذلك بفرض الأسعار واحتكار السلع كما تشاء. فالإسلام يفتح الباب على مصراعيه للجميع دون تمييز، ودون تحكمات في قطاع الصناعة أو التجارة، أو الخدمات.

          والحقيقة أن الناظر في الأحكام الفروعية في نظام الإسلام يرى أنها كلها تحقق الغاية التي أرادها الله عز وجل، أي تحقق تمكين الناس من المال بالحيازة والانتفاع، وتحقق التوازن الاقتصادي وحسن توزيع الثروة بين الناس، وذلك بما شرعت من أحكام عادلة مستقيمة. ويرى كذلك أن الدولة هي الرقيب والراعي لذلك كله بوصفها قوامه على الأمة، وعلى نظام الإسلام، تقوم برعايتها، لا بمص دمائها كما هو حال الدول في النظام الغربي. فالدولة تتدخل كلما اقتضى الأمر، وأوجب الشرع عليها ذلك، فتمنع الربا وتعاقب على ذلك، وتمنع الشركات المساهمة وتعمل على محو مفهومها من الأذهان، وتعمل على فتح الباب للجميع في الصناعة والتجارة والزراعة، دون أي تحكم أو امتياز، وتتدخل في مسألة غلاء الأسعار بجلب السلع إلى الأسواق، وتجلب السلع من منطقة إلى أخرى بسبب الجفاف أو المحل.

          وأقول مرة ثانية بأن من أراد الاستزادة في رؤية عدالة الإسلام، وحسن تنظيمه لشؤون الإنسان وحسن سياسته لأمور المال فعليه الرجوع إلى الفروعيات الفقهية في أمهات كتب الفقه كأحكام الملكية، وأحكام الانتفاع بالملك، والأحكام المتعلقة بتوزيع الثروة بين الناس، وهي القواعد التي قام عليها البناء الاقتصادي بشكل عام.

[يتبع]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *