العدد 153 -

السنة الرابعة عشرة _ شوال 1420 هـ_ كانون الثاني 2000م

غـزوة بـدر الكبـرى

            حدثت هذه الغزوة في السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة، وسميت بدر الكبرى للتفريق بينها وبين بدر الصغرى التي حدثت قبلها في جمادى الآخرة من السنة نفسها، والتي خرج فيها الرسولصلى الله عليه وسلم في طلب كٌـرز بن جابر الفهري الذي كان قد أغار على سَـرْح المدينة، فاستمر رسول الله في طلبه حتى بلغ وادياً يقال له سَـفْوان بناحية بدر فسميت بدر الصغرى.

            وبدر الكبرى غزوة عظيمة، كانت فاتحة عز المسلمين ونصرهم على قريش وزعمائها. فيها انتصرت القلة المؤمنة على الكثرة المشركة. ولأنها المعركة الكبرى الأولى في تاريخ الإسلام، ولأن القائد لها هو رسول اللهصلى الله عليه وسلمولأن أقوال الرسول وأفعاله وتقريره، كل ذلك أدلة شرعية يستنبط منها أحكام، فقد رأيت أن أتناول بعض المواقف المؤثرة للرسول الكريم لبيان دلالتها والأحكام المستنبطة منها لتكون نبراساً لنا في معارك دولة الخلافة القادمة إن شاء الله، وسأبتعد ما أمكن عن السرد التاريخي إلا بالقدر اللازم للدلالة على الأحكام.

 

                أما الموقف الأول، فهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما سمع بأبي سفيان مقبلاً بتجارة لقريش، ندب المسلمين إليها قائلاً لهم لعل الله ينفلكموها، ثم لما علم صلوات الله وسلامه عليه أن أبا سفيان قد نجا بالقافلة، وأنَّ قريشاً خرجت للقتال، عرض الأمر على المسلمين فقال قائل المهاجرين: إمض يا رسول الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى «إذهب أنت وربك فقاتلا إنّـا ههنا قاعدون» ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بَـرْك الغِماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، وقال قائل الأنصار: فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك.

                هذا هو الموقف الأول، وهو يُـبَـيِّـن علاقة الدولة الإسلامية مع الدول المحاربة فعلاً، وهي علاقة قتال وأن دماءهم وأموالهم هدر، فهنا قائد عظيم يعد جيشاً يتسابق المسلمون فيه لملاقاة عدوهم في ميدان القتال لتحقيق هزيمته وكسر شوكته والقضاء على كيانه. وهذا هو الحكم الشرعي الواجب فعله تجاه دولة يهود المحاربة فعلاً المغتصبة للأرض المباركة الطيبة وما حولها، أن تتسابق جيوش المسلمين لملاقاة يهود في ميدان القتال حتى القضاء على كيانهم لإعادة فلسطين وكل جزء مغتصب من بلاد المسلمين إلى ديار الإسلام.

                أما الموقف الثاني، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بأدنى ماء من بدر، فجاءه الحُـباب بن المنذر فقال يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نُـغَـوِّر ما وراءه من القُـلُـب (الآبار) ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماءً ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون فقال صلى الله عليه وسلم لقد أشرت بالرأي.

                هذا هو الموقف الثاني وهو يبين ثلاثة أمور:

 1ـ            إنَّ وجود الخبراء في الأمور الفنية الحربية والاستراتيجية أمر مهم في الجيش، فإن لرأيهم وزناً وأيَّ وزن، وعلى الدولة أن تحرص على وجود هؤلاء، لا كما نراه اليوم من إهمال الدول القائمة في بلاد المسلمين لمثل هؤلاء الخبراء، ما دفعهم للتفرق في الأرض، وإعطاء خبراتهم للدول الكافرة لاهتمامهم بهم، بدل أن يعطوها في بلاد المسلمين.

 2ـ            إنَّ الأمـور الفنية التي تحـتاج إلى خبرة ودراية يُـكتفى برأي أهل الاختصاص فيها ولا يُـلزم الخليفة بالنزول عند رأي الأكثرية، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم اكتفى برأي الحباب لخبرته ونظرته السديدة لأمور الحرب.

 3ـ إن الأصل في المسلم أن يكون وقّـافاً عند الحكم الشرعي لا يتجاوزه، فإنَّ الحُـباب، قبل أن يبدي رأيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، سأله إن كان هذا المنزل ـ موقع الجيش ـ وحياً من الله، فإن كان، فهو ملتزم به ولا اعتراض، لأن الصواب هو ما بيّـنه الله ورسوله، فلما علم الحباب أنّه الرأي والحرب والمكيدة أشار بالرأي.

                أما الموقف الثالث، فإنّ الرسول صلى الله عليه وسلم بثّ العيون لمعرفة أخبار قريش، بل واستطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه أخبار العدو، فقد ركب رسول الله ومعه أبو بكر لاستطلاع أمر العدو حتى وقف على شيخ من العرب، تمكن الرسول صلى الله عليه وسلم بحكمته، من معرفة مواقع ومنازل قريش، وذلك من سؤال الشيخ وجوابه. كما أرسل الرسول صلوات الله وسلامه عليه وآله بعض أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له عليه، فأصابوا راوية لقريش فيها غلامان، فأتوا بهما إلى رسول الله، فعلم منهما عدد جيش قريش.

                وهذا الموقف يبين أهمية التجسس على العدو، واستثناءه من تحريم التجسس الوارد بقوله تعالى: (ولا تجسسوا)، فالتجسس على الرعية حرام، وكبيرة في الإسلام، إلا أن التجسس على العدو مستثنىً من ذلك، فإذا لم ينفذ هذا الأمر على وجهه كما هـو حاصـل في الدول القائمة في بلاد المسلمين اليوم، فإنَّ هذا يترتب عليه ترويع الرعية وتتبع عوراتهـا بدل ترويع العدو وتتبع عوراته وثغراته وهذه فتنة في الأرض وفساد كبير.

                أما الموقف الرابع، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يُـعدِّل صفوف أصحابه يوم بدر، ويضعهم في مواقع القتال، يَـرُصُّ صفوفهم، ويعيِّـن لهم مهامهم، ثم بعد أن اطمأنَّ على جاهزيتهم للقتال دخل العريش، الذي بُني له كمركز قيادة، ودخل معه أبو بكر، ثم بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو، ويناشد المولى سبحانه ما وعده من النصر، وأكثر من الدعاء، وأبو بكر يقول يا نبي الله بعض مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما وعدك.

                هكذا الدعاء في الإسلام، الرسول صلى الله عليه وسلم يُـعد العدة، ثم يدخل العريش يدعو، فالدعاء مخ العبادة، وأجره عظيم، لكنه ليس الطريقة لهزيمة العدو، بل إن المسلم يُـعد العُـدّة، ويأخذ بالأسباب، ويحزم أمره، ويتقن عمله، في الوقت الذي يدعو الله سبحانه ويلحف في الدعاء، وهذا في الحرب وفي كل أمر. فإقامة الخلافة لا يكفي فيها الدعاء، بل تعمل وتدعو. وهزيمة يهود لا يكفي فيها الدعاء، بل تتحرك الجيوش للقتال وتدعو. وهكذا كل أمر.

                هذه بعض المواقف أحببنا تبيانها من خلال هذه الغزوة العظيمة التي نصر الله فيها عبده وأعز جنده. والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *