التضليل
2005/09/07م
المقالات
3,769 زيارة
التضليل
من أخطر أساليب الغزو الاستعماري الثقافي الذي اجتاح المشرق الإسلامي هو أسلوب التضليل، وهو عكس الحقيقة تماماً، وقد لجأت إليه الدول المستعمرة، وعلى رأسها أميركا لإخفاء أهدافها الحقيقية، فهي تتوارى خلف مفاهيم ومصطلحات براقة، في ظاهرها الرحمة وفي باطنها من قبلها العذاب. نعم فأميركا ليست حريصة على مصلحة شعوب المنطقة الإسلامية إطلاقاً، ولسان الحال يغني عن المقال، فما فعلته وتفعله آلتها العسكرية في العراق وأفغانستان خير شاهد على ذلك، هذا غير الاستعمار الاقتصادي لخيرات المنطقة وعلى رأسها النفط، وكذلك دعمها اللامحدود لكيان يهود الغاصب لفلسطين.
إن أميركا، لكي تمرر مشاريعها الاستعمارية التي لا سقف لها تقف عنده، كان لا بد أن تظهر بمظهر الحريص المتباكي على تردي أحوال وأوضاع المنطقة الإسلامية سياسياً واقتصادياً، فأخذت تطلق شعارات جديدة خداعة، مثل الإصلاح، والتغيير، والتعددية، وسبقت ذلك بشعارات أخرى مثل: حقوق الإنسان والحريات العامة، وحرية المرأة، والمساواة والعدالة الاجتماعية، والديمقراطية، والمجتمع الحر، وحرية الرأي، واحترام الرأي الآخر، والمجتمع الحر، والعولمة، والخصخصة، والاقتصاد الحر، وحرية السوق، وحوار الأديان، والتطرف والاعتدال والإرهاب، وغيرها، وكل هذه المصطلحات تندرج تحت مفهوم الغزو الثقافي. ونظرة إلى هذه المفاهيم والمصطلحات نجد أنها:
أولاً: هي مفاهيم خاصة بالمبدأ الرأسمالي القائم على المادية النفعية البحتة، الذي لا يقيم وزناً لعرف أو دين أو ُخلُق أو مُثل، بل الأساس هو فصل الدين عن الحياة.
ثانياً: يراد من هذه المفاهيم في بلاد الغرب غير ما يراد لها في البلاد الإسلامية، ومثال ذلك: لا يمكن أن يراد بمفهوم التعددية هو إيجاد أحزاب في البلاد الإسلامية تحفظ الدولة من السقوط والانهيار في حال فشل الحزب الحاكم في سياساته وبرامجه كما هي الحال في بلاد الغرب، فإذا فشل حزب العمال في بريطانيا جاء حزب المحافظين، وإذا أخفق الحزب الديموقراطي في أميركا في سياسته جاء الحزب الجمهوري بطريقة الانتخابات، وهذا لم يحصل في أي بلد عربي أو إسلامي؛ لأن المراد بالتعددية في بلادنا هو أن تكون على أساس طائفي أو إثني وعرقي كما حصل في أفغانستان والعراق، ومتوقع في لبنان، الأمر الذي لا يسمحون به بتاتاً في بلادهم مع أنها تعج بالإثنيات والطوائف كالسود في أميركا مثلاً.
ثالثاً: فيما يتعلق بالمفاهيم أو الشعارات الخاصة بالحياة الاجتماعية فيراد لبعضها نفس ما يراد لها في بلاد الغرب، مثل المساواة وحرية المرأة والمجتمع الحر والحرية الشخصية، وذلك بهدف خلخلة أركان المجتمع المسلم، وتفتيت الروابط الأسرية والعائلية، وانفلات المرأة من أي قيد من دين أو عرف، وكل ذلك من أجل شيوع الفاحشة والرذيلة والانحراف للجنسين، كما هي الحال في المجتمعات الغربية، فينهدم المجتمع المسلم وهذا ما يريدونه.
رابعاً: إبقاء هذه الشعارات مبهمة دون تعريف، ومثال ذلك لا يوجد حتى الآن تعريف واضح وصريح للإرهاب، وذلك حتى تندرج المقاومة الشرعية وغير الشرعية في نظرهم تحته، فيلحقون ما شاؤوا من المنظمات الإسلامية في إطاره، فمقاومة الاحتلال الأميركي في العراق وأفغانستان، ومقاومة الاحتلال الصهيوني في فلسطين ولبنان تعد إرهابا، وهكذا يبقى الباب مفتوحاً لإدخال الحركات الفكرية التي تستخدم الكفاح السياسي والصراع الفكري ووصفها بالإرهاب.
وهذا هو التضليل بعينه، ويتوقع أن تبقى هذه المصطلحات والمفاهيم دون تعريف، أي مفتوحة لتبقى حربهم كذلك مفتوحة بلا حدود، وهذا ما صرح به بوش بعد أحداث 11 أيلول، فلا يتوقع أن يطلع علينا أي مسؤول سياسي غربي ليفسر لنا معنا العولمة أو الخصخصة أو حقوق الإنسان أو حوار الأديان… الخ، وذلك لأن التضليل هو الأسلوب الأنجح لتمرير وتسويق هذه الشعارات على اعتبار أنها مشاريع للإصلاح والتنمية والتغيير… والله لقد صدق الشاعر:
للغرب عادات كغازات سرت في الشرق مسرى الداء في الأجسام
لا تأمنوا المستعمرين فكم لهــم حـرب تقنّـَع وجـهها بسلام
خامساً: نلاحظ أن الحروب لا بد لها من أسباب وذرائع، وهذه الشعارات أو بعضها كافية في حال انتهاكها من الدول لشن الحرب الضروس عليها كما حصل لأفغانستان والعراق، ويمكن أن يحصل في السودان، والحبل على الجرار. إذاً هي مشاريع استعمارية وليست للإصلاح.
سادساً: لكثرة ترديدها من دول الغرب فقد أصبحت بمثابة قانون دولي على مقاييسهم، ويمكن أحالة ملف أي دولة يريد الغرب إسقاطها والسيطرة عليها إلى مجلس الأمن في حال عدم تطبيقها لهذه الشعارات على طريقتهم. كيف ولا تزال الدول الدائمة العضوية فيه خاصة فرنسا وأميركا وبريطانيا قد صدرت فيها هذه الشعارات فتريد المحافظة عليها وعدم التهاون فيها.
سابعاً: ما زادت هذه الشعارات بلاد المسلمين إلا انحطاطا وتخلفاً وزيادة في التبعية والهيمنة لدول الغرب الكافرة، ولا أريد أن أذكر مظاهر هذا التخلف وتلك التبعية، فلسان الحال يغني عن المقال، فكل دولة غارقة في مشاكلها إلى عنقها، وتابعة لغيرها حتى حلقومها، ولست هنا بصدد شرح هذه المفاهيم وبيان حقيقتها، فقد تناولت الوعي في كثير من أعدادها كل الشعارات وبينت فسادها وواقعها وآثارها المدمرة على البشرية عامة وعلى بلاد المسلمين خاصة، كما بينت مخالفتها لأحكام الإسلام وتضاربها مع العقيدة الإسلامية.
ثامناً: في عدم تعريفهم لمفاهيم حضارتهم دليل واضح وصريح على أنها شر بحت يراد إيقاع الآخرين فيه. فلو كانت حضارتهم تقوم على مفاهيم وأفكار صحيحة تقنع العقل ويطمئن لها القلب وتسبب السعادة للإنسان لما تواروا خلفها، ولما قاموا بتلميعها وتزويقها بكافة ألوان الزواقة حتى يتقبلها الآخرون.
وكل ما يظهر من آثار لهذه الحضارة في عقر دارها هو التقدم العلمي والتكنولوجي والذي لا يستند أساساً إلى وجهة نظر معينة في الحياة، وإنما هو نتاج العلوم والأبحاث والتجارب المخبرية والملاحظة، أي أنه عالمي لا تختص به حضارة دون أخرى، أو أمة دون أخرى، فما عند أميركا عند روسيا والصين وما عند الهند عند الباكستان وهكذا…
أما في الجانب الروحي فهم ضائعون، وفي الجانب الأخلاقي غاية في الانحطاط، وفي الحياة الاجتماعية كل التفكك والانهيار، فلا أسر، ولا عائلات، ولا أنساب، وغير ذلك من الآثار السلبية لهذه الحضارة على أصحابها، والتي لا مجال لذكرها والوقوف عليها.
وإزاء هذا كله فإن مثل هذه الحضارة يجب القضاء عليها وعلى شرورها؛ لأنها لم تسبب إلا الشقاء والعنت للبشرية. فهي حضارة فاسدة، ويكفيها فساداً أنها من صنع البشر القاصرين العاجزين والخاطئين. وبما أن الحضارات تفترق ولا تتفق، وتختلف ولا تجتمع، تبعاً لاختلاف الأساس الذي تقوم عليه كل حضارة، فإن حتمية صدامها وارد لاختلاف وجهات النظر في الحياة، ثم اختلاف المعالجات، فلا بد من حضارة أخرى أن تبرز إلى الوجود؛ لتصرع هذه الحضارات وتقضي عليها، ولن تكون بإذن الله إلا الحضارة الإسلامية ذات المفاهيم الشرعية الإلهية الصحيحة التي سببت وستسبب السعادة والطمأنينة لكل من يتبعها في الدارين، ولكل من يعيش تحت ظلها في دار الدنيا فنحن لا نخفي مصطلحاتنا ومفاهيمنا الشرعية عن أحد، فكما عرفها الآخرون حين حملت إليهم في السابق حيث عرفوا معنى دار الإسلام ودار الكفر، ومعنى الإيمان والكفر، ومعنى الجهاد والفتوحات، والجزية والخراج، وأهل الذمة والتابعية، والخلافة، والطاعة والمعصية، والحدود، وتعدد الزوجات، والمحارب والمعاهد والمرتد… الخ. فدخل الناس في دين الله أفواجاً كذلك لن نخفي معنى هذه المفاهيم عن الآخرين عندما ستقوم دولة الخلافة الموعودة بإذن الله تعالى؛ ليذوقوا حلاوتها ويدخلوا في دين الله أفواجاً، بل إن العاملين لإقامة الخلافة ينشرون هذه المفاهيم قبل قيام الدولة لتسهيل المهمة وتوفير الوقت والجهد.
نسأل الله تعالى العلي القدير أن يكون ذلك اليوم قريباًq
داود عرامين-القدس-الخليل
2005-09-07