العدد 156 -

السنة الرابعة عشرة _ محرم 1421هــ _ نيسان 2000م

(وَمَنْ أظلمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ)

          قال تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم(114) ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم(115) وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون(116) بديع السموات والأرض وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون(117) وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون(118) إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تسأل عن أصحاب الجحيم(119)).

          هذه الآيات متصلة بمن ذكرهم الله سبحانه في الآيات السابقة الذين كانوا يقولون لكل صاحب دين لستم على شيء أي اليهود والنصارى والمشركون، فكان كلّ فريق منهم إذا استولوا على مساجد الطرف الآخر منع ذكر الله فيها وسعى في خرابها، وواقعهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قبله ينطق بذلك، فكان اليهود إذا استولوا على مساجد الفرق الأخرى أو كانت في حوزتهم منعوا أولئك الفرقاء من ذكر الله فيها وسعوا في خرابها، هكذا صنع اليهود مع النصارى والنصارى مع اليهود عندما كانوا يتغلبون على مساجد بعضهم، وهكذا صنع المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان البيت الحرام بحوزتهم فمنعوا الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه من العمرة والطواف بالبيت.

          وهذا الأمر مشاهد محسوس في عصرنا الحاضر، فالحروب التي يشنها اليهود والنصارى الصرب والهندوس والروس على المسلمين في فلسطين ولبنان والبوسنة والهند وكشمير والشيشان تُري كيف يتقصد الكفار المآذن والقباب والمساجد كلها بالقذائف وأسلحة التدمير حاقدين عامدين متعمدين.

          والله سبحانه يبين في هذه الآيات ما يلي:

  1. إنه لا أحد أظلم ممن منع كلمة الحق أن تذكر في بيوت الله وقام بتخريب المساجد سواء التخريب المادي ـ أي الهدم وعدم العناية بها ـ أو التخريب المجازي بأن جعلها بيوتاً معطلةً من دعوة الخير ونشر فيها دعوة الشرّ.

  (ومن أظلم) استفهام استنكاري أي إنكار أن يكون أحدٌ أظلم من أولئك.

  (ومن أظلم ممن منع مساجد الله) أي أظلم المانعين هم المانعون لمساجد الله، وهذا على نحو قوله سبحانه: (ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب) الصف: 7 أي أظلم المفترين هم أولئك الذين يفترون على الله الكذب (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) البقرة: 140 أي أظلم الكاتمين هم أولئك الذين يكتمون شهادة عندهم من الله.

          (فالأظلم) في هذه الآيات هو في نفس الموضوع المذكور من الآية.

  1. (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) أي أولئك لا ينبغي لهم أن يدخلوها آمنين وهذا نهي أن يُمَكَّنوا من دخولها آمنين، ودخولهم آمنين يعني أن يكونوا أصحاب سلطانٍ عليها.

  (أولئك) إشارة إلى الفريق الذين يمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ويسعون في خرابها والمذكورون في الآية السابقة، غير أن النص عام والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهي تشمل كل مانع لمساجد الله وساعٍ في خرابها.

          وعلى هذا النحو يكون المعنى أنه يحرم عليكم أيها المؤمنون أن تمكنوا المانعين لمساجد الله والساعين في خرابها أن يكون لهم سلطانٌ عليها.

          والنهي هنا جازم بقرينة (لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) وهذا النهي (ما كان لهم أن يدخلوها) على نحو قوله سبحانه (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) الأحزاب: 53 أي يحرم عليكم أن تؤذوا رسول الله، وعلى هذا النحو قوله سبحانه: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) الأحزاب: 36 أي يحرم على كلّ مؤمنٍ أو مؤمنةٍ أن يعصي أمراً أبرمه وجزمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

  1. (لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) هذا بيان من الله سبحانه لعقوبة أولئك المانعين مساجد الله مما أقيمت لأجله، فعقوبتهم خزيٌ في الدنيا أي ذلةٌ وهوانٌ وكشفٌ لسيئاتهم وإظهار مرض قلوبهم إلى العيان (أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم) محمّد: 29 وفي الآخرة عقوبةٌ شديدةٌ عظيمةٌ.

  2. إن الله سبحانه قد جعل الأرض مسجداً وطهوراً “فأيما رجل أدركته الصلاة فليصلّ حيث كان” البخاري: 323، مسلم: 810 فإذا خربت بيوت الله وعطلت الصلاة فيها من قبل الموصوفين في الآيات السابقة، فليصل المرء حيث وجد وليولِ وجهه شطر المسجد الحرام مهما كانت تلك الجهة، فالجهات كلها لله سبحانه هو مالكها وهو خالقها.

          فإن كانت جهة المسجد الحرام شرقاً فليصل شرقاً وإن كانت غرباً فليصل غرباً وإن كانت جهة أخرى فليصل إليها وسيكون في جميعها متجهاً إلى الله سبحانه.

  (ولله المشرق والمغرب) أي إنَّ الله مالك الاتجاهات كلها وخالقٌ لها، وقد ذكر هنا المشرق والمغرب للدلالة على جميع الجهة التي تشرق منها الشمس عند الأفق وهي تُرى رأي العين فتشرق من نقاط متعددة حسب فصول السنة، وتلك الجهة من أول نقطةٍ إلى آخرها في الأفق الشرقي هي المشرق وهكذا المغرب.

          وقد ذكر في موضع آخر (رب المشرقين ورب المغربين) الرحمن: 17 فالمشرقين أي أول نقطة تشرق الشمس منها وآخر نقطة تشرق منها حسب فصول السنة (المشرقين) أي بداية منطقة الشروق ونهايتها خلال السنة، وهكذا (المغربين).

          وقد ذكرت كذلك (فلا أقسم برب المشارق والمغارب) المعارج: 40 فالمشارق نقاط شروق الشمس من جهة المشرق حسب فصول السنة وهكذا المغارب.

          وذكر (المشرق والمغرب) أو (المشرقين و المغربين) أو (المشارق والمغارب) كناية عن أن الله سبحانه مالكٌ لكلّ الجهات وخالقٌ لها وهو سبحانه واسع الرحمة عالمٌ بما يصلح عباده (إن الله واسع عليم).

  1. ثم يخبرنا الله سبحانه أن أولئك المذكورين في الآية السابقة ـ اليهود والنصارى والمشركين ـ قالوا اتخذ الله ولداً، فاليهود قالوا (عزير ابن الله) التوبة/آية30 والنصارى قالوا (المسيح ابن الله) التوبة/آية30 والمشركون قالوا الملائكة بنات الله (فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون @ أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون @ ألا إنهم من إفكهم ليقولون @ ولد الله وإنهم لكاذبون @ أصطفى البنات على البنين @ مالكم كيف تحكمون @ أفلا تذكرون) الصافات: 149-155.

          ويعلمنا الله سبحانه أنه منـزهٌ عن افتراءاتهم وأنه سبحانه مالك السموات والأرض ومن فيهن وما فيهن والجميع له سبحانه منقادون طائعون.

  (بل) للإضراب، أي إبطال لما زعموا من أن لله ولداً.

  (بل له ما في السموات والأرض) إن استعمال (ما) التي لغير العاقل هو للدلالة على أن منـزلة الذين زعموا أنهم أبناء لله بالنسبة لعظمة الله كأنهم جمادات، فبون شاسع بينهم وبين الله سبحانه، فالولد عادة من جنس والده، وهذا كناية عن تسفيه أحلام أولئك القائلين عن المخلوقات أنها أبناء للخالق الذي خلقها وخلق السموات والأرض وما فيهن.

  (كلّ له قانتون) التنوين في (كلّ) عوض عن المضاف إليه أي كل ما في السموات والأرض وكل من جعلوه لله ولداً كلهم طائعون خاضعون لله سبحانه.

  1. إن الله سبحانه هو مبدع السموات والأرض، والإبداع الإيجاد على غير مثالٍ سابقٍ أي خالقها، وهو سبحانه لا يعجزه شيء فإذا أراد شيئاً حدث كما أراد سبحانه.

  (بديع السموات والأرض) أي مبدعها من تصريف (مُفعِل) إلى (فعيل) على نحو مؤلم إلى أليم.

  (وإذا قضى أمراً) أي إذا أراد شيئاً على نحو قوله تعالى: (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) يس: 82.

  (كن فيكون) كناية عن حدوث ما يريده الله سبحانه على الفور كما يريد.

  1. يخبرنا الله سبحانه أن (الذين لا يعلمون) وهم المذكورون في الآية السابقة (وقال الذين لا يعلمون مثل قولهم) أي مشركو العرب قد طلبوا مثل آيات الأولين (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً) الإسراء/آية90 (فليأتنا بآية كما أرسل الأولون) الأنبياء: 5 (لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا) الفرقان: 21 هكذا قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقولهم هذا مثل قول السابقين من يهود ونصارى، وقد قال اليهود (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) البقرة: 55 وغير ذلك، وقالت النصارى (إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينـزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين @ قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين) المائدة: 112-113، فقال المشركون كما قال الذين من قبلهم حيث تشابهت قلوبهم باشتراط رؤية الآيات لكي يؤمنوا ويصدّقوا.

          ثم يختم الله سبحانه الآية (قد بينا الآيات لقوم يوقنون) أي إن الذين يطلبون الآيات لأجل التثبت واليقين والإيمان فإن الله سبحانه قد بينها لهم وهذا ردّ على مشركي العرب في مكة الذين طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصنع لهم ويصنع من المعجزات، فإن الله يبين لهم إن كنتم تريدون الآيات لتؤمنوا فقد أنزلها الله وبيَّنها، وهي كتاب الله المعجز الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تؤكد ذلك الآية اللاحقة.

  1. يخاطب الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه أرسله بالقرآن الكريم المعجز المتحدي للعرب بأن يأتوا بسورة مثله، وفي هذا ردٌّ على قولهم (لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية) فلو كانوا حقاً يريدون آيةً ليؤمنوا فها هي ـ هذا الكتاب المعجز ـ فليتدبروا آياته، وعندها يتبين لهم أنه ليس كلام بشرٍ بل كلام الله سبحانه فيؤمنوا إن كانوا صادقين في طلبهم الآيات لأجل الإيمان.

          ثم يخبر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أنه بُعث بالقرآن الكريم بشيراً للمؤمنين برضوان الله والجنة، ونذيراً للكافرين بسخط الله والنار، فمن كفر بعد ذلك فلن يضرَ اللهَ ورسولَهُ شيئاً ولن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم مسؤولاً عن كفره، حيث إنَّ على الرسول البلاغ والإنذار (إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تُسألُ عن أصحاب الجحيم).

  (إنا أرسلناك بالحق) أي بالقرآن على نحو ما قاله سبحانه: (بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج) ق: 5. .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *