العدد 221 -

السنة التاسعة عشرة جمادى الآخرة 1426هـ – تموز 2005م

نظام الحكم الشمولي ونظام الحكم الإسلامي

نظام الحكم الشمولي ونظام الحكم الإسلامي

يتردد كثيراً في وسائل الإعلام مصطلح «نظام الحكم الشمولي» ويراد به كل نظام لا يعترف بالديمقراطية ولا يتبنى مبدأ فصل السلطات، ويدخل فيه بالطبع جميع الأنظمة الدكتاتورية الفردية، ويحملونه مسؤولية كل فساد وشر يحدث في الدولة، كما ويحملونه مسؤولية كل أنواع التخلف في جميع قطاعات المجتمع.

  وبشكل إجمالي فإن الأنظمة التي لا تلتزم الخيار الديمقراطي تُـتهم بأنها أنظمة شمولية، وتوصف بشتى الأوصاف السلبية، وتُـنعت بأقبح النعوت.

ويغالي بعضهم بالقول إن أي نظام حكم لا يُـطبق الديمقراطية هو نظام حكم شمولي؛ وعليه فيكون نظام الحكم في نظر هؤلاء الغربيين لا يخرج عن واحد من اثنين: إما أن يكون ديمقراطياً وإما أن يكون شمولياً.

=================================================================

بهذا الوصف التعسفي لأنظمة الحكم يتم إسقاط هذا الوصف ليس على أنظمة الحكم الوضعية الحالية وحسب، بل ويعمم على جميع أنظمة الحكم التي عرفتها البشرية منذ فجر التاريخ، فكأن الحضارات والثقافات على مر العصور لم تعرف سوى هذين النظامين.

وبناءً على ذلك فإن نظام الحكم الإسلامي يكون بحسب نظريتهم هذه هو نظام حكم شمولي، يستوي مع أنظمة الحكم الاستبدادية الدكتاتورية الحالية القائمة في معظم الأقطار العربية والإسلامية، كما ويستوي مع الأنظمة الشيوعية والفاشية، فجميعها في عرفهم تعتبر أنظمة شمولية.

إن القياس والتعميم ابتداءً هو منهج خاطئ في الحكم وفي الأبحاث الفكرية؛ لأن النتيجة المؤكدة لهذا القياس فيها من الظلم والتعسف والتجني ما يجعلها لا ترقى حتى إلى مستوى النقاش، والأصل أن تبحث كل حالة على حدة، فكل نظام حكم له مزايا ومواصفات تميزه عن الآخر، فلا يجوز إطلاق الأحكام بالقياس الشمولي؛ لأن ذلك يجعله قياساً تعسفياً لا يتوافر فيه عناصر القياس الكاملة الصحيحة.

على أن كشف حقيقة أية فكرة هو الذي يدفعنا لمناقشتها؛ لإدراك كنهها فلا تنطلي علينا أية أعمال تدليس فكرية قد يقام بها في محاولة مرسومة لإخفاء الحقائق من خلالها.

إن نظام الحكم الشمولي من وجهة نظر الغرب لا يبتعد كثيراً عن نظام الحكم الديكتاتوري الفردي الذي يُـمجد فيه الزعيم، ويُـقدس الحاكم الذي يجمع كل السلطات بيده، والذي يسيطر على جميع مؤسسات الدولة؛ فيكون هذا الفرد الحاكم هو الآمر الناهي في كل شؤون المجتمع، ويصبح ما يقوله هو القانون، في الوقت الذي لا يخضع هو للقانون؛ لأنه يعتبر فوق القانون، بل وفوق المحاسبة، إذ لا نظير له في البلد كما يتوهم، وبالتالي فإنه لا يتنحى عن السلطة تحت أي ظرف من الظروف، إلا إذا غيَّـبه الموت، أو نجح انقلاب في خلعه.

ومن مزايا النظام الشمولي الدكتاتوري أنه يقيم أجهزة بوليسية أمنية قمعية تنتهك الحقوق، وتبطش بمن يعترض أو يحاسب أو يختلف، مجرد اختلاف، مع مزاج الحاكم. ومن الأمثلة على هذه الأنظمة الشمولية الأنظمة القائمة في البلدان العربية حالياً، والأنظمة الشيوعية التي كانت قائمة إبان العهد السوفياتي، والأنظمة العسكرية في مختلف أرجاء العالم وما شابهها.

ومن المفارقة الغريبة أن أنظمة الحكم الشمولية التي دأب الغرب على مهاجمتها، هي نفسها التي أقامها الغرب بنفسه منذ دخول عهد الاستعمار للبلاد المستضعفة، والتي لم يكن فيها من قبل مثل هذه الأنظمة، فالاستعمار الغربي تحديداً هو الذي أنشأ هذا النوع من الأنظمة، وهو الذي ما فتئ ينتقدها.

وذرائع ومبررات وجود مثل هذه الأنظمة الاستبدادية الفردية المسماة بالشمولية هي بالنسبة لأصحابها لا تخرج عن ثلاث حجج:

1) الادعاء بأن الحفاظ على أمن الوطن والمواطن من الذين يتربصون به، وهم كثر في الداخل والخارج كما يُـزعم، اقتضى وجود مثل هذه الأنظمة الاستبدادية.

2) القول بأن الديمقراطية لا تتماشى مع الدين، وهذا خاص ببعض الأنظمة التي تدعي بأنها أنظمة دينية كالسعودية مثلاً، هذا القول اقتضى وجود أنظمة سُـمِّـيت بالشمولية.

3) الزعم بأن الصراع مع العدو اليهودي هو الذي استوجب وجود هذه الأنظمة الشمولية الفردية الدكتاتورية التي تستطيع مواجهة العدو كما زعموا.

لقد كان من الطبيعي أن تظهر نتائج وآثار لهذه الأنظمة على أرض الواقع، حيث تمثل أسوأ ما يمكن أن يتمخض عن تلك الأنظمة وكان من أبرزها:

1- عسكرة الدولة والمجتمع، وقتل الحياة الطبيعية والمدنية في البلاد، وتمثل ذلك في فرض ما يُسمى بقوانين الطوارئ العرفية الدائمة.

2- اعتبار التسلط والقهر والقمع شيئاً عادياً في ظل هذه الأنظمة القمعية.

3- تدمير القيم السامية والعليا في المجتمعات، وبث الذعر والرعب في كل زاوية من زوايا المجتمع من قبل الحاكم وأجهزته وأدواته.

4- نشر مختلف أنواع الرذائل والشرور بحرية تامة، باعتبار أنها لا تضر بالحاكم وبسلطاته ونفوذه.

5- انتشار التخلف والانحطاط في مختلف مجالات الحياة كتحصيل حاصل لتلك السياسات.

6- وجود منفذ سهل يسمح للقوى الأجنبية بالنفاذ من خلاله لبسط نفوذ تلك القوى.

مع أن هذه الآثار وتلك النتائج التي أفرزتها هذه الأنظمة المسماة بالشمولية لا تمت إلى الإسلام بصلة، إلا أن أعداء الإسلام حاولوا الإيماء بأن هذه الأنظمة الشمولية التي أوجدوها هم، ما هي إلا امتداد طبيعي لنظام الخلافة الإسلامية. فالتدليس واضح في مسعى هؤلاء الأعداء للتلبيس على العقول، من خلال ذلك الربط الغريب بين نظام الحكم في الإسلام وبين الأنظمة الشمولية التي اخترعها الكافر المستعمر، وزرعها في بلاد المسلمين، ورعاها وأسندها بكل ما أوتي من قوة، ثم بعد ذلك أوجد بينها وبين الإسلام نسباً.

ففي الإسلام الحكم والملك والسلطان هو بمعنى واحد وهو السلطة التي تنفذ الأحكام الشرعية على الناس في دار الإسلام، أو كما يقول بعض الفقهاء هو عمل الإمارة التي أوجبها الشرع على المسلمين لدفع التظالم وفصل التخاصـم، وهي عينها ولايـة الأمـر، يقـول تعــالى: ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [السناء 59] والطاعة هنا متعلقة برعاية شؤون الرعية بالفعل من قبل أولي الأمر، أي من قبل الأئمة أو الخلفاء، وهذا المعنى تؤكده عشرات النصوص القرآنية الكريمة والنبوية الشريفة وذلك كقوله تعالى: (فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) [المائدة 48] وقوله: ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [المائدة 49].

ففرق كبير بين الحكم بالهوى كحكم الديكتاتور في أنظمة الحكم الشمولية، وبين الحكم بالشرع في نظام الحكم الإسلامي، وهذا الفرق هو فرق بين الكفر والإسلام، وفرق بين حكم الله وحكم البشر، وبالتالي فلا مجال لإدخال هذا بذاك، ولا مكان للتلبيس والتخليط.

وأصل الحكم في الإسلام كما يعلم القاصي والداني يقوم على أساس العدل مصداقاً لقوله تعالى: ( وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ) [النساء 58] بينما حكم الطاغوت في الأنظمة الشمولية يعتمد على الظلم والقهر والتسلط والمزاج والهوى.

يقول المارودي في مقدمة كتابه الأحكام السلطانية: «إن الله جلَّت قدرته ندب للأمة زعيماً خلف به النبوة, وناط به الملة، وفوَّض إليه السياسة، ليُصدر التدبير عن دين مشروع، وتجتمع الكلمة عن رأي متبوع، فكانت الإمامة أصلاً عليه استقرت قواعد الملة، وانتظمت به مصالح الأمة، حتى استثبتت بها الأمور العامة، وصدرت عنها الولايات الخاصة، فلزم تقديم حكمها عن كل حكم سلطاني، ووجب ذكر ما اختص بنظرها على كل نظر ديني لترتيب أحكام الولايات على نسق متناسب الأقسام متشاكل الأحكام».

ويُحدد الماوردي للإمام عشر مهام هي:

1- حفظ الدين.

2- تنفيذ الأحكام.

3- حماية البيضة.

4- إقامة الحدود.

5- تحصين الثغور.

6- جهاد المعاندين للإسلام.

7- جباية الفيء والصدقات.

8- تقدير العطايا.

9- استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء.

10- مباشرة الأمور وتصفح الأحوال.

هذه هي أحكام فقه نظام الحكم الإسلامي مأخوذةً من كتب السياسة الشرعية المعتبرة، فأين منها أحكام فقه الهوى، وسياسات البطش والإفساد في الأرض، في ظل تلك الأنظمة الشمولية، والتي تعتمد على الأجهزة الأمنية البوليسية وما تمارسه من قتل وتعذيب، وسجن وترهيب، وانتهاك للحرمات، وتعدي على المحـرمات، بينما يقـول الحق تعالى: ( وَلَا تَجَسَّسُوا ) [الحجرات 12] ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث رواه أحمد: «لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من يتتبع عوراتهم يتتبع الله عورته، ومن يتتبع الله عورته يفضحه الله في بيته»، ويقول أيضاً في حديث رواه البخاري ومسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخواناً» ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث رواه مسلم: «إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا» ويقول في حديث آخر رواه مسلم أيضاً: «المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه». فهل هذه المعاني السامية في نظام الحكم الإسلامي موجودة في أنظمة الحكم الشمولية؟!

أما قولهم إن نظام الحكم في الإسلام والأنظمة الشمولية تتشابه في بقاء الحاكم مدة طويلة في السلطة، وتتشابه في عدم الفصل بين السلطات، وبالتالي فهي واحدة، فإن هذا القول ينم عن جهل أو تغرير؛ وذلك لأن مجرد الشبه لا يعني التطابق، فالمشكلة لا تكمن في طول مدة الحكم، وإنما تكمن في الأنظمة والقوانين والتشريعات والمعالجات التي يتم تطبيقها، هل هي صحيحة من لدن حكيم خبير أم هي باطلة مستقاة من عقل إنسان حقير؟ فالعبرة بصحة الأحكام لا بمدة ولاية الحكام، والعبرة بإحسان التطبيق للفكرة الصحيحة، وليس بعدم تطبيقها، أو بتطبيق أفكار فاسدة لا تتفق مع فطرة الإنسان، ولا تتوافق مع عقله.

أما تصنيف الغربيين الكفار لأنظمة الحكم بأنها منذ أيام الإغريق وحتى هذه الأيام إما أن تكون أنظمة ديمقراطية أو أنظمة شمولية، فإن هذا تصنيف قاصر أو مغرض؛ لأن نظام الحكم الإسلامي الذي استمر أكثر من 1300 سنة ليس هو نظام حكم شمولي ولا هو نظام ديمقراطي، إنه نظام متميز فريد لا يشبه هذه الأنظمة الوضعية، ولا تشبهه هذه الأنظمة الناقصة. والادعاء بأن نظام الحكم الإسلامي هو نظام شمولي، أو الادعاء بأنه نظام ديمقراطي، إنما يدل على قصور في التفكير، أو خداع في التفسير؛ لأن نظام الحكم في الإسلام عرفته البشرية لمئات السنين، ولم يصنفه علماؤها كما قام الغرب بتصنيفه في هذه الأيام.

فالإسلام نظام من طراز مختلف، يتناقض مع الديمقراطية تماماً كما يتناقض مع الشمولية في عرف الغربيين. ولسوف تسقط جميع الادعاءات والافتراءات على نظام الحكم الإسلامي بأنه شمولي أو بأنه ديمقراطي، كما سقطت من قبل ادعاءات وافتراءات سابقة عنه بأنه نظام اشتراكي.

وسوف يستمر الصراع بين الإسلام والحضارة الغربية حتى يحل نظام الحكم الإسلامي محل الحكم الديمقراطي والحكم الشمولي، وحتى يحل حكم الله محل حكم البشر، وهذه هي سنة الحياة التي تقضي بانتصار دعوة الحق على دعاوى الكفر والبطلان.

أحمد الخطيب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *