العدد 222 -

السنة التاسعة عشرة رجب 1426هـ – آب 2005م

العـفـو في الشريعة الإسلامية

العـفـو في الشريعة الإسلامية

يحاول بعض المعاصرين من المهتمين بتجديد الفقه الإسلامي أو تطويره، إثبات أن في الشريعة الإسلامية منطقة فراغٍ ترك الشارع بيانَ الأحكام الشرعية فيها. ويستندون في ذلك إلى ما جاء في بعض النصوص الشرعية من أن الله تعالى أحلَّ أشياء وحرَّم أشياء، وسكت عن أشياء أو عفا عنها رحمةً بالناس، فيعتمدون على هذه النصوص للقول بأن في الشريعة منطقة عفو، وأن منطقة العفو هذه هي منطقة فراغ.
وهذا القول ليس خطأً وحسب، بل هو خَطِرٌ أيضاً، إذ إن الذين يركِّزون عليه ويروِّجون له، يروِّجون في الوقت نفسه لأفكار أخرى، إذا نظرنا إليها مجتمعةً نجدها تمهِّد لتغيير وتحريف كثير من الأحكام الشرعية، وبخاصة تلك التي تتـنافى مع الأفكار العلمانية، بل ومع سياسات النظم الغربية المهيمنة، ومع ما نصت عليه قوانين الأمم المتحدة، كما في مسائل حق الناس في التشريع وفي اختيار النظم والقوانين التي يريدونها. وفي الحريات العامة كحرية العقيدة وحق الردة. وكحقوق المرأة ومساواتها بالرجل، وحقها في تولي الحكم، وكاستباحة الربا وغير ذلك.
إن من هذه الأفكار والقواعد الخطرة فكرة تغير الأحكام بتغير الزمان أو المكان, وفكرة أن الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها، وإسقاط معنى الحكمة على ما أنتجه الغرب في الثقافة أو التشريع. وكذلك فكرة مقاصد الشريعة وعرضها وكأنها نهج آخر غير نهج الشريعة، وفكرة مرونة الشريعة وتطويرها، وتجديد الخطاب الديني، وفكرة الحوار بين الأديان والثقافات، وقبول الآخر بمعنى التلاقح والتثاقف الحضاري.
إن هذه الأفكار يتفاقم خطرها إذا أُخذت مجتمعةً، وجُعلت منهجاً، واتُّـخذت قواعد لفهم الشريعة. وسنتناول في هذه المقالة مسألة العفو في الشريعة الإسلامية.

يستند من يقول بمنطقة الفراغ في الشريعة الإسلامية إلى ما رواه ابن ماجة والترمذي عن سلمان الفارسي قال: «سُـئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السَّمن والجبن والفِراء فقال: الحلال ما أحلَّ الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا لكم»، وإلى ما أخرجه الدارقطني من حديث أبي ثعلبة الخشني رفعه: «إن الله عز وجل فرض فرائض فلا تضيِّـعوها، وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرَّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها» قال عنه النووي: حسن الإسناد. وعن أبي الدرداء رفعه: «ما أحلَّ الله في كتابه فهو حلال، وما حرَّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو؛ فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً، وتلا: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ﴾ [مريم 64]» أخرجه البزار وقال: سنده صالح وصححه الحاكم.
وبناء على هذه النصوص يقولون بأن هنالك أشياء سكت عنها الشارع أو عفا عنها ولم يبيِّـن حكمها؛ ولذلك فإنَّ في الإسلام منطقة فراغ، والفقهاء فيما سلف قد ملؤوها بما يناسب عصرهم، وتقتضي الحكمة أن تتغير اليوم هذه الأحكام لتتلاءم مع عصرنا وزماننا. وباقتران هذه الفكرة بغيرها مما ذكرناه أعلاه تَـتَّـسعُ دائرة هذه المنطقة -كما نلاحظ في كثير من الأقوال والفتاوى المعاصرة- لتضمَّ أشياء مما حرَّم الله فتباح، أو مما أباح فتحرَّم، وليصبح العفو ومنطقة الفراغ دليلاً شرعياً، ولينطلي مثل هذا الزعم على مشايخ وطلبة علم، وعلى مهتمين بعلوم الشريعة وبالعمل الإسلامي في زمن هبط فيه مستوى العلم والعلماء.
إن من يتصدى للتفسير والفتوى ينبغي أن يكون نظره ورأيه خاضعاً لنصوص الشرع وقواعده، بحيث يفسِّر النصوص المجملة والمتشابهة بالنصوص المبيِّنة والمحكمة، وبحيث لا يفسِّـر النص بمعنًى ينقضه نص آخر، مما يجعل دلالات النصوص متعارضة.
فالنص الذي يحتمل أكثر من معنًى إذا أُخِذَ وحده، وكان بعض هذه المعاني التي يحتملها متعارضاً مع نصوص أخرى، فإن هذه المعاني التي نقضتها النصوص الأخرى يجب ردها، إما بشكل كامل، أو في موضع التعارض.

وكذلك النص أو اللفظ المجمل لا يصح أن يسرح العقل في اختيار المعنى الذي تميل إليه النفس فيه، أو الذي يتفق مع الرأي أو الهوى، وإنما يجب أن يُـلتزمَ فيه بالمعنى الذي تبيِّـنه النصوص الشرعية. وهذا هو معنى أقوال العلماء: إن القرآن يفسِّـر القرآن، والسنة تفسر القرآن وتبيِّـنه، فتبيِّـن مجملَه، وتقيِّـد مطلقه، وتخصِّص عامه، ويكون القطعي حاكماً على الظني، والأرجح ثبوتاً أو معنًى مقدماً على المرجوح. قال الشاطبي: «إذا بنينا أن السنة بيانٌ للكتاب، فلا بد أن تكون بياناً لما في الكتاب احتمالٌ له ولغيره، فَـتُـبَـيِّـنُ السنة أحد الاحتمالين دون الآخر، فإذا عمل المكلف وفقَ البيان أطاع الله فيما أراد بكلامه، وأطاع رسوله في مقتضى بيانه»1. وينبغي فيمن يستنبط الحكم الشرعي أو يفسر المعنى ويُـبَـيِّـنُـه أن يحيط بقواعد الاستنباط والتفسير وبالنصوص والوقائع الشرعية ذات العلاقة فيما يفتي فيه، وبغير ذلك فقد يفتي بالعام في موضع الخصوص أو العكس، وقد يفتي بالمنسوخ، وقد يفتي في الفروع بما ينقض الأصول، وهذا فِـعل الجهلة البطلة، أو المحرفين لدين الله الذين يكتمون الحقائق الشرعية لغاياتٍ عندهم، وهو دأب الذين يزاولون العلم ويتخذونه سلَّماً للوصول إلى أهوائهم. عن عمر رضي الله عنه قال: «ثلاث يهدمنَ الدين: زلة العالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مُـضِـلّـون».

وعلى هذا الأساس ننظر في معنى «وما سكت عنه فهو عفو» وفي معنى لفظ «العفو» الوارد في الأحاديث التي نحن بصددها، وهل يصح تفسيرها بأن في الشريعة منطقة فراغ، أو بأن هناك أشياء لا حكم لها في الشريعة؟
أولاً: يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة 3]، ويقول: ﴿ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران 138]، ويقول ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام 38]، ويقول: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النحل 89]، ويقول: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [النحل 44]. فهذه نصوص واضحة الدلالة على كمال الشريعة، وأن فيها بيان كل شيء، ولو كان معنى «العفو» أن هناك أشياء لم تبين الشريعة حكمها لكانت النصوص متناقضة، ولما كان القرآن بياناً، إذ يكون بياناً فيما بيَّـنه ويكون نقيض البيان فيما ترك بيانه، ولما كان تبياناً لكل شيء إذ هناك أشياء لم يبيِّـنها، ولما كان الدين كاملاً إذ تقتضي منطقة الفراغ وجود أشياء لم يبين الله لنا الحكم فيها، وهذا نقيض اكتمال الدين، ولكان النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين للناس الشريعة كاملةً. وعليه فلا يصح أن يُـقال إن في الشريعة منطقة فراغ, هذا من جهة.
ثانياً: يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ﴾ [طه@وَلَا يَشْقَى 123-124]. ويقول: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء 107]، ويقول: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل 89]، ويقول: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [البقرة 120]، ويقول: ﴿ وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر 7]، ففي هذه الآيات يبين الله سبحانه وتعالى أن الهدى والرحمة هي من عنده وحده، وأنها بالكتاب وبهذه الرسالة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن الهدى والرحمة في اتباع ما أتانا من الله تعالى، وأن اتباع أي شيء أو أخذ أي شيء من خارج الرسالة هو حرام، وفيه الضنك والشقاء. هذا ما تدل عليه هذه النصوص، فلو كان في الشريعة منطقة فراغ لكان التشريع في هذه (المنطقة) قولاً بغير علم وبغير هدى من الله، ولكان اتباع هذا التشريع إعراضاً عن ذكر الله، وأخذاً مما لم يأتنا به الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ وعلى ذلك فالقول بمنطقة فراغ يتناقض مع كون الرسالة هدًى ورحمة، وهو قول مردود من هذه الجهة أيضاً.

وعلاوة على ذلك فإن الحديث يقول: «وسكت عن أشياء رحمةً لكم»، فالنبي صلى الله عليه وسلم فسَّـر السكوت بأنه رحمة، ونحن نعلم أن الرسالة هي الرحمة، والبيان من الله تعالى هو الهدى والرحمة؛ وعلى ذلك فإن السكوت الذي هو رحمة هو عينه تشريع وبيان، فهو سكوت عن التحريم أو الإيجاب أو عن زيادة التكاليف وليس عن البيان، وسيتبين هذا لاحقاً.
ثالثاً: إنه على فَـرَضِ وجود منطقة فراغ في الشريعة، نسأل: من الذي سيقوم بالتشريع في هذه (المنطقة)؟ وكيف سيكون التشريع فيها؟
فإن كان ذلك سيكون بالرجوع إلى النصوص والقواعد الشرعية والاستدلال بها، فذلك حينئذٍ استنباط شرعي راجع إلى القرآن والسنة، وهذا ينفي وجود منطقة فراغ، وفي هذه الحالة يصبح القول بمنطقة فراغ كلاماً فارغاً غير دالٍ على معناه.
وإن كان ذلك سيكون بغير رجوع إلى نصوص أو قواعد شرعية، فهذا يعني أن هناك مسائل الحكمُ فيها ليس مصدره النصوص الشرعية، وهذا يجعل الحكم والتشريع في هذه المسائل لغير الله تعالى، وهذا حرام قطعاً، ومنقوض بقوله تعالى: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ﴾ [يوسف 40] وبنصوصٍ كثيرة؛ وعلى ذلك فإن القول بمنطقة فراغ في الإسلام مردود من هذه الجهة أيضاً.

وعلى ذلك فإن الجدال لإثبات أن في الشريعة منطقة فراغ هو مِـراء منهيٌ عنه، وهو مناقض للنصوص القطعية. ولما كان الشريعة هي الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال العباد، فإنه ما من فعل للعبد إلا وله في الشريعة حكم، عِلمه من عِـلمه، وجهله من جهله. ومن ظن أن الأمر يحتمل غير هذا فقد توهم، ولربما اختلط عليه الأمر أثناء اطلاعه.
وهناك شبهتان يثيرهما من يزعم أو يميل إلى زعم أن في الإسلام منطقة فراغ، سنردهما فيما يلي قبل بيان معنى العفو الذي نحن بصدده.
الأولى: هي أن نصوص الشريعة متناهية، والوقائع غير متناهية، والمتناهي لا يفي بغير المتناهي، والنتيجة أن في الشريعة منطقة فراغ.

والجواب على هذه الأغلوطة هو: نعم إن النصوص متناهية، ولكن الشريعة قد جاءت بنصوص عامة، وبصيغ تستنبط منها القواعد العامة، وجاءت بعلل، وعلل الأحكام هي بمثابة قواعد كلية أو تستنبط منها القواعد الكلية، وعلى هذا فإن الشريعة وإن كانت محدودة النصوص، فبما تفيده من قواعد عامة وكلية تفي بكل الوقائع. هذا هو رد هذه الشبهة، وهو ما عليه أئمة الفقه والأصول، وربما اختلط الأمر على من ذكر هذه الشبهة بسبب ما ذكره بعض الأئمة فيما سلف، فاستدل بمثل هذا القول على منطقة فراغ؛ لذلك ننبه هنا إلى أن من ذكر من الأئمة فيما سلف عن محدودية النصوص وعدم محدودية الوقائع لم يذكرها لمثل هذا الاستدلال الساقط، وإنما ذكرها للاستدلال على وجوب استنباط العلل، وعلى شرعية تخريج وتنقيح المناط في الوقائع، أي ذكروها للاستدلال على لزوم استنباط القواعد العامة والكلية. ولقد بيَّـن كثير من الأئمة كمال الشريعة ووفاءها بالوقائع بما فيها من عموم وقياس. قال الشاطبي: «جرت الأحكام الشرعية في أفعال المكلفين على الإطلاق، وإن كانت آحادها الخاصة لا تتناهى. فلا عملَ يُـفرض ولا سُـكون إلا والشريعة حاكمةٌ عيه إفراداً وتركيباً، وهو معنى كونها عامة»2.
الثانية: إن الاستدلال بقوله تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النحل 89] لا يعني كل شيء، والشبهة هنا: هل في القرآن الكريم علوم التاريخ والجغرافيا والفلك والفيزياء وما شاكل ذلك؟ وهل فيه علم الغيب؟
والجواب هو: إن النصوص تدل على كمال الدين وبيان كل شيء في أحكام أفعال العباد من حيث الأمر والنهي والإباحة، أي فيما يتعلق بالتشريع أي التكليف والتعبد؛ فلا يجوز أن ينسب إليه ما ليس فيه وما لم ينـزل لأجله، وكذلك لا يجوز أن يزعم نقصانه عما جاء لأجله. وتلك الأمور المذكورة هي من أمور الدنيا، فهي من الأبحاث أو الحقائق أو الأحكام المادية الوصفية التي أعطى الله سبحانه وتعالى الإنسان إحساساً وعقلاً مكَّـنه من معرفتها ومن الحكم فيها. قال صلى الله عليه وسلم: «أنتم أدرى بشؤون دنياكم». أما علم الغيب فلا علاقة له بالأمر والنهي.

قال الشاطبي عن هذه النصوص الدالة على كمال الدين وبيان الشريعة لكل شيء: «فأما الآيات فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد». ثم قال: «فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصلح أن ينكر منه ما يقتضيه»3. والشريعة إنما تبين أحكام أفعال الإنسان، وهذه من أمور الدين وليست من أمور الدنيا.
وإذا ثبت ردُّ تفسير «العفو» بمنطقة فراغ، فما هو معنى «العفو»؟
لقد ورد لفظ العفو في نصوص شرعية كثيرة، وجاء ذكره في القرآن الكريم في ما يزيد على أربعين موضعاً. والمعنى في كل هذه المواضع يدور حول معنى المغفرة والصفح والتسامح، والتجاوز عن الذنب أو عن التقصير، وعدم المؤاخذة، والتخفيف والتسهيل في التكليف، والتنازل عن المطلوب أو عن بعضه، والمعنى الوارد في الأحاديث التي نحن بصددها لا يخرج عن هذه المعاني. قال الشوكاني في فتح القدير تفسيره الآية 187 من سورة البقرة: «﴿ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ يحتمل العفو من الذنب ويحتمل التوسعة والتسهيل».
وسأبين فيما يلي معنى «العفو» في هذه الأحاديث، ثم أؤيد ذلك بنصوص شرعية، ثم أذكر بعض أقوال العلماء المتضافرة على هذا المعنى.

إن لفظ «أشياء» في الأحاديث يتضمن الأفعال ولا يقتصر على الأعيان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فرض فرائض»، «وحد حدوداً». ولأن قوله: «الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرَّم الله في كتابه» يتضمن ما أحلَّه وما حرَّمه من أفعال. ومعنى هذه النصوص هو أن هناك أشياء أمر بها تعالى، وجاءت أوامر تتناول تفاصيلها أو بعض تفاصيلها وما يتفرع عنها، فيجب القيام بها وبتفاصيلها كما فرضها تعالى وحددها، أي كما بيَّـنها. وهناك أشياء نهى عنها فيجب تركها، وهناك أشياء جاء الأمر بها عاماً، ولم يعين الشارع تفصيلاتها، أو الجزئيات المندرجة تحتها، أو كيفية القيام بها، وفي هذه الأخيرة يقع العفو، وذلك كالقتال المأمور به، فإن الأمر به جاء عاماً ولم يحدد أدواته أو آلته، ولم يحدد أساليبه أو خطته، ولم يلزم بأسلوب معين لإنجازه. وإعطاء الشارع للمكلف حق اختيار أي من الوسائل أو الأساليب لتنفيذ هذا الأمر هو المسمّى «العفو». أما إذا جاء من الشرع ما يمنع شيئاً من هذه الوسائل أو الأساليب على وجه الخصوص، فإن اتخاذ هذه الوسيلة أو الأسلوب يعد مما حرمه الله، ويعد من حدود الله، فلا يجوز انتهاكه أو الاعتداء فيه. والوسائل والأساليب والأفعال التي تندرج تحت الدليل العام لا يقال إن حكمها غير مبين في الشريعة، وإنما يمكن أن يقال ليس فيها نص خاص، أو ليس فيها بعينها نص، ولكن هناك نص عام يبين حكمها. ونص الحديث بأنه سكت عنها ولم يذكرها وجعلها من العفو. هو دليل على إباحتها. وهو بمعنى التسهيل والتخفيف والتوسعة، وعدم التقييد وزيادة التكليف. فالله سبحانه وتعالى أمر بإنجاز الأمر -وهو القتال هنا- ولم يكلف بأسلوب معين أو بوسيلة معينة؛ لأن هذا يكون زيادة في القيود والتكاليف، وإنما أباح للمكلفين أن يختاروا من الوسائل والأساليب ما يرونه، بشرط المحافظة على إنجاز الأمر. وعدم التكليف بفرد معين من الأفراد المؤدية إلى إنجاز الأمر هو عفو؛ لأن هناك -في علم الله- بين هذه الأفراد ما هو أفضل من غيره، وما فيه تقرُّب أكثر إلى الله تعالى. فكان السكوت عن تعيين فرد معين إباحةً لكل الأفراد، وكانت هذه الإباحة تسهيلاً وتخفيفاً وسعةً. فالحديث يقول: «وسكت عن أشياء رحمة لكم» أي إنه شرع لكم إباحة الاختيار من بين أفراد عديدة ولم يلزمكم بفرد معين، وبهذا يكون تسهيلاً وتخفيفاً في التكليف، وبهذا يكون رحمةً كما في قوله تعالى: ﴿ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ﴾ [الأنفال 66].
وما ورد في الأحاديث يؤكد هذا المعنى، فالنصوص تقول: «فلا تبحثوا عنها» وفي روايات: «فلا تسألوا عنها». وتقول: «فاقبلوا من الله عافيته» فإذا جاء أمرٌ من الشارع عاماً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم جاء من الصحابة من يسأله عن كيفية تنفيذ الأمر، أو يطلب تحديداً لبعض تفاصيل هذا الأمر، فإن ما يقوم به هذا السائل هو أنه يطلب تقييد نفسه وتقييد المسلمين بكيفية معينة، أو بأمر واحد من أمور عديدة خيَّـره الشارع في الاختيار من بينها، وبذلك يحرِّم سائر المباحات في هذا الأمر، ومثل هذا الفعل من هذا السائل منهي عنه شرعاً؛ لأنه قد يؤدي إلى أن ينـزل التشريع جواباً لذلك السائل بتحريم مباح أو بمزيد من التكاليف. روى مسلم وغيره عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرَّم عليهم فحرِّم عليهم من أجل مسألته». وعند أحمد عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من أكبر المسلمين في المسلمين جرماً رجلاً سأل عن شيء ونقَّر عنه حتى أنـزل في ذلك الشيء تحريم له من أجل مسألته».
وجملة القول باختصار إن العفو في هذه الأحاديث هو أن يأتي الأمر عاماً يندرج تحته خيارات للمكلف، أبيح له أن يختار أياً منها ضمن ضوابط النصوص والقواعد الشرعية، وهي أن لا يختار شيئاً بعينه حرمه الله تعالى أو أسلوباً بعينه حرمه الله تعالى، فالقاعدة الشرعية تقول: «الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم» وتقول: «يبقى العام على عمومه ما لم يرد دليل التخصيص»، وضمن أي قاعدة أخرى أو نصٍ له علاقة بالمسألة.

هذا هو معنى العفو. أما النصوص التي تؤيد هذا المعنى، فمنها النص المذكور آنفاً وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرَّم عليهم فحرم عليهم من أجل مسألته».
ومنها ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما واللفظ لمسلم عن أبي هريرة قال: « خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه». ففي هذا الحديث وفي الآية: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران 97] عمومٌ من جهة عدم تحديد إن كان الأمر بالحج كل عام أو كل عامين أو غير ذلك، فتكون مثل هذه الأسئلة (أكل عام) طلبا للجواب. ولو جاء الجواب بنعم أو بأنه مرة كل كذا، لكان هذا البيان تكليفاً إضافياً، ولكان فيه مزيد مشقة وكلفة، ولو جاء الجواب بلا، لما كان فيه مزيد سعةٍ ورحمة؛ لأن الأمر في أصله عام وينطبق على المرة الواحدة، أي على أقلِّ ما قيل؛ لذلك كان عدم بيان العدد دليلاً على صحة المرة الواحدة، أي إن السكوت عن ذكر العدد ليس سكوتاً مطلقاً عن البيان بمعنى الفراغ في التشريع، وإنما السكوت نفسه عن ذكر العدد هو بيان لصحة المرة الواحدة؛ وبهذا هو رحمة لجهة أنه تسهيل وتخفيف. وجواب السائل هنا لا يتضمَّـن إلا: إما زيادة التكليف أو السكوت عن الزيادة «فسكت حتى قالها ثلاثاً» وهو في الحالتين ليس فيه تخفيف وإنما فيه إما زيادة تكليف أو إبقاء التكليف كما هو؛ لذلك كان هذا السؤال وما شاكله مستدعياً لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقولِـه: «ذروني ما تركتكم»، أي طالما لم أكلفكم فلا تسألوني ما يكلفكم، وإنما هلك من كان قبلكم بكثرة أسئلتهم التي كان الجواب عليها تكاليف كثرت عليهم بكثرة أسئلتهم فلم يقوموا بها فكان ذلك عصياناً لله أهلكهم، وكذلك معنى «واختلافهم على أنبيائهم» أي كثرة الذهاب إلى الأنبياء والإياب من عندهم، أي ترددهم عليهم لأجل أسئلة يأتي الجواب عليها رافعاً للعفو.
ومن النصوص الدالة على هذا المعنى للعفو قوله تعالى في الآيتين 101 و102 من سورة المائدة: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ  قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ@حَلِيمٌ ﴾.

فالله سبحانه وتعالى ينهى عن السؤال عما عفا عنه، ويقول إن الجواب قد يسوء السائلين أو يسوء المؤمنين، وهذه المساءة هي بزيادة التكاليف، إذ إن النص يقول: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ﴾ أي وسع عليكم فيها أو سهل عليكم أو خفف عنكم، وهذا المعنى هو نفسه الوارد في حديث الحج أعلاه، وفي التفاسير أن واقعة هذا الحديث كانت سبباً في نزول هذه الآية. ومما جاء في مختصر تفسير ابن كثير للصابوني عند تفسير هذه الآية 101 من سورة المائدة: «وقال العوفي عن ابن عباس في الآية: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذَّن في الناس فقال: يا قوم كتب عليكم الحج، فقام رجل من بني أسد فقال: يا رسول الله، أفي كل عام؟ فأغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً فقال: والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، وإذاً لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، وإذا أمرتكم بشيء فافعلوا، وإذا نهيتم عن شيء فانتهوا عنه، فأنزل الله هذه الآية».
فنص الحديث يقول: «وإذاً لكفرتم» والآية تقول: ﴿ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ﴾ فيكون المعنى الذي تتضافر عليه هذه النصوص -والله أعلم- إن سؤالكم يستدعي جواباً، وقد يكون الجواب زيادة في التكاليف، وقد تؤدي زيادة التكاليف إلى عصيان وإلى ضيق منكم وتبرُّم بهذه التكاليف فتكفرون.

لذلك فهذا النوع من الأسئلة مذموم، والذي يسأل هكذا أسئلة ويجلب للناس تكاليف تحرِّم عليهم ما أباحه الله لهم يكون من أعظم المسلمين جرماً. ومما يؤكد هذا المعنى أيضاً أن السؤال لمعرفة الحكم الشرعي مطلوب شرعاً؛ لأن المسلم ينبغي أن لا يقدم على عمل إلا بعد معرفة حكمه وأنه جائز، وهذا مقتضى الطاعة والتقوى، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [الإسراء 36] وقال: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل 43]، فالسؤال هو لتبيُّـن الحكم، والبيان يكون بالشرع ومن الشرع، ولو كان معنى العفو هو منطقة لا بيان فيها لتناقض النهي عن السؤال فيها مع مقتضى التقوى، ومع النهي عن الفعل قبل معرفة أنه جائز، ولتناقض مع الأمر بالسؤال ﴿ فَاسْأَلُوا ﴾. فإذاً، موضع السؤال المنهي عنه هو غير موضع السؤال المأمور به، والنهي ليس نهياً عن طلب المعرفة لما يجهل حِـلَّـه من حرمته، وإنما هو نهيٌ عن سؤال ينتج عنه تحريم المباح أو زيادة القيود والتكاليف.

ومن النصوص الدالة على هذا المعنى للعفو أيضاً ما قصه علينا القرآن الكريم من أمر الله تعالى لقوم موسى عليه السلام أن يذبحوا بقرة. قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ  قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ@أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ  قَالُوا ادْعُ@وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ  لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا  قَالُوا ادْعُ لَنَا@بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ  رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا  قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا@إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ  ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [البقرة 67-71].
فقوم موسى عليه السلام أمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة وكان الأمر عاماً، أي إن أي بقرة يذبحونها تكون مجزئة وتحصل بها الطاعة، ولو لم تكن مما ينطبق عليها المواصفات التي ذكرت لاحقاً، فكان عدم البيان هذا عند الأمر من أول مرة هو العفو، ولكنهم لم يقبلوا من الله عفوه، فسألوا وجاءهم الجواب بتعيين أوصاف لا فارض ولا بكر، وبذلك صار ذبح الفارض من البقر أو البكر غير مجزئ وليس فيه طاعة، وبهذا قيدوا أنفسهم وعسّـروا أو صعَّـبوا الأمر على أنفسهم، وحرِّّم عليهم بعض ما كان حلالاً لهم، وهكذا في كل أسئلتهم حتى ضاق الأمر عليهم، وصار شديداً عليهم أن يجدوا البقرة بالمواصفات التي جاء الأمر بها بعد أسئلتهم، وبالكاد وجدوها.

وهذه المواصفات التي بينها الله تعالى وأمرهم بها بعد أن سألوا هي مواصفات البقرة الأفضل والأحسن، ولكن الله لم يأمر بها أول الأمر، وترك الأمر عفواً، وهذا معناه التسهيل والتخفيف رحمةً بهم، وليس معناه منطقة فراغ، وإنما معناه كما هو جلي: إن ذبح أي بقرة كان مجزئاً. وبهذا المثال وبما سبقه من بيان يتضح معنى العفو ومفهومه.
هذا من حيث النصوص الدالة على معنى العفو، أم أقوال العلماء التي تؤيد وتؤكد ما ذكرته في هذه المقالة ففيما يلي بعضها:
يقول الشاطبي في معرض بيانه أن الشريعة فيها بيان كل شيء: «القرآن فيه بيان كل شيء على ذلك الترتيب المتقدم، فالعالم به على التحقيق عالم بجملة الشريعة ولا يعوزه منها شيء، والدليل على ذلك أمور منها النصوص القرآنية من قوله: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ [المائدة 3] الآية، وقوله: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النحل 89]، وقوله: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء 9]… وأشباه ذلك من الآيات الدالة على أنه هدًى وشفاءٌ لما في الصدور، ولا يكون شفاءً لما في الصدور إلا وفيه بيان كل شيء»4. وقوله: «ذلك الترتيب المتقدم» أي ترتيب نزول الآيات.

وقال العسقلاني في فتح الباري عند شرحه لحديث الحج: «المراد بهذا الأمر ترك السؤال عن شيء لم يقع خشية أن ينـزل وجوبه أو تحريمه، وعن كثرة السؤال لما فيه غالباً من التعنُّـث وخشية أن تقع الإجابة بأمر يستثقل، فقد يؤدي لترك الامتثال فتقع المخالفة. قال ابن فرج: معنى قوله: «ذروني ما تركتكم» لا تكثروا من الاستفصال عن المواضع التي تكون مفيدة لوجه ما ظهر، ولو كانت صالحةً لغيره. كما إن قوله: «حجوا» وإن كان صالحاً للتكرار فينبغي أن يكتفى بما يصدق عليه اللفظ وهو المرة، فإن الأصل عدم الزيادة. ولا تكثروا التنقيب عن ذلك؛ لأنه قد يفضي إلى مثل ما وقع لبني إسرائيل إذ أمروا أن يذبحوا البقرة، فلو ذبحوا أي بقرةٍ كانت لامتثلوا، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم».
وقال أيضاً في باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه: «قال بعض الأئمة: والتحقيق في ذلك أن البحث عما لا يوجد فيه نص على قسمين: أحدهما: أن يبحث عن دخوله في دلالة النص على اختلاف وجوهها فهذا مطلوب لا مكروه، بل ربما كان فرضاً على من تعيَّـن عليه من المجتهدين».

وقال السندي في شرحه لحديث الحج من رواية النسائي: «”ذروني”: أي اتركوني من السؤال عن القيود في المطلقات، “ما تركتكم”: عن التكليف في القيود فيها، وليس المراد لا تطلبوا مني العلم مادام لا أبين لكم بنفسي».
وجاء في تحفة الأحوذي للمباركفوري في شرحه لحديث الترمذي في العفو: «”فهو مما عفا عنه” أي عن استعماله وأباح في أكله وفيه أن الأصل في الأشياء الإباحة».
وقال الشوكاني في فتح القدير عند تفسير الآية: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [المائدة 101] الآية: «أي لا تسألوا عن أشياء متصفة بهذه الصفة من كونها إذا بدت لكم أي ظهرت وكلِّـفتم بها ساءتكم، نهاهم الله عن كثرة مساءلتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن السؤال عما لا يعني ولا تدعو إليه حاجة قد يكون سبباً لإيجابه على السائل وعلى غيره». وقال: «﴿ تُبْدَ لَكُمْ ﴾ أي تظهر لكم بما يجيب عليكم به النبي صلى الله عليه وسلم أو ينـزل به الوحي؛ فيكون ذلك سبباً للتكاليف الشاقة، وإيجاب ما لم يكن واجباً، وتحريم ما لم يكن محرماً».

وجاء في مختصر تفسير ابن كثير للصابوني: «﴿ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ ﴾ [المائدة 101] أي لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها، فلعله ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق، وقد ورد في الحديث: «أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرَّم فحرِّم من أجل مسألته»، ولكن إذا نزل القرآن بها مجملةً فسألتم عن بيانها بُـيِّـنت لكم حينئذ لاحتياجكم إليها».
وبناء على ما سبق فإن القول بمنطقة فراغ في الشريعة قول مبتدع، وفيه جرأة على الدين، ويقصد منه قائلوه تبرير انحرافاتهم عن الشريعة، وهو قول مردود. ومعنى «العفو» هو الإباحة تسهيلاً وتخفيفاً وتوسعة على المكلف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الموافقات، ج4، ص13، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.
2- المرجع السابق، ج1، ص44.
3- المرجع السابق، ج2، ص56.
4- المرجع السابق، ج3، ص244.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *